









« أى شيء ترى؟. » فقلت: « الوجه أن نقارب ونأخذ ومتى تمكّنّا من قصد الموصل فالضمان معنا ونحن نستوفى تمام الثمانية آلاف الألف الدرهم. » قال: « فافعل. » وقررنا الأمر على ثلاثة آلاف ألف درهم لسنة واستوفيناها.
وكان الصيمري لمّا انصرف من عند ناصر الدولة بالصلح صار ناصر الدولة إلى الموصل وعسف الناس وطالبهم بمال التعجيل.
خروج سبكتكين إلى الري
وفي هذه السنة خرج سبكتكين الحاجب ومعه أكثر الجيش والقرامطة إلى الري مددا لركن الدولة ثم أتبعه معزّ الدولة بروزبهان وعليكان وجماعة من الديلم ولحقوا به.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب فيه أن جيش خراسان تحرّك فورد الخبر على ركن الدولة وكان ابن عبد الرزاق من كبار أصحاب الجيوش بخراسان إلّا أنّه كان مستوحشا من صاحبه فكاتب ركن الدولة بأنّه صائر إليه في الجيش الذي معه فاستعدّ له ركن الدولة وأعدّ أصناف الكرامات له.
وكاتب أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه معزّ الدولة وأخاه أبا الحسن علي بن بويه عماد الدولة فحمل كل واحد منهما إليه شيئا كثيرا من المال والدوابّ والثياب والألطاف فصرفها كلّها إليه مع ما أضاف إليه من جهته، وذلك بعد أن حضره ووطئ بساطه ورده إلى الدامغان فوصل إليه شيء لا عهد له بمثله. وإنّما ردّه إلى الدامغان لئلا يتضايق الريّ بالعساكر وقيل له:
- فرّق من الأموال ما ترى على من ترى.
ثم استقرّ الرأي بين الأمراء الثلاثة أعنى عماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة على تقليد ركن الدولة خراسان والعقد له عليها ليكون محاربته إيّاهم على الأصل والولاية.
ثم وردت الأخبار بحركة المرزبان بن محمّد بن مسافر وهو السّلار وأنّه عازم على قصد الريّ لمحاربة ركن الدولة مغتنما ورود جيش خراسان وأنّه سيشغله ذلك عنه.
فندب عند ذلك معزّ الدولة سبكتكين الحاجب للمسير إلى ركن الدولة مددا له بعد أن عظم أمره وفخم شأنه، وضمّ إليه جماهير عسكره وأكابر قوّاده وفيهم بورريش وروزبهان ومن يجرى مجراهما وقطعة وافرة من الأتراك وثلاثة آلاف من شجعان العرب المعروفين فيهم إبراهيم بن المطوّق المعروف بابن البارد وعمّار المجنون وأحمد بن صالح الكلابي وطبقتهم وأطلق الأموال وأزاح العلل في الخيل والسلاح وغيرها.
وكتب عهد ركن الدولة على خراسان وعقد لواءه وحملت الخلع إليه معه وخرج بذلك أحد حجّاب السلطان مع سبكتكين الحاجب فسارت الجماعة معه على أتم أهبة.
فلمّا وصل العسكر إلى ظاهر الدينور خلع بورريش الطاعة وأنف من متابعة سبكتكين والمسير تحت رايته وجمع إلى نفسه الديلم الذين في العسكر فاستجابوا له جميعا وبكروا عليه في غداة غد وهو فيها غافل جالس في خيمة له فغافصوه ورماه بزوبين أثبته في كتفه وولى من موضعه وخرج مجروحا من تحت ذيل خيمته وركب جنيبة النوبة فبرز إلى الصحراء وتلاحق به غلمانه وسائر الأتراك مع العرب وتمكن الديلم من رحله وسواده فنهبوه ونهب رحل حاجب السلطان الذي معه الخلع فذهبت في النهب.
وتحيز الديلم كلّهم مع بورريش إلّا روزبهان ونفرا قليلا معه فإنّهم اختاروا طاعة سبكتكين على طاعة بورريش ومرّ بورريش هائما على وجهه ورجع عنه الديلم إلى سبكتكين فقبلهم سبكتكين وبسط عذرهم ولم يسئ إلى أحد منهم.
وأمر العرب بطلب بورريش فلم يكن بأسرع من أن يوافى به إبراهيم بن المطوق المعروف بابن البارد أسيرا مسلوبا فأقيم بين يدي سبكتكين فخاطبه بما يجرى مجرى التشفي وأسمعه القبيح ثم أمر بتقييده ورحل إلى همذان واستأنف الخلع التي انتهبت حتى أقام العوض عنها ثم تمم المسير إلى حضرة ركن الدولة فوجده نازلا بباب الري فسلم بورريش إليه فكان آخر العهد به.
ولبس الخلع فبرز فيها للناس وقرئ عهده على خراسان بمشهد من القضاة والقواد ووجوه الناس ووافاه المدد من شيراز واستدعى محمد بن عبد الرزاق من الدامغان لمناجزة المرزبان فإنّه كان أهمّ وأولى بالابتداء فلمّا واقعه ظفر به وأخذ أسيرا كما حكينا في أخباره.
ودخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة
انحدار الصيمري لمحاربة عمران بن شاهين
وفيها انحدر أبو جعفر الصيمري لمحاربة عمران بن شاهين وكان هذا الرجل من أهل الجامدة وجنى جناية فهرب إلى البطيحة من سلطان الناحية فأقام بين القصب والآجام واقتصر على ما يصيده من السمك قوتا ثم اضطر إلى معارضة من يسلك البطيحة متلصصا وعرف خبره جماعة من صيادي السمك فاجتمعوا اليه مع جماعة من المتلصصة هناك حتى حمى جانبه من السلطان.
فلمّا أشفق من أن يقصد استأمن إلى البريدي فقلده أبو القاسم الجامدة للحماية والأهواز التي في البطائح فما زال يجمع الرجال إلى أن كثر أصحابه وقوى فغلب على تلك النواحي.
انصراف ابن قراتكين إلى نيسابور
وفيها ورد الخبر بأنّ ابن قراتكين غلام صاحب خراسان انصرف إلى نيسابور وتفرّقت جموعه عنه وبقي وشمكير بطبرستان فسار إليه ركن الدولة.
يريده فلمّا قرب منه انصرف بغير حرب وعارضه عليّ بن سرخاب أحد قواد ركن الدولة فأوقع بسواده واستأمن أكثر أصحاب وشمكير إلى ركن الدولة ودخل ركن الدولة آمل.
إيقاع الصيمري بعمران
وفيها أوقع الصيمري بعمران بن شاهين دفعة بعد دفعة واستأسر أهله وعياله وهرب عمران بن شاهين واستتر.
ورود خبر موت عماد الدولة واضطراب الجيش
ثم ورد الخبر بموت عماد الدولة عليّ بن بويه فاضطرب الجيش هناك وكتب معزّ الدولة إلى الصيمري بالمبادرة إلى شيراز لإصلاح الأمور بها فترك الصيمري ما كان فيه من طلب عمران ابن شاهين وبادر إلى شيراز.
ووافى ركن الدولة إلى شيراز واجتمعا على تقرير الأمور وضبط البلد وإصلاح أمر الجيش فلمّا استقام الأمر وصلح البلد سلماه إلى الأمير أبي شجاع فنّاخسره بن ركن الدولة وانصرفا عنه.
وكانت علة عماد الدولة التي مات فيها قرحة في كلاه طالت به ونهكت جسمه ولمّا مات نفذت كتب الخليفة بأنّه قد نصب أخاه الأمير ركن الدولة مكانه وجعله أمير الأمراء.
وتغيرت نيّة الأمير معزّ الدولة على أبي الحسن المافرّوخى وقبض على أبي محمد عليّ بن عبد العزيز ابن عمّه بالبصرة ثم على أبي الحسن بعده لمّا عجزا عن ضمان البصرة والأسافل فإنّ أمرها كان مشتركا وكتب إلى أبي جعفر الصيمري وهو بشيراز بأن ينفذ إليه أبو الفضل العبّاس بن فسانجس فأنفذه وقلّده الدواوين التي كانت إلى أبي الحسن المافرّوخى ويسألها منه قبل أن يستكتب الأمير معزّ الدولة أبا محمد المهلّبي بأسبوع.
ثم حاول أن يدخل يده في ديوان السواد ليجرى في ديوانه فمنعه أبو محمّد المهلبي واحتجّ عليه بأن هذا الديوان كان يجