وفيها دخل ابن رائق بغداد وانهزم كورنكيج واستتر.
ذكر الخبر عن هزيمة كورنكيج واستتاره باتفاق وحرب
لمّا قرب ابن رائق من بغداد خرج كورنكيج منها وانتهى إلى عكبرا وقلّد لؤلؤ الشرطة ببغداد وخلع عليه وانتهى ابن رائق إلى كورنكيج وابتدأت الحرب واتّصلت أياما متتابعة كانت على ابن رائق.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة دخل ابن مقاتل بغداد ومعه قطعة من جيش ابن رائق. وفي ليلة الخميس لتسع بقين منه دخل ابن رائق بجميع جيشه من الجانب الغربي ونزل في النجمى وعبر في غداة غد هذا اليوم إلى دار السلطان ولقي المتقي لله وسلّم عليه واستركبه فركب معه في دجلة إلى زقّة الشمّاسية وانحدرا من وقتهما إلى دار السلطان فصعد المتقي لله إليها وعبر ابن رائق إلى النجمى.
ولمّا كان بعد الظهر من هذا اليوم وافى كورنكيج في جيشه من عكبرا على الظهر بغداد هو وأصحابه وهم في نهاية التهاون بابن رائق ومن معه وكانوا ينهرون ويقولون: « أين نزلت هذه القافلة الواردة من الشام. » ولمّا وصل كورنكيج إلى دار السلطان دفع عنها وكان فيها لؤلؤ وبدر الخرشنى فانصرف كورنكيج ونزل في الجزيرة التي بين يدي إصطبل مربط الجمال وخزانة الفرش ويعرف اليوم بدار الفيل.
فتحدّث أبو بكر ابن رائق بعد ذلك أنّه كان عمل على الانصراف والرجوع إلى الشام لمّا دخل كورنكيج بغداد وأنّه حمّل ثقله وابتدأ بالمسير.
قال: ثم قلت في نفسي أنصرف وأسلّم هذا الأمر. فلم تطب نفسي وقلت لفاتك حاجبي: استوقف الناس. فاستوقفهم فلم يقفوا حتى بادر إلى بغل من بغال النقل فعرقبه. فوقف حينئذ الناس وعبرت نحو من مائة رجل من أصحابي مع محمّد بن جعفر النقيب على الظهر إلى الجانب الشرقي وعبرت أنا في سميريّة ومعي سباشى الخادم التركي ونحو من عشرين سميريّة فيها غلمان، واتفق مجيئي مجيء أصحابي على الظهر في وقت واحد. فلمّا رشقنا الديلم بالنشاب سمعوا من ورائهم الزعقات من أصحابي ومن العامّة، فاضطربوا ونخبت قلوبهم وقدّروا أنّ الجيش قد وافاهم من خلفهم وأنّهم قد ملكوا ظهورهم فانهزموا وأخذهم الرحمة من العامّة وطرحت السُّتر عليهم وهرب كورنكيج واستتر. وقيل: ما عرف أصحابه أيّ طريق أخذوا وثبت أمرنا.
ذكر الخبر عن قتل الديلم وإمارة ابن رائق
لمّا استتر كورنكيج وتقطّع جيشه وبطل أمره ظهر أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي لابن رائق وعاد إلى خدمته. وأمر ابن رائق بقية الديلم المستأمنة بطرح أسلحتهم وأنفذ خاتمه إلى جماعة منهم كانوا تحصّنوا في حصن بالقرب من جسر النهروان فرجعوا ودخلوا الدار المعروفة بدار الفيل فكانوا نحو أربعمائة رجل لم يجسروا أن يتفرّقوا.
فلمّا كان يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجّة وجّه ابن رائق برجّالته السودان إلى دار الفيل ووضعوا السيف فيمن اجتمع هناك من الديلم فقطعوهم فلم يسلم منهم إلّا رجل يقال له: خذاكرد، وقع بين القتلى وحمل في جملة المقتولين في الجوالقات إلى دجلة ورمى به مع غمرة فعاش مدّة طويلة بعد ذلك.
وكان ابن رائق استأسر من قوّاد الديلم بضعة عشر قائدا. فوجّه بهم إلى دار فاتك حاجبه وأمره بضرب أعناقهم فضربت أعناقهم صبرا في داره.
وكان من المنهزمين من الديلم قوم مضوا في الهزيمة إلى طريق خراسان.
فلمّا تجاوزوا جسر النهروان باتوا في بعض الخانات، فسقط عليهم الخان بالليل فمات أكثرهم.
ولمّا كان يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجّة خلع المتقي لله على ابن رائق وطوّقه وسوّره بطوق وسوار مرصّعين بالجوهر وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء وألزم أبو جعفر الكرخي بيته وكانت وزارته هذه ثلاثة وخمسين يوما.
ودبّر الأمور أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي كاتب الأمير أبي بكر ابن رائق من غير تسمية بوزارة وأطلق أبو إسحاق القراريطي إلى منزله، ووجد كورنكيج فأخذ وحمل إلى دار السلطان.
ودخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة
واستوحش ابن رائق من بنى البريدي لأنّهم ما حملوا شيئا من مال واسط والبصرة. فلمّا كان يوم الثلاثاء لعشر خلون من المحرّم انحدر ابن رائق وهرب البريديون إلى البصرة وسفر بينهم الكوفي إلى أن ضمن البريدي البقايا بواسط بمائة وسبعين ألف دينار ثم بستمائة ألف دينار في كلّ سنة مستأنفة وأصعد ابن رائق إلى بغداد.
وفيها دخل العبّاس بن شقيق ومعه رأس ما كان بن كاكى الديلمي مع هدايا صاحب خراسان إلى المتقي لله من غلمان أتراك وطيب وشهابى، وشهر رأس ما كان في شذاءة وكان على الرأس خوذة وفيه سهم قد نفذ في الخوذة والرأس ومرّ من الجانب الآخر من الخوذة.
وفيها شغّب الأتراك على ابن رائق وخرجوا إلى المصلّى ومعهم توزون ونوشتكين وأخذوا في طريق التجنّى عليه ورحلوا سحر يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الآخر إلى البريدي بواسط. فلمّا وصلوا إليه قوى بهم جانبه واحتاج ابن رائق إلى مداراته.
ذكر وزارة أبي عبد الله البريدي
فكاتب أبا عبد الله البريدي بالوزارة للنصف من شهر ربيع الآخر وأنفذ إليه الخلع مع الطيب ابن سوسن، واستخلف له أبا جعفر ابن شيرزاد بالحضرة وأوصله إلى المتقي لله إلّا أنّ المدبّر للأمور كلّها أبو عبد الله الكوفي.
ووردت الأخبار بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد. فأزال ابن رائق عنه اسم الوزارة وعزله بأبي إسحاق القراريطي ولزم أبو جعفر ابن شيرزاد منزله واستتر.
وركب المتقى على الظهر ومعه ابنه أبو منصور وابن رائق والوزير أبو إسحاق القراريطي والجيش. وساروا على الظهر وبين أيديهم المصاحف المنشورة والقرّاء واستنفر العامّة لقتال البريديين. ثم انحدروا إلى داره في دجلة من باب الشماسية واجتمع خلق من العيّارين بالسكاكين المجرّدة في جميع محالّ الشرقي من بغداد. وفي يوم الجمعة لعّن بنو البريدي على المنابر في المساجد الجامعة ببغداد.
ذكر أبي الحسين البريدي في إصعاده إلى بغداد
خرج أبو الحسين من واسط مصعدا في الجيش إلى بغداد ومعه غلمان أخيه أبي عبد الله والأتراك والديلم. فلمّا قرب من بغداد استأمن كلّ من كان معه من القرامطة إلى ابن رائق واستعدّ ابن رائق للقتال وعمل على أن يتحصّن في دار السلطان فسدّ أكثر أبواب دار السلطان والثلم في سورها ونصب العرّادات والمنجنيقات على السور وعلى شاطئ دجلة في فناء الدار وطرح حول الدار الحسك والحديد واستنهض العامّة وفرض بعضهم. فصار ذلك سببا لتوزّع العصبيات بينهم واتصال الحروب وافتتن الجانب الغربي وأحرق نهر طابق ممّا يلي دار البطيح واتصلت الكبسات بالليل والنهار على قوم ذوي أموال واستقفى الناس نهارا وليلا وقتل بعضهم بعضا قتلا ظاهرا وفتح الحبس ودامت الفتنة.
وبرزت خيم السلطان إلى نهر ديالى وخرج ابن رائق إلى الحلبة والقوّاد معه. فلمّا كان يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة عبر أصحاب أبي الحسين البريدي نهر ديالى وكان لؤلؤ مقيما على شاطئ النجمى وبدر الخرشنى بالمصلّى وما زالت الحرب بين البريدي وابن رائق إلى وقت الظهر وما زالت الحرب في الماء منذ ذلك اليوم إلى يوم السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة، فاشتدّت الحرب على الظهر وفي الماء، وأوقع الديلم بالعامّة الذين فرصوا ودخل الديلم من أصحاب البريدي دار السلطان من جهة الماء وملكوا الدار فخرج المتقى وابنه منها هاربين في نحو عشرين فارسا فخرجا إلى باب الشمّاسية ولحق بهما ابن رائق وجيشه ولؤلؤ ومضوا إلى الموصل.
واستتر القراريطي الوزير فكانت مدّة وزارته أحدا وأربعين يوما.
وقتل الديلم من وجدوا في دار السلطان ونهبوها نهبا قبيحا ودخل الديلم دور الحرم. وأقام البريدي أبو الحسين في حديدية أيّاما على باب الخاصّة ووجد في دار السلطان ابن سنجلا وعليّ بن يعقوب فأطلقا. وأمّا كورنكيج فقيّده وحدره إلى أخيه أبي عبد الله فكان آخر العهد به. ووجد القاهر في محبسه فأقرّ فيه من دار السلطان.
فلمّا كان بعد أيّام صعد أبو الحسين البريدي ونزل في دار مونس وهي التي كان ينزلها ابن رائق وقلّد أبا الوفاء توزون الشرطة في الجانب الشرقي ونوشتكين الشرطة في الجانب الغربي وأخذ الديلم في النهب والسلب وكبست الدور وأخرج أهلها ونزلت ولم يزل الناس على ذلك إلى أن تقلّد توزون ونوشتكين الشرطة، فإنّ الفتنة سكنت قليلا. وأخذ أبو الحسين البريدي حرم توزون وابنيه وعيالات أكثر القوّاد والأتراك وأنفذهم إلى أخيه ليكونوا رهائن في يده.
وغلت الأسعار ببغداد وظلم البريدي الظلم المعروف لهم وافتتح الخراج في اذار فخبط التنّاء حتى تهاربوا وافتتح الجوالى وخبط أهل الذمة وأخذ الأقوياء بالضعفاء ووظف على كرّ من الحنطة سبعين درهما وعلى سائر المكيلات وعلى الزيت وقبض على نحو خمسمائة كرّ كان للتجار ورد من الكوفة وادعى أنّه للحسن بن هارون المتقلّد كان للناحية وهرب خجخج إلى المتقي لله وكان أخرج إلى برزج سابور والراذانين.
وكان توزون ونوشتكين والأتراك تحالفوا على كبس أبي الحسين البريدي فغدر نوشتكين بتوزون ونمى الخبر إلى أبي الحسين البريدي فتحرّز وأحضر الديلم داره واستظهر بهم. وقصد توزون دار أبي الحسين فحاربه من كان فيها من الديلم وغلّقت الأبواب دونه وانكشف لتوزون غدر نوشتكين فلعنه وانصرف ضحوة يوم الثلاثاء ومضى مع قطعة وافرة من الأتراك إلى الموصل واضطرب العامّة وقاتلوا البريدي.
ولمّا صار توزون وخجخج والأتراك إلى الموصل وقوى بهم ابن حمدان عمل على أن ينحدر مع المتقي لله إلى بغداد وبلغ ذلك أبا الحسين البريدي وكتب إلى أخيه يستمدّه فأمدّه بجماعة من القوّاد والديلم وأخرج أبو الحسين مضربه إلى باب الشمّاسية وأظهر أنّه يحارب ابن حمدان إن وافى. وذلك كلّه بعد أن قتل محمّد بن حمدان ابن رائق وسنشرح خبره على إثر هذا الحديث.
فلمّا قرب المتقى وأبو محمّد بن حمدان من بغداد انحدر أبو الحسين هاربا وجميع جيشه وأخذ معه من كان معتقلا في يده يطالبه مثل ابن قرابة وأبي عبد الله بن عبد الوهّاب وعليّ بن عثمان بن النفّاط ومن أشبههم.
فاضطرب العامّة ببغداد زيادة اضطراب ونهبت الدور وتسلّح الناس في الطرقات ليلا ونهارا وكانت مدّة أبي الحسين البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما.
ولمّا وصل المتقي لله وابناه ومحمّد بن رائق ومن معهم إلى تكريت وجدوا هناك وهم مصعدون إلى الموصل بعد، أبا الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان. وذاك أن ابن رائق لمّا قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبي محمّد ابن حمدان يسأله مددا ومعاونة على قتاله. فأنفذ أبو محمّد أخاه فلم يلحقهم إلّا بتكريت وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل.
فلمّا التقوا أقام عليّ بن حمدان للمتقي لله وابنه وابن رائق والقوّاد كلّ ما يحتاجون إليه من الميرة والثياب والفرش والدراهم وما قصر في أمرهم وساروا بأجمعهم إلى الموصل. فلمّا وصلوا إليها حاد عنها أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وعبر إلى الجانب الشرقي ومضى إلى نواحي معلثايا.
فما زالت الرسل تتردّد بينه وبين محمّد بن رائق إلى أن توثّق بعضهم من بعض بالأيمان والعهود والمواثيق حتى أنس أبو محمّد وعاد فنزل في الشرقي بإزاء الموصل.
ذكر الخبر عن مقتل ابن رائق
فعبر إليه الأمير أبو منصور ابن المتقي لله ومعه أبو بكر ابن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب ليسلّموا عليه. فلقيهم أجمل لقاء ونثر على الأمير أبي منصور الدنانير والدراهم. فلمّا أراد الانصراف من عنده ركب الأمير أبو منصور ثم قدّم فرس ابن رائق ليركب من داخل المضرب فأمسك أبو محمّد بن حمدان كمّه وقال له:
« تقيم اليوم عندي لنتحدّث، فإنّ بيننا ما نتجاراه. » فقال له ابن رائق:
« اليوم لا يجوز لأنّى أن أرجع مع الأمير ولكن يكون يوما آخر. » فألحّ عليه ابن حمدان إلحاحا استراب به ابن رائق فجذب كمّه من يده حتى تخرّق، وكان رجله في الركاب فشبّ به الفرس فوقع وقام ليركب فصاح أبو محمّد بغلمانه وأمرهم بالإيقاع به وقال: « ويلكم لا يفوتكم. » فوضعوا عليه السيوف وقتلوه.
وأرسل أبو محمّد ابن حمدان إلى المتقي لله أنّه وقف على أنّ ابن رائق أراد أن يغتاله ويوقع به فجرى في أمره ما جرى فردّ المتقى عليه الجواب يعرّفه أنّه الموثوق به ومن لا يشكّ فيه ويأمره بالمصير إليه فعبر ولقيه.
ذكر إمارة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان
فخلع عليه المتقى وعقد له لواء ولقّبه ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء وكنّاه، وكان ذلك مستهلّ شعبان، وخلع على أخيه عليّ وعلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وكتب إلى القراريطي بتقليده الوزارة وذلك في شوّال وجلس في داره وقلّد وعزل وأمر ونهى وضبط الأمر إلى أن وافى المتقى وناصر الدولة أبو محمّد.
خبر محاربة البريدي مع ابن حمدان
دخل المتّقى بغداد مع ناصر الدولة أبي محمّد وأخيه عليّ وجميع الجيوش وعملت لهم العامّة القباب ونزل ناصر الدولة وأخوه في البستان الشفيعى. ولقي الوزير القراريطي المتقي لله وناصر الدولة. وتقلّد أبو الوفاء توزون الشرطة في جانبي بغداد وخلع المتقى على الوزير أبي إسحاق القراريطي خلع الوزارة يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة وفي يوم الخميس خلع المتقي لله على ناصر الدولة وأخيه وطوّقا وسوّرا بطوقين طوقين وأربعة أسورة ذهبا وعلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وطوّق بطوق واحد وسوارين ذهبا.
وورد الخبر بأنّ أبا الحسين عليّ بن محمّد البريدي قد أصعد من واسط يريد الحضرة. فاضطرب الناس ببغداد وعبر المتقى إلى الزبيدية ليكون مع ناصر الدولة وقدّم حرمه إلى سرّ من رأى وهرب جماعة من وجوه أهل بغداد وعبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي منها وسار أبو الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان في الجيش وكان مع أبي الحسين البريدي لمّا أصعد من واسط أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو بكر ابن قرابة والديلم وجيش عظيم.
فكانت الوقعة بين أبي الحسن عليّ بن حمدان وبين البريدي يوم الثلاثاء انسلاخ ذي القعدة ويوم الأربعاء مستهلّ ذي الحجّة ويوم الخميس ويوم الجمعة لثلاث وأربع خلون من ذي الحجّة في القرية المعروفة بكيل أسفل المدائن بفرسخين ومع ابن حمدان توزون وخجخج والأتراك. فكانت أولا على عليّ بن عبد الله بن حمدان وانهزم أصحابه فردّهم ناصر الدولة وكان ناصر الدولة بالمدائن. ثم صارت على أبي الحسين البريدي. فانهزم واستؤسر من أصحابه يانس غلام البريدي أبي عبد الله وأبو الفتح ابن أبي طاهر ومحمّد بن عبد الصمد ومذكر البريدي والفرج كاتب جيش البريدي واستأمن إلى ابن حمدان محمّد بن ينال الترجمان وإبراهيم بن أحمد الخراساني وحصل له جمع الديلم الذين كانوا في عسكر البريدي وقتل جماعة من قوّاد البريدي وعاد البريدي إلى واسط مهزوما مفلولا ولم يبق في عليّ ابن حمدان وأصحابه فضل لأتباعه لعظم ما مرّ بهم ولكثرة الجراح فيهم.
ولسبع خلون من ذي الحجّة عاد المتقي لله من الزبيدية إلى دار الخلافة على ثلاث ساعات ونصف وعاد الحرم من سر من رأى ومن كان هرب إليها من بغداد.
ودخل ناصر الدولة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة بغداد وبين يديه يانس غلام البريدي وأبو الفتح بن أبي طاهر والمذكر البريدي مشهرين على جمال وعلى رؤوسهم برانس وكتب عن المتقى كتاب الفتح إلى الدنيا ولقّب المتقي لله أبا الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان لما فتح هذا الفتح: سيف الدولة، وأنفذ إليه خلعا وكتب فيه كتابا. وانحدر سيف الدولة إلى واسط فوجد البريديين قد انحدروا منها إلى البصرة وأقام بها ومعه الأتراك والديلم وسائر الجيش.
ذكر حيلة ابن مقاتل على ناصر الدولة
وراسل أبو بكر محمّد بن عليّ بن مقاتل ناصر الدولة على يد أبي زكريّا السوسي، فأخذ له أمانا من ناصر الدولة واشترط فيه ابن مقاتل أنّه إن استقرّ بينه وبين ناصر الدولة مصادرة ينهض بها ويطيب نفسه لها أقام على ظهوره. وإن لم يستقرّ عاد إلى استتاره. فلمّا ظهر تباعد ما بينهما. فقال له ناصر الدولة:
« عد إلى استتارك. » فقال ابن مقاتل:
« لم أحدّ لذلك حدا، فإذا شئت فعلت. » فضجّ ناصر الدولة من ذلك لأنّه مضطرّ إلى الوفاء بعهده وعلم أنّ الحيلة قد تمّت عليه. فاضطرّ إلى أن فصل أمره على مائة وثلاثين ألف دينار.
ونظر ناصر الدولة في أمر النقد والعيار فأمر بتصفية العين والورق وضرب دنانير سمّاها: الإبريزيّة، من أجود عيار وكتب في ذلك كتابا.
وفي هذه السنة استولى الديلم على أذربيجان
ذكر السبب في ذلك
إنّ ديسم بن إبراهيم لمّا تمكن من أذربيجان - وقد كتبنا خبره فيما تقدّم - كان معظم جيشه الأكراد إلّا طائفة يسيرة من بقية عسكر وشمكير اختاروا المقام معه حين ردّ عسكر وشمكير إليه. فتبسّط عليه الأكراد وزاد أمرهم في الإدلال والتحكّم إلى أن صاروا يتغلّبون على حدود أعماله فنظر في أمره فلم يجد من يستظهر عليهم بهم إلّا الديلم، فاجتذب جماعة من أكابرهم منهم صعلوك بن محمّد بن مسافر وأسفار بن سياكولى وجماعة من أمثالهم وصار إليه جماعة من الموصل وفيهم رجل كان من قوّاد بجكم فنفاه بجكم من عسكره لشيء أنكره منه يقال له: عليّ بن الفضل الصولي، فأفضل عليه ديسم وموّله وعظّم محلّه فاجتذب الديلم إليه. فلمّا قويت شوكة ديسم بهم انتزع من يد الأكراد ما كانوا تغلّبوا عليه وقبض على جماعة من رؤسائهم وازداد من عدّة الديلم واستظهر بهم.
وكان يتولّى وزارته أبو القاسم عليّ بن جعفر وكان من كتّاب أذربيجان وكثرت سعاية أعدائه به. فأخافه ديسم وأوحشه حتى هرب منه إلى الطرم ليعتصم بمحمّد بن مسافر فوافق وصوله إليه الوقت الذي استوحش فيه ابناه منه: وهسوذان والمرزبان، وملكا عليه قلعته المعروفة بسميران وكان السبب في وحشتهما قبح سيرته وسوء معاملته لأهل بيته وقبضه عليهم لغير ذنب كبير وذلك لشرّ كان في طبعه. وكان استوحش منه وهسوذان فصار إلى أخيه المرزبان وكان في قلعة من قلاع أبيه بالطرم فعلم محمّد بن مسافر أنّه لا يتمكن من القبض عليه إلّا بعد أن يفرّق بينه وبين أخيه فكتب إلى المرزبان يستدعيه فقال وهسوذان له:
« انى لا أقيم في القلعة بعدك. » وأعلمه أنّه إن فارقه تمكّن منه وقبض عليه فقال له المرزبان:
« فاخرج معي. » فلمّا صاروا في بعض الطريق ظفرا برسول لأبيهما كان أنفذه سرّا إلى المقيمين في القلعة يأمرهم إذا خرج المرزبان أن يقبضوا على وهسوذان والاحتياط عليه وعلى القلعة. فعجبا من ذلك وجمعهما الاستيحاش من أبيهما، فوصلا إلى قلعة أبيهما وقد خرج أبوهما إلى قلعة أخرى، فعرّفا أمّهما خراسوية ما كتب أبو هما فيهما وكانت أمهما هذه جزلة فساعدتهما على القلعة وفيها ذخائر محمّد بن مسافر وأمواله فاستوليا عليها وتمكّنا منها. فلمّا عرف محمّد بن مسافر ذلك تحيّر في أمره وحصل في القلعة التي كان قصدها وحيدا قد فرّق بينه وبين نعمته.
فلمّا وصل عليّ بن جعفر كاتب ديسم إلى هذه الصورة اعتصم بالمرزبان وأطمعه في أذربيجان فضمن له أن يملكه إيّاها فيوصله إلى أموال جليلة من ارتفاعها من وجوه يعرفها. فنفق عليه وقرب من قلبه وقلّده وزارته واتّفقا مع ذلك على عصمة في الدين. وذاك أنّ عليّ بن جعفر كان من دعاة الباطنية وكان المرزبان معهودا فيهم فأذن له المرزبان أن يدعو إلى هذا المذهب ظاهرا. فاجتمع له كل ما أراده.
وكاتب عسكر ديسم وكان يعرف من استوحش من ديسم ومن هو غير راض عنه ومن لا يرضى مذهب ديسم لأنّ ديسما كان يرى رأى الشراة وكذلك كان أبوه وكان يصحب هارون الشاري أعنى أباه. فلمّا قتل هرب إلى أذربيجان وتزوّج إلى رئيس من أكرادها فولد ديسم فاصطنعه ابن أبي الساج وارتقى معه إلى ما ارتقى إليه.
ولم يزل عليّ بن جعفر يضعضع أركانه ويفسد قلوب أصحابه وخاصة الديلم إلى أن استجاب له أكثر أصحابه وكاتبوه وقالوا:
« إن صار إلينا المرزبان فارقنا ديسما بأجمعنا. » فلمّا وثق المرزبان بذلك من ثبات أصحاب ديسم سار إلى أذربيجان وسار إليه ديسم. فلمّا صافّه الحرب قلب الديلم تراسهم في وجهه وصاروا إلى المرزبان وكانوا نحو ألفى رجل واستأمن معهم كثير من الأكراد وحمل عليه المرزبان ففرّق عنه من بقي معه وانهزموا وهرب في طائفة يسيرة إلى أرمينية واعتصم بجاجيق بن الديراني لمودّة كانت بينهما، فأحسن ضيافته وحمل إليه ما يحمل إلى مثله. فاستأنف ديسم يألف الأكراد وعرف خطأه في الاستكثار من الديلم وكان أشار عليه بعض النصحاء الفضلاء أن لا يرتبط من الديلم أكثر من خمسمائة رجل فعصاه.
وملك المرزبان أذربيجان وجرى أمره على سداد بتدبير كاتبه عليّ بن جعفر إلى أن أفسد ما بينه وبينه.
ذكر السبب في ذلك
كان له كاتب يعرف بأبي سعيد عيسى بن موسى ويعرف بعيسكويه، فسعى عليه وأطمع المرزبان في ماله، وكان عليّ بن جعفر قد أوحش جماعة من حاشية المرزبان فتضافروا عليه وعارضوه في تدبيره وأحس عليّ بن جعفر بذلك فاحتال على المرزبان بأن أطمعه في أموال عظيمة يثيرها له من بلد تبريز - وتبريز هذه مدينة جليلة وعليها سور حصين وحواليها غياض وأشجار مثمرة وهي حصينة وأهلها ذو بأس ونجدة ويسار - فضمّ إليه المرزبان جستان بن شرمزن ومحمّد بن إبراهيم ودلير بن أورسفناه والحاجب الحسن بن محمّد المهلبي في جماعة من ثقاته فسار عليّ بن جعفر إلى تبريز.
فلمّا تمكّن بها استمال أهل البلد وكتب إلى ديسم يتلافاه ويستدعيه ويعده من نفسه أن يقتل الديلم ويوازره حتى يعود إلى مملكته. فأجابه ديسم بأنّه لا يثق به إلّا بعد أن يوقع بالديلم فواطأ أهل البلد على الإيقاع بهم وأعلمهم أنه إنّما حضر لطمع المرزبان فيهم وأنّ الديلم لا يساعدونه على صلاح أمرهم وهم لا يرضون إلّا باستئصالهم. فواطأه أهل البلد على الوثوب بهم في يوم ذكره وأحضر القوّاد المذكورين في ذلك اليوم فقبض في داره عليهم وقتل الديلم فصار إلى ديسم في العسكر الذي اجتمع له.
وكان المرزبان أساء إلى الأكراد الذين استأمنوا إليه. فوافق ذلك ظهور ديسم بتبريز فصاروا بأجمعهم إليه واتصل بالمرزبان ما جرى على الديلم فندم على إيحاش عليّ بن جعفر واستماع كلام أعدائه فيه، واستوزر أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن محمود وخلع عليه ولقّبه: المختار.
ثم استعدّ وسار إلى تبريز وقد سبقه ديسم فجرت بينهما حروب وثبت الديلم وانهزم الأكراد. فعاد ديسم إلى تبريز متحصنا بها وحامى أهلها عليه وذلك لما سبق من فعلهم بالديلم، وحاصرهم المرزبان وابتدأ في استصلاح عليّ بن جعفر ومراسلته وإعطائه عهد الله وميثاقه والعصمة التي بينهما من الدين على أن يعود له. فأجابه عليّ بن جعفر بأنّه لا يريد من جميع ما بذله له إلّا السلامة وأنّه ما فارق ديسما حين فارقه إلّا هربا من المكروه ولا فارقه الآن وعاد إليه إلّا هربا من مثل ذلك وأنّ الذي يلتمسه منه أن يعفيه من العمل ويصونه في نفسه وحاله ليلزم منزله ويروح ويغدو إليه. فأجابه إلى ذلك وسفر بينهما من الثقات الذين يجمعهم الدين من وثق له بجميع ما أراد فسكن إليه.
واشتدّ الحصار على ديسم فثلم ثلمة في سور المدينة ليلا وخرج منها هو وأصحابه إلى أردبيل ولم يجسر المرزبان على اتّباعه في الوقت، خوفا من أن يعطف عليه في صعاليكه ويخرج من ورائه أهل تبريز. فتأخّر عنه وخرج إليه عليّ بن جعفر فوفى له وأقام أهل تبريز على ممانعته.
ذكر ما آل إليه أمر ديسم بعد حصوله بأردبيل
لمّا عرف المرزبان حصول ديسم بأردبيل خلف على تبريز بعض جيشه وصار في معظم العسكر إليه واستدعى أخاه وهسوذان إليه في جماعة من أطاعه وجدّ في محاصرة ديسم. وكان ديسم استوزر بعد مفارقة عليّ بن جعفر أبا عبد الله محمّد بن أحمد النعيمي، فراسله المرزبان وتلطّف له ووعده أن يستوزره، فاستجاب له وآثره على ديسم وواطأه على التدبير عليه.
ذكر حيلة النعيمي على ديسم حتى فارق الحصار وخرج إلى المرزبان
أخذ النعيمي في المشورة على ديسم بأن ينفذ إلى المرزبان وجوه أردبيل ليسألوه الصلح ويعاهدوه ويستوثقوا منه بالأيمان المؤكدة على أن يؤمنه ليدخل في طاعته وخوّفه من طول الحصار واستيحاش أهل البلد وأنّهم سيواطئون المرزبان ويسلمونه بأن يفتحوا له الباب وأعلمه أنه قد وقف من ذلك على أمر سيظهر له إن لم يبادر بالصلح. ونظر ديسم في أمره فوجد الصورة قريبة ممّا خوّفه منه وذلك أنّ الحصار كان قد اشتدّ وانقطعت الميرة عنه وعن جنده وعن أهل البلد فالجميع في شدة والدمدمة كثيرة والناس مستوحشون وعلى يأس من الصلاح وخوف من زيادة المكروه.
وأنفذ ديسم إليه وجوه البلد وأعيانهم ومذكوريهم ليتوثقوا له نهاية التوثيق.
وراسل أبو عبد الله النعيمي المرزبان بأن يحتبس هؤلاء الوجوه ولا يردّهم إلى البلد إلّا بعد خروج ديسم إليه، لئلا يتغيّر الأمر أو يحدث ما ينقض رأيه ولأنّ أهل البلد إذا حبس عنهم وجوههم ورؤساؤهم اجتمعوا عليه ولم يمهلوه، وعرّفوه أنّه قد أمن على نفسه بالأيمان التي سألها وسكن إلى ما بذل له وليس لتأخره عن الخروج وجه ويشيّد هو أيضا كلامهم ويؤيّده ولا يقنع منه إلّا بالخروج إليه في أسرع وقت وأقربه.
ففعل المرزبان ذلك واضطرب أهل البلد على ديسم لحصول رؤسائهم في يد المرزبان فخرج إليه. فلما أتاه خبره تلقّاه وأكرمه وأعظمه ووفى له بكل ما واقفه عليه وقلّد أبا عبد الله النعيمي وزارته وقبض على ابن محمود وسلّمه إليه فصادره وجميع أصحابه وصادر وجوه البلد واستخرج أموالا عظيمة. واستقامت أمور المرزبان وخطب له على جميع منابر أذربيجان.
حث على الإعتبار بما كان
فليعتبر الناظر في هذا الكتاب هل أوتى هؤلاء الملوك إلّا من سوء تحفّظهم واشتغالهم عن ضبط أمورهم وتفقّدها بلذّاتهم وشهواتهم، وإغفالهم أمر أصحاب الأخبار وتركهم تعرّف نيات وزرائهم وقوّادهم وأمور عساكرهم، وتعويلهم على الاتّفاقات والدول التي لا يوثق بها، وقلّة تصفّحهم أحوال الملوك قبلهم ممّن استقامت أمورهم كيف كانت
سيرتهم وكيف ضبطوا ممالكهم ونيّات أصحابهم بضروب الضبط: أولا بالدين الذي يحفظ نظامهم ويملك سرائهم ثم بأصحاب الأخبار الثقات والعيون المذكاة على مدبّرى أمورهم والتفقّد لهم يوما يوما وحالا فحالا، وترك إيحاشهم ما أمكن، ومداراة من تجب مداراته، والبطش بمن لا حيلة في استصلاحه ولا دواء لسريرته. وقد كان حصفاء الملوك يخرجون من خزائنهم الأموال العظيمة جدا إلى أصحاب الأخبار ولا يستكثرونها في جنب ما ينتفعون به من جهاتهم.
فأما ما انتهى إليه أمر ديسم فإنّه خاف بعد ذلك على نفسه وسأل المرزبان أن يخرجه إلى قلعته بالطرم ليقيم فيها مع أهله ويقبض على ارتفاع ضياعه وهو ثلاثون ألف دينار في السنة وهو دون ما كان يبذله المرزبان له ويتكلّفه من مؤونته. فأجابه إلى ذلك وحصل في القلعة مصونا في أهله ونفسه وضياعه.
ودخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة
وفيها وافى الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى عسكر أبي جعفر بإزاء البصرة وأظهر أنّ السلطان كاتبه في حرب البريدي. فأقام مدّة يحاربهم ثم استأمن جماعة من قوّاده إلى البريديين مثل روستاباش وغيره. فاستوحش من المقام وعاد إلى الأهواز بعد أن استأمن إليه جماعة من عسكر البريدي.
وفيها زوّج ناصر الدولة ابنته من الأمير أبي منصور ابن المتّقى ووقّع الأملاك والخطبة بحضرة المتقى ولم يحضر ناصر الدولة وجعل العقد إلى أبي عبد الله محمّد بن أبي موسى الهاشمي. وكان الخاطب القاضي الخرقى فلحن في مواضع وجعل الصداق والنحلة واحدا وجعلها صداقا وكان الصداق خمسمائة ألف درهم والنحلة مائة ألف دينار ولم يحسن أن يعقد التزويج فعقده ابن أبي موسى.
القبض على القراريطي وجعل اسم الوزارة على أبي العباس الإصفهاني
وفي رجب من هذه السنة عبر الوزير أبو إسحاق القراريطي إلى ناصر الدولة على رسمه، فقبض عليه وعلى جماعة معه. فكانت مدّة وزارته ثمانية أشهر وستة عشر يوما وجعل اسم الوزارة على أبي العباس أحمد بن عبد الله الإصفهاني وخلع عليه المتقى خلع الوزارة في دار السلطان لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب وانصرف بها إلى دار الأمير ناصر الدولة.
فكان يلبس القباء والسيف والمنطقة في أيام المواكب والمدبر للأمور أبو عبد الله الكوفي وصودر القراريطي والكتّاب والمتصرّفون.
استيفاء عدد الأيدى والأرجل المقطوعة
وكان ناصر الدولة ينظر في قصص أصحاب الجنايات من العامّة وفيما ينظر فيه صاحب الشرطة وتقام الحدود الواجبة عليهم من ضرب وقطع يد ورجل بحضرته وتعرض عليه الأيدى والأرجل إذا قطعت وتعد بحضرته ويستوفى العدد عليهم لئلا يرتفق أصحاب الشرطة من الجناة ويطلقوا من غير علمه.
ذكر ما آل إليه أمر سيف الدولة بواسط مع الأتراك وما اتصل بذلك من خبر ناصر الدولة ببغداد
كان سيف الدولة أبو الحسن مقيما بواسط مفكرا في أن يسير بالجيش والأتراك إلى البصرة ليفتحها. وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال ويضايق الأتراك خاصة وكان توزون وخجخج يسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط ويتحكّمان عليه حتى ضاق ذرعا بهما.
وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفي إلى سيف الدولة أخيه ومعه ألفي ألف درهم وخمسين ألف دينار لينفق في الأتراك. فوثب توزون وخجخج به بحضرة سيف الدولة وأسمعاه مكروها. فضمّه سيف الدولة إلى نفسه ثم ستره في بيت وقال لهما:
« أما تستحيان مني فتجاملانى في كاتبي. » ثم واقف سيف الدولة كاتب خجخج أن يسير خجخج إلى المذار ويسوّغه ارتفاعها إذا حماها وواقف أبا عليّ المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامدة ويوهب له ارتفاعها وعليه حمايتها. وانتظم هذا التدبير وعاد الكوفي إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة ورهب أن يعود إلى منزله وعبر خجخج إلى غربي واسط للمسير واستعدّ توزون أيضا للمسير إلى الجامدة.
فوافى أبو عمرو المسيحي وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هاربا من ناصر الدولة إلى أخيه أبي عليّ المسيحي وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطه إليه يقول فيه:
« قد اتّصل طمعك فيّ وانبساطك عليّ وأنا محتمل وأنت مغترّ. وبلغني إدخالك يدك في وقف فلان. وو الله لئن لم تخلّصها وتقصر عن فعلك المذموم لأقطعنّ يديك ورجليك. » فزعم أبو عمرو المسيحي أنّه قرأه وانحدر وذكر أنه قال له قبل ذلك بأيام:
« يا مسيحيّ، أنت مجتهد في أن تجعل توزون أميرا وعلى رأسك تحثو التراب. إن بلغ ما تؤمّله له لم يرضك كاتبا لنفسه وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهه فاستكتبه وأنف منك فصادرك. » فتلافى سيف الدولة أبا عمرو المسيحي وواراه وراسل توزون وسكّنه. وكان سيف الدولة كثيرا يزهّد الأتراك في العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر ويضرّب بينهم وبين أخيه فكانوا يصدقونه في أخيه ويأتون عليه في البعد من العراق وكانوا يستحبّون على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم وينصّون على أن يوفيهم يوم الستين من أيامهم استحقاقهم ويستصغرونه وأخاه.
فلمّا وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له:
« نحتاج أن تحمل مال قائد قائد ورجاله وتوفّينا ذلك بالقبّان وزنة واحدة مالا مالا. » فأجاب إلى ذلك قطعا للحجّة، وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار فصبر على ذلك كلّه وأذن فيه.
وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفي ليلا وضمّ إليه ابن عمّه أبا وليد في جماعة من العرب وأصعد معه بنفسه إشفاقا عليه ثم وصّى العرب حتى بلغوا به المدائن. فلمّا كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان كبس الأتراك سيف الدولة بالليل وهرب من معسكره ولزم نهرا بقرب معسكره، فأدّاه إلى قرية تعرف ببرقة ولزم البريّة حتى وافى بغداد. وأضرم الأتراك النار في عسكره وقد كان بقي من المال المحمول إليه مع الكوفي من عند أخيه شيء لم يفرّق فيهم فنهبوه ونهب جميع سواده فهذا خبر سيف الدولة بواسط.
خبر ناصر الدولة ببغداد
فأمّا خبر ناصر الدولة ببغداد فإنّ أبا عبد الله الكوفي وصل إلى بغداد ولقي ناصر الدولة ووصف له الصورة فبرز ناصر الدولة إلى باب الشمّاسية وركب إليه المتقي لله في دجلة يسأله التوقّف عن الخروج من بغداد فعبّر ناصر الدولة غلمانه إلى الجانب الشرقي من بغداد وأكثر جيشه ليوهم الأتراك أنه يعبر ويسير في الجانب الشرقي.
فلمّا حصل جيشه في الجانب الشرقي قطع الجسر وسار ناصر الدولة في الجانب الغربي فنهبت داره، وأفلت يانس غلام البريدي وأبو الفتح ابن أبي طاهر من الحبس وعادا إلى البصرة، واستتر أبو عبد الله الكوفي، وخرج من بقي من الديلم ببغداد إلى المصلّى وعسكروا هناك، وضبط الأتراك الذين كانوا ببغداد دار السلطان، ورحل الديلم من المصلّى ودبّر الأمور بالحضرة أبو إسحاق القراريطي من غير تسمية بوزارة، وانعقدت الرئاسة بواسط لتوزون.
فكانت مدّة إمارة ناصر الدولة أبي محمّد ابن حمدان ثلاثة عشر شهرا وثلاثة أيام.
ذكر ما جرى من أمر توزون بواسط مع الأتراك بعد هزيمة سيف الدولة حتى تمت له الإمارة
لمّا انصرف سيف الدولة من واسط على تلك الصورة وعاد توزون وخجخج إلى معسكرهما وقع الخلاف بينهما وتنازعا الرئاسة ثم استقرّت الحال على أن يكون توزون الأمير وجيء بالآس والريحان إليه على رسم العجم إذا ترأّس واحد منهم، وعلى أن يكون خجخج صاحب جيش وهو الاسفهسالار، وأمضى القوّاد ذلك عليهما بغير رضى جماعة. ثم صاهر القوّاد بينهما وطمع البريدي بواسط فأصعد إليها وتقدّم توزون إلى خجخج أن ينحدر إلى نهر أبان ويراعى من يرد من أصحاب البريدي ويطالعه فنفذ.
ووافى عيسى بن نصر برسالة البريدي إلى توزون يهنّئه بالإمارة ويسأله أن يضمّنه أعمال واسط ويعرّفه عنه أنّ الرأي تعجّله إلى الحضرة لإخراج ابن حمدان عنها. فأجابه جوابا جميلا وامتنع من التضمين وقال:
« إذا استقرّت الأمور تخاطبنا في الضمان فأمّا وأنا بصورتي هذه وأنت تظنّ انى مطلوب خائف من بنى حمدان فلا وعسكري عسكر بجكم الذي قد جرّبت وخبرت وطائفة منهم تفي لك. » وانصرف عيسى بن نصر وأتبعه توزون جاسوسا.
ذكر سبب قبض توزون على خجخج وسملة إياه
فعاد إليه الجاسوس وأعلمه أنّه اجتمع مع خجخج وتخاليا طويلا وأنّ خجخج على الاستئمان إلى البريدي. فسار إليه توزون للثاني عشر من رمضان ومعه مائة غلام من الأتراك ومائة من الخاصة واشكورج وجماعة من الكبار وكبسه في فراشه. فلمّا أحسّ به ركب دابة النوبة بقميصه وفي يده لتّ ودفع عن نفسه سويعة ثم أخذوه وجاءوا به إلى واسط وسملة توزون وهدأت نار خجخج.
وسعى أبو الحسين عليّ بن محمّد بن مقلة في الوزارة وراسل المتقي لله واستصلح قبل ذلك الترجمان وضمن له مالا فبعث المتقى إليه:
« إني راغب فيك مائل إليك محبّ لتقليدك، ولكن ليس يجوز أن أبتدئ بذكرك فأصلح أمرك مع الترجمان وقل له يسمّيك مع جماعة فإني أختارك من بينهم. » ففعل ذلك ولقي المتقي لله وقلّده وزارته وانصرف إلى منزله.
وورد الخبر بنزول سيف الدولة المورفه
ذكر الخبر عن مصير سيف الدولة إلى بغداد بعد هزيمته وما انتهت إليه حالته
لمّا بلغ سيف الدولة خلاف توزون وخجخج بواسط طمع في بغداد فوافى المورفة وظهر المستترون من أصحابه من الجند وخرجوا إليه. وانحدر أبو عمرو المسيحي كاتب توزون إلى واسط مستترا هاربا إلى صاحبه وانحدر أيضا الترجمان. وأرجف الناس بانحدار المتقى واضطرب الناس وأصبحوا على خوف شديد، فأمر المتقي لله بالنداء ببراءة الذمة ممّن أرجف بانحداره.
وجاء سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب، فنزل في المضارب وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم في البرّية، وخرج إليه أصحابه ومن يريد الإثبات وجرت بينه وبين المتقي لله رسائل على يد أبي زكرياء السوسي وطالب بأن يحمل إليه مال، ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة. فحمل إليه المتقى أربعمائة ألف درهم في دفعات وانضمّ إليه كلّ من بقي بالحضرة من القوّاد وما زال يقول في مجلسه: « ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا في الليل ونحن نيام وإلّا فليحضر نهارا ونحن مستيقظون. » ونحو هذا من الكلام.
وخلع المتقي لله على الوزير أبي الحسين بن مقلة يوم السبت لاثنى عشر بقيت من شهر رمضان.
ولمّا بلغ توزون وصول سيف الدولة الى بغداد خلّف بواسط كيغلغ في ثلاثمائة غلام وأصعد مبادرا من واسط إلى بغداد. ولمّا اتصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع من انضمّ إليه من قوّاد الحضرة وفيهم أبو عليّ الحسن بن هارون. ومضى على وجهه.
ودخل محمّد بن ينال الترجمان آذنا لتوزون إلى بغداد لستّ بقين من شهر رمضان ودخل توزون من الغد ونزل دار مونس واغتنم البريدي بعد توزون من واسط، فوافاها لثلاث بقين من شهر رمضان، فنهب وأحرق واحتوى على الغلات وأخذ جميعها وقبض توزون على أبي عمرو المسيحي كاتبه وقلّد كتابته أبا جعفر الكرخي وسلّم أبو إسحاق القراريطي إلى الوزير أبي الحسين ابن مقلة فصادره.
ذكر الخبر عن تقليد توزون إمرة الأمراء
لمّا حصل توزون ببغداد خلع المتقى عليه وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء. وصار أبو جعفر الكرخي كاتب توزون ينظر في الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها. فأمّا الكوفي فإنّه لحق بسيف الدولة وهرب معه فكان مدّة نظر الوزير أبي الحسين ابن مقلة في الأمور إلى أن ينظر فيها أبو جعفر الكرخي نحو شهر.
وقد كان كيغلغ لمّا استخلفه توزون بواسط أمره بقتال أبي الحسين البريدي فعجز عنه، فأصعد إلى بغداد ولم يمكن توزون المبادرة بالرجوع إلى واسط إلى أن تستقرّ الأمور بالحضرة، وتدبير جميع ما يحتاج إليه. فأقام مدّة شوّال وأكثر ذي القعدة إلى أن توطّأت الأمور واستقامت.
وكان وقت هزيمة سيف الدولة من واسط أسر غلاما له يقال له: ثمل، عزيزا على سيف الدولة فأطلقه ووهبه لسيف الدولة وأكرمه وأنفذه إليه في هذا الوقت لما حصل ببغداد، فحسن موقع ذلك منه ومن ناصر الدولة حتى قال بالموصل:
« توزون صنيعتي وقد قلّدته الحضرة واستخلفته بها ».
فسكنت نفس توزون إلى ذلك، وكان مغيظا على البريدي لقبح ما عامله به.
فانحدر توزون إلى واسط وخلّف الترجمان ببغداد وتقدّم إلى أبي جعفر الكرخي أن يلحق به، وضمّن ضياعه أبا الحسين ابن مقلة برغبة منه إليه بمائة وثلاثين ألف دينار في السنة.
ووافى في هذا الوقت أبو جعفر بن شيرزاد إلى توزون هاربا من البريدي فتلقّاه توزون في دجلة وسرّ به وقال له:
« يا أبا جعفر كملت إمارتى بك وتمّت النعمة عندي لأجلك. أنت أبي وهذا خاتمي - فنزعه من يده وأعطاه إليه - فدبّرنى وصرّفنى على رأيك. » فقبّل أبو جعفر يده وسأله أن يمهله، فلم يجبه. وكان أبو الحسن الأسمر واقفا وجماعة فقال الأسمر:
« بالله يا سيدي، أجب الأمير وتصدّق بصدقة وانظر في أمره. » ففعل ونظر في أمره وأنفذ طازاد ابن عيسى آخر ذلك اليوم إلى الحضرة لخلافته.
فكان مدّة كتابة أبي جعفر الكرخي ونظره نيّفا وعشرين يوما.
ذكر سبب مفارقة ابن شيرزاد البريدي والاتفاق الغريب له في ذلك
كان يوسف بن وجيه صاحب عمان وافى في ذي الحجّة في مراكب وشذاءات يريد البصرة فيحارب بنى البريدي وكان معه من يحارب بقوارير النار فأحرق شذاءاتهم وزبازبهم. فملك الأبلّة وضغطهم. فهرب في تلك الوهلة أبو جعفر ابن شيرزاد ومعه طازاد وغيره.
فأما سبب هزيمة يوسف بن وجيه بعد تمكّنه فسنذكره.
ذكر حيلة تمت على يوسف بن وجيه
كان قد استظهر استظهارا شديدا وقارب أن يملك البصرة وكان مع البريدي ملّاح يعرف بالزيادى. فلمّا ضغط يوسف بن وجيه البريديين وأشرفوا على الهلاك قال هذا الملّاح:
« إن أنا هزمت العدوّ وأحرقت مراكبه ما تصنع بي؟ » فوعده الإحسان إليه إن فعل ذلك.
ولم يعرّفه الملّاح ما يريد أن يعمل وكتم أمره ومضى. فأخذ بالنهار زورقين وليس يعلم أحد لما ذا يريدهما ولم يأخذ معه أحدا من أسباب البريدي ومضى فملأ الزورقين سعفا - ومثل هذا لا ينكر بالبصرة - وحدرهما في أوّل الليل - ومثل ذلك بالبصرة كثير لا يستراب به - وكان رسم مراكب ابن وجيه أن تشدّ بعضها إلى بعض بالليل في عرض دجلة فيصير كالجسر.
فلمّا كان في الليل ونام الناس وكلّ من في المراكب، أشعل ذلك الملّاح السعف وأرسل الزورقين والنار فيهما، فوقعا على تلك المراكب والشذاءات فاشتعلت واحترقت قلوسها وتقطّعت واحترق من فيها ونهب الناس منها مالا عظيما. وانقلع يوسف ابن وجيه ومضى هاربا على وجهه، وانكشف وجه البريدي ووفى للملّاح بما وعد له.
وفيها استوحش المتقى من توزون.
ذكر السبب في الوحشة بين توزون والمتقى وما آل إليه الأمر
كان الترجمان قد نفر من توزون لشيء بلغه عنه وكان أبو الحسين ابن مقلة خائفا من توزون لأنه خسر في مال ضمانه وأشفق أن يطالبه به ويهلكه وزاد في نفوره. وتقلّد أبي جعفر ابن شيرزاد كتبة توزون وما شكّ أحد أنّ أبا جعفر ابن شيرزاد وافى عن موافقة البريدي فطارت نفس ابن مقلة خوفا من ابن شيرزاد وأن يطالبه بمال ضمانه واقطاع توزون وخاف الترجمان وغيره وساءت الظنون وغلب القنوط على الكافّة من أهل الحضرة. فوقع التدبير بين أبي الحسين ابن مقلة وبين الترجمان على مكاتبة ناصر الدولة في إنفاذ من يشيّع المتقى ويخرجه إليه.
وقيل للمتقى:
« ثبتّ للبريدى بالأمس فجرى ما ندمت عليه وأخذ منك خمسمائة ألف دينار وخرجت إلى ناصر الدولة في دفعته الثانية فأظفرك الله وعدت موفورا وقد ضمنك بخمسمائة ألف دينار أخرى. » وقال لتوزون:
« هي باقية في يدك من تركة بجكم وهذا ابن شيرزاد وارد لتسليمك بعد خلعك. » فانزعج واعتبر بما مضى على مستأنف أمره. وأصعد بعد ذلك أبو جعفر ابن شيرزاد إلى الحضرة في ثلاثمائة غلام.
موت نصر بخراسان وانتصاب نوح ابنه
وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد بخراسان وانتصاب نوح ابنه مكانه.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
موافاة ابن شيرزاد بغداد
ووافى أبو جعفر ابن شيرزاد لخمس بقين من المحرّم فدخل بغداد. فلم يشكّ المتقي لله والجماعة في أنّه إنما وافى لما أرجف به. ولقي المتقي لله في اليوم الذي وصل إلى بغداد فيه وحمل الوزير أبو الحسين والترجمان المتقي لله على القبض عليه فلم يفعل. وبادر أبو جعفر بالانصراف وأمر ونهى وأطلق القراريطي من الاعتقال ونظر فيما كان ينظر فيه الوزير.
ووافى أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فنزل باب حرب في جيش كثير فخرج إليه المتقي لله وحرمه والوزير وأبو الحسين ابن مقلة والترجمان واستتر ابن شيرزاد وخرج وجوه أهل الحضرة وكتّابها فلمّا بلغ المتقى تكريت ظهر ابن شيرزاد وطالب الناس وخبطهم.
اشتباك الحرب بين سيف الدولة وتوزون
وانحدر سيف الدولة من الموصل ومعه الجيش وبلغ توزون وهو بواسط ما جرى بالحضرة من خروج المتقى والوزير من بغداد. فجرّد موسى ابن سليمان في ألف رجل وبادر به إلى بغداد. وامتدّ موسى إلى باب الشمّاسية وعسكر هناك. وأقام توزون حتى عقد واسطا على البريدي ثم أصعد ودخل بغداد وقلّد الشرطة غلامه صافيا.
وانحدر ناصر الدولة ومعه الجيش ووصل إلى تكريت فتلقّاه الخليفة وسار توزون إلى عكبرا وعبر من الجانب الشرقي إلى قصر الجصّ بسرّ من رأى وصاعد المتقي لله إلى الموصل ومعه أبو الحسين الوزير وأبو إسحاق القراريطي وأبو زكريا السوسي.
وسار سيف الدولة للقاء توزون فاشتبكت الحرب بينهما أسفل من تكريت بفرسخين وناصر الدولة بتكريت. فدامت الحرب بين سيف الدولة وتوزون يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء. فلمّا كان يوم الخميس انهزم سيف الدولة وأصعد معه ناصر الدولة ونهب الأعراب بعض سوادهما وملك توزون وشغّب أصحاب توزون فانحدر إلى بغداد.
وتأهّب سيف الدولة للقاء توزون ثانية فانحدر إلى تكريت وخرج توزون إلى باب الشماسية ثم سار إلى ناحية أخرى وواقعه هناك فانهزم سيف الدولة وتبعه توزون. فلمّا وصل سيف الدولة إلى الموصل سار منها وسار ناصر الدولة والمتقى والوزير وسائر من معهم إلى نصيبين ودخل توزون الموصل ومعه ابن شيرزاد وأبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي واستخرج ابن شيرزاد من الموصل نحو مائة ألف دينار.
ورحل المتقى وحرمه ومن معه من نصيبين إلى الرقّة ولحق بهم سيف الدولة، وقد كان توزون عند خروجه من بغداد زوّج ابنته من أبي عبد الله البريدي وعقد الاملاك بالشمّاسية وأنفذ المتقي لله أبا زكريّا السوسي إلى توزون في رسالة يقول فيها:
« إني استوحشت منك لأجل البريديين لقبح ما يفعلونه دفعة بعد دفعة وأبلغت أنكما اجتمعتما وصرتما يدا واحدة فخرجت من الحضرة والآن فقد مضى ما مضى. فإن آثرت رضاي فصالح ناصر الدولة وارجع إلى الحضرة.
فإني إذا رأيتك مطيعا لي عدت واستقامت لك الأمور بي وبرضاي وكان الله عونك. » قال أبو زكريّا: فلمّا وردت حضرة توزون اتّهمنى وهمّ بقتلى، فخلّصنى ابن شيرزاد وقال:
« أيها الأمير أنا والله سألت أبا زكريا الخروج مع الخليفة لميله إلينا وليكون خليفتنا بحضرته فإن كان متّهما فأنا متّهم. » ثم أدّيت الرسالة فتقبّلها ابن شيرزاد وأشار على توزون بالإجابة وسفرت في الصلح إلى أن تمّ وصحّ لأبي جعفر ابن شيرزاد قبل الصلح وبعده زيادة على مائتي ألف دينار، وعقد البلد على ناصر الدولة ثلاث سنين كلّ سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم وانصرف توزون إلى بغداد.
وتواترت الأخبار بنزول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه واسطا وكان على وعد من البريديّين بعسكر الماء فأخلفوه وانحدر إليه توزون محاربا له والتقيا في الموضع المعروف بقباب حميد وطالت الحرب بينهما بضعة عشر يوما على اجتهاد شديد بين الفريقين إلّا أنّ توزون كان يتأخّر كلّ يوم ويتقدّم الديلم على سبيل الزحف وعلى عادتهم في مثل ذلك وكثر القتلى من الجانبين إلى أن عبر توزون نهر ديالى وحصل في الجانب الذي يلي بغداد وقطع جسورا كان عقدها عليه.
فلمّا صار بينهما النهر ثبت الأتراك وكان مع توزون زبازب وخيل في الماء فيها غلمان رماة. فكانوا يستولون في كلّ يوم على قطعة من خزائن أحمد بن بويه وزواريق عسكره ثم يحولون بين العسكر وبين الماء فيعطشون هم ودوابّهم. فرأى معزّ الدولة أن يصعد على ديالى إلى نحو جسر النهروان ليبعد عن دجلة ويقرب من الماء ويحتال للميرة. فقد كانت ضاقت عليه وأحسّ توزون بذلك.
ذكر حيلة تمت على معز الدولة حتى انهزم بعد استظهار منه
وعبر توزون بخمسمائة من الأتراك مع تكين الشيرازي وألف فارس من العرب فيهم إبراهيم المطوّق وقطينة وأمثالهم من حيث لم يشعر بهم معزّ الدولة. فلمّا سار وسار سواده في أثره خرج عليهم القوم فحالوا بينه وبين السواد ووقعوا في العسكر على غير تعبئة. وتعجّل توزون فعبر بجماعة من أصحابه سباحة ولم يزل يقتل ويأسر حتى ملّ وأفلت معزّ الدولة مع الصيمري ونفر يسير معه بأسوأ حال وحصل بالسوس واجتمع إليه نفر من الفلّ بعد أيام وعاد توزون إلى بغداد.
ابن شيرزاد يخلع على اللص
وفي صفر من هذه السنة ظهر لصّ يقال له: ابن حمدي وكان أعيا السلطان. فخلع عليه ابن شيرزاد وأثبته برسم الجند ووافقه على أن يصحّح في كلّ شهر خمسة عشر ألف دينار ممّا يسرقه وأصحابه، وأخذ خطّه بها فكان يستوفيها منه ويأخذ البراءات وروزات الجهبذ بما يؤدّيه أوّلا أوّلا.
وفي هذه السنة قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف.
ذكر السبب في قتل البريدي أخاه وما جرى بعد قتله إياه وعاقبة أمره
كان أبو عبد الله البريدي لمّا حاصره سيف الدولة أيام مقامه بواسط أحد عشر شهرا ثم توزون بعده ضاقت به الأمور فاضطربت رجاله وعملوا على الاستئمان إلى أبي يوسف أخيه ليساره واستقرض من أبي يوسف قرضا بعد قرض. فكان يعطيه النزر اليسير وذكر تخلّفه وتضييعه وأنه بالإقبال تمّ له ما تمّ لا لتدبير. ثم تعدّى ذلك فصار يذكر جنونه وعجلته. وصحّ عند أبي عبد الله أنّ أبا يوسف يريد القبض عليه واعتقاله لأن يجرى عليه جراية على تقتير. فاستوحش كلّ واحد منهما من صاحبه.
فحكى إسرائيل الجهبذ وكان خصيصا بأبي عبد الله أنه استدعاه وشكا إليه حاله في الإضاقة ثم قال:
« قم إلى أبي يوسف أخي - وأومأ إلى درج بين يديه وفتحه فإذا فيه حبّ لؤلؤ وياقوت أحمر وأزرق يبهر الناظرين - وقال: احمل هذا إليه وسله أن يقرض عليه عشرة آلاف دينار. » وكان ما في الدرج قد وهبه بجكم لابنته سارة التي تزوّج بها. وكان بجكم أخذه من دار الخليفة فأخذه أبو عبد الله منها.
قال إسرائيل: فمضيت إلى أبي يوسف وحدّثته بجميع ما خاطبني به أخوه وأخرجت الدرج إليه.
فقال لي:
« يا أبا الطيّب من سوء تحصيله يرى، ولو مدّت دجلة مالا لبددّه هذا رجل حصّل له من واسط في كرّاته التي تولّاها ثمانية آلاف ألف دينار أما وجب أن يستظهر بألف ألف دينار. » فقلت: « يا سيدي ومن أولى به منك على تصرّف كل حال؟ فتفضّل بما طلب. » فقال: « إني قد أعطيته إلى هذا الوقت ومنذ انصرف من واسط خمسين ألف دينار وما تمتلئ عينه. ابعث إلى الجوهريّين وأحضرهم حتى يقوّموا هذا الجوهر وأعطيه قيمته. » فوجّه إليهم وحضروا وأخرجه إليهم فقالوا:
« لا قيمة له تحدّ، وإذا حضر ملك يرغب نحكّم صاحبه ولو انتهى في السوم إلى أقصى غاية. » فاشتطّ وقال:
« يا جهّال، من قال لكم إني مروان الأموي - فإنه كان راغبا في الجوهر وحضر للابتياع - أو خمارويه بن أحمد وابن الجصّاص؟ قوّموه بما إذا طالبتكم به بكرة صحّحتموه العصر. » فقوّموه خمسة آلاف دينار. فقال:
« أعطونى خطوطكم بها. » فثبّتوا ثم ردوها إلى خمسين ألف درهم وضمنوها فقال:
« هذا أعطيك. » فقلت: « يا سيدي، اجعلها خمسة آلاف دينار. » فقال: « قم ودع في القيمة فضلا لطلبه فإنّه سيعاود ويطلب. » فانصرفت بخمسين ألف درهم إلى أبي عبد الله وحدّثته الحديث، فقال:
« لا إله إلّا الله قل له: يا أبا يوسف جنوني الذي ذكرته وقلّة تحصيلى أقعدك هذا المقعد وصيّرك كقارون. » ثم عدّد ما عمله معه ودمعت عينه وتبيّن الشرّ في وجهه.
فلمّا كان بعد أيام نحو العشرة أقام غلمانه وفيهم يانس وإقبال وربيب وملّاح يانس في مخترق قد سقّف بين باب داره - وكانت دار فضلان الساجي - بالأبلّة وبين الشطّ فتمكّن له هؤلاء ووثبوا عليه بالسكاكين وما زال يصيح:
« يا أخي قتلوني قتلوني. » وأبو عبد الله يقول:
« إلى لعنة الله. » فخرج أبو الحسين أخوه وكان ينزل في جواره إلى روشن دجلة وقال:
« يا أخي قتلته؟ » فقال: « يا فاعل خربت اسكت وإلّا ألحقتك به. »
فجمع أبو الحسين نفسه وشغّب الجند وظنّوه حيّا فنبشه وأظهره لهم فسكنوا. ثم أعاده إلى قبره.
وانتقل إلى الدار بمسماران. فساعة ملكها طلب الجوهر فأحضره.
قال إسرائيل: دخلت إليه فقال لمّا رآني:
« يا غلام هات الدُّرج. » فأحضره إيّاه فقال لي:
« يا أبا الطيّب أخذنا المال والجوهر ومضى الفاعل بن الفاعل إلى لعنة الله. » ثم أودع أبو عبد الله هذا الجوهر ابنه أبا القاسم سرّا وأمره أن يستره. فلمّا توفّى أبو عبد الله وملك الأمر بعده أخوه أبو الحسين طلب هذا الجوهر طلبا شديدا فلم يجد له أثرا. وقيل: أودعه من لا يعرف.
ولمّا خرج ابنه إلى هجر أخذه معه فسأله الهجريّون أن يريهم إيّاه ففعل ذلك ووهب لهم منه حبّة واحدة.
فلمّا حضر مدينة السلام في أيّام أبي الحسين معزّ الدولة طلبه منه ليراه فأحضره عنده ووسّط أبا مخلد عبد الله بن يحيى ليبتاعه منه فامتنع من بيعه ثم رأى الوجه في بيعه. فاستجاب فقوّم بما قوّمه تجّار البصرة.
فقال أبو مخلد:
« حطّ منه ثمن الحبّة التي أخذها الهجريّون. » فأعطى ثلاثة آلاف دينار عن قيمة خمسة وأربعين ألف درهم وأحاله بذلك على كار التمر واستوفاه.
وكان أبو عبد الله البريدي يتّهم أبا الحسن ابن أسد بالتضريب بينه وبين أخيه وقيل له:
« إنّ عنده ستة عشر ألف ألف درهم. » فلمّا ملك الأمير أخرج إليه دفتر فيه ثبت ودائع أبي يوسف بخطّه، فلم يجد فيه وديعة عند أحد إلّا ما عند ابن أسد، فطالبه بها وبسط منه وأقرّه على ما كان يتولّاه فمضى إلى منزله وحمل إليه ألفي ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ولم يظهر له، وعرّفه أنه لا وجه للباقي وأنّ أخاه حصّل عليه ذلك من عجز بعد عجز لحقه في مدّة سنة معه وأخذ خطّه بها أنها وديعة له عنده. وكان في أسفل الثبت الذي وجد له: « عمل لكلّ سنة عملا بالضمان وما صحّ منه بالأمانة وما تحصّل من العجز الذي أخذ خطّه به ».
وجمع ذلك وكان بإزاء العجز وهو ثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة ألف درهم.
فقامت قيامة أبي عبد الله وقال:
« دم أخي في رقبة ابن أسد فإني قتلته طمعا في المال. » فمضى ولم يصل إليه. ثم آمنه فظهر وقام بحجّته شفاها وذكر أنّ له بقايا هذه السنة في النواحي زيادة على أربعة آلاف ألف وله أصحاب منهم أبو العلاء صاعد بن ثابت وأبوه وأخوه وأبو على الأنبارى وقد هرب فتوسّط أمره القاضي أبو الحسين بن نصرويه. وصحّ لأبي عبد الله جميع الوجوه على أحوال قبيحة مع الألفى الألف والخمسمائة الألف الدرهم الموجودة عشرة آلاف ألف درهم وتاه الباقي وذهبت نفس أبي يوسف.
وفيها قبض أبو العباس اشكورج الديلمي وكان توزون قلّده الشرطة ببغداد على ابن حمدي اللصّ وضرب وسطه فخفّ مكروه اللصوص عن الناس وانقطع شرّهم بعد أن تحارس الناس بالليل بالبوقات وامتنع عنهم النوم خوفا من كبساته.
وفيها ورد الخبر بدخول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه واسط وانحدر من كان بها من أصحاب البريدي إلى البصرة.
وفيها صار محمد بن ينال الترجمان إلى سيف الدولة وهو بالرقّة فعاتبه سيف الدولة على أشياء بلغته عنه وكان اتهم بأنه عقد الرئاسة لنفسه على العجم وواطأه المتقي لله على الإيقاع بسيف الدولة فجحد محمّد بن ينال ذلك، فلمّا خرج من حضرته بعد العتاب وثب به غلمان سيف الدولة بسيوفهم فقتلوه.
وفيها ورد الخبر بموت سليمان بن الحسن أبي طاهر القرمطي وأنه جدّر ومات وصار الأمر لإخوته بعده.
ذكر الخبر عن الإصبهاني الذي احتال لقتل القرامطة بأيديهم حتى كاد يفنيهم
كان ابن سنبر يعادى المعروف بأبي حفص الشريك، فاحتال في حياة أبي طاهر بأن أحضر رجلا من أهل إصبهان فكشف له أسرارا كان أبو سعيد الجنّابى كشفها له في حياته ولم يكشفها لغيره وعرّفه مواضع دفائن له لم يعلم بها غيره ولم يعلم أبو طاهر أن أباه أبا سعيد كشف ذلك لابن سنبر فقال ابن سنبر لهذا الرجل الإصبهاني:
« امض إلى أبي طاهر وعرّفه أنّك الرجل الذي كان أبوه وهو يدعوان إليه فإذا هو سألك عن العلامات والدليل أظهرت له هذه الأسرار. » وشرط ابن سنبر على هذا الإصبهاني أن يكون إذا تمكّن من الأمر قتل أبا حفص الشريك فضمن له الإصبهاني ذلك فمضى إلى أبي طاهر وأعطاه العلامات وحدّثه بالأسرار فلم يشكّ في صحة تلك العلامات فوثب أبو طاهر وقام بين يديه وسلّم الأمر إليه وقال لأصحابه:
« هذا هو الذي كنت أدعوكم إليه والأمر له. » فتمكّن الرجل من الأمر وثبت ووفى بما كان ضمنه لابن سنبر وقتل أبا حفص الشريك.
ثم كان يأمر أبا طاهر وإخوته بقتل من يشاء ويقول: « قد مرض » يعنى أنه قد شكّ في الدين فيقتل وأخذ يقتل واحدا واحدا من رؤساء القوم وأهل البصائر منهم والنجدة وأمره ممتثل مطاع لا يخالف إلى أن أتى على عدد كثير منهم. وكان إذا أمر الرجل أن يقتل أخاه أو أباه أو ابنه لم يتوقّف وبادر إلى امتثال أمره فخافه أبو طاهر وبلغه أنه عمل على قتله فقال لإخوته:
« قد وقع عليّ غلط وشبهة في أمر هذا الرجل وليس هو صاحب الأمر الذي يعرف ضمائر القلوب ولا تخفى عليه الأسرار ويمكنه أن يبرئ المريض ويعمل كل ما يريد. » وجاءوا إلى الرجل فعرّفوه أنّ والدتهم عليلة وسألوه أن يدخل إليها ونوّموا والدتهم على فراش وغطّوها بإزار فدخل إليها فلمّا رآها قال لهم:
« هذه علّة لا يبرأ صاحبها فطهّروها » معناه اقتلوها.
فلمّا قال لهم ذلك قالوا لأمّهم: « اجلسي. » فجلست. وقالوا: « إنها لفى عافية وأنت كذّاب. » فقتلوه.
وكان لهم سبعة من الوزراء أكبرهم ابن سنبر وكان أبو طاهر له إخوان:
أبو القاسم سعيد بن الحسن وأبو العباس الفضل بن الحسن ولهم أخ آخر لا يدخل معهم في أمورهم يقال له أبو يعقوب إسحاق مقبل على الشرب والقصف وأمر الثلاثة واحد وكلمتهم واحدة لا يخلفون فكانوا إذا أرادوا عقد أمر أو ورد عليهم أمر ركبوا وأصحروا واتفقوا على ما يعملون ولا يطلعون أحدا على أمرهم فإذا انصرفوا أمضوا ما اتفقوا عليه.
موت أبي عبد الله البريدي
وفي هذه السنة مات أبو عبد الله البريدي بحمّى حادّة مكث فيها سبعة أيام فكان بين قتله أخاه أبا يوسف وبين موته ثمانية أشهر وثلاثة أيام فتبارك الله ربّ العالمين. فتحدّث أبو القاسم ابن أبي عبد الله البريدي بعد زوال أمره ومصيره إلى بغداد أنّ أباه لمّا مات بالبصرة انتصب أخوه أبو الحسين مكانه وكان لأبي عبد الله عسكر مقيم بنهر الأمير بإزاء الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وعسكر آخر بمطارا وكان ديلم أبي عبد الله مضمومين إلى يانس غلامه وكانوا يميلون إليه وكان بين يانس وبين أبي الحسين مباينة في الباطن وعداوة ولمّا تمكّن أبو الحسين من الرئاسة أخذ في الاستطالة على الديلم والأتراك ويستخفّ بهم فنفرت قلوبهم منه وأحسّ يانس بذلك فمضى إلى أبي القاسم مولاه وابن مولاه أبي عبد الله فقال له:
« إن كان عندك مال أصلحت لك قلوب الرجال وعقدت لك الرئاسة. » فاعترف له أبو القاسم أن عنده ثلاثمائة ألف دينار فأصلح له قلوب الديلم والرجال وواطأهم على الإيقاع بأبي الحسين وعقد الرئاسة لأبي القاسم وضمن لهم عنه الإحسان فسار الجيش الذي كان بنهر الأمير إلى مسماران وكان أبو الحسين بها فكبسوه وهو نائم فخرج من تحت الكلّة ومضى ماشيا متنكرا إلى الجعفرية وكاتب الهجري يستجير بهم وقصدهم فقبلوه أحسن قبول وسألهم أن يعاونوه على الرجوع إلى البصرة وردّه إلى أمره فضمنوا له ذلك وأقام عندهم نحو الشهر وتقررت الرئاسة بالبصرة لأبي القاسم ابن أبي عبد الله.
ثم سار أبو الحسين من هجر ومعه من إخوة أبي طاهر اثنان وصاروا إلى سور البصرة فوجدوا أبا القاسم قد حفظه بالرجال واحترس منه فلم تكن لهم حيلة في الوصول إلى البلد وطال مقامهم فضجر الهجريون وكاتبوا أبا القاسم وسفروا بينه وبين عمّه في الصلح وسألوه أن يؤمنه ويأذن له في الدخول إلى البصرة واحتاط أبو القاسم في أمره إلى أن تأهّب واختار الشخوص إلى بغداد فأذن له وأطلقه فخرج وصار إلى مدينة السلام.
طمع يانس في الرئاسة وتمكن أبي القاسم منها
ثم طمع يانس في الرئاسة وإزالة أبي القاسم عنها فواطأ روستاباش فلمّا انعقد الأمر بينهما تحرّك روستاباش والديلم واجتمعوا في دار روستاباش وآثر روستاباش الإيقاع بيانس والتفرّد بالرئاسة فلمّا خرج يانس من عنده أتبعه بمن يوقع به فتحرّك يانس ورماه الديلمي بزوبين ووقع في ظهره وهرب وصار إلى خراب بقرب دار أبي القاسم ولم يعرف له أحد خبرا وكان ليلا وسار روستاباش إلى دار لشكرستان وكان نقيب الديلم والمدبّر ليأنس.
وكان قد جزع أبو القاسم لمّا عرف الخبر وهمّ بالجلوس في طيّاره والخروج عن داره فلمّا عرف لشكرستان أنّ روستاباش قد أوقع بيانس وعزم على التفرّد بالرئاسة لم يطعه وصاح الديلم وزبرهم فتفرّقوا ومضى بعضهم في الوقت معتذرا وهرب روستاباش بالليل عند تفرّق الناس عنه واستتر وأصبح أبو القاسم وقد استقام أمره وعرف خبر يانس فحمله إلى داره مكرما ووجد روستاباش فنفاه إلى حيدة وعولج يانس إلى أن برأ وأبو القاسم متهم له فلمّا كان بعد أيام قبض عليه وعلى لشكرستان وصادر يانسا على مائة ألف دينار ثم نفاه إلى عمان فلمّا حصل على الحديدى لينزل به خرج إليه بعض غلمان أبي القاسم فقتله وقتل لشكرستان وتمكّن أبو القاسم من الرئاسة.
وفيها عرض لتوزون يوما وهو جالس للسلام والناس وقوف بين يديه صرع فوثب ابن شيرزاد وموسى بن سليمان ومدّا في وجهه رداء كان على رأس موسى وحجزوا بينه وبين الناس لئلّا يروه على تلك الصورة وصرف الناس وقيل لهم:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 13 (0 من الأعضاء و 13 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)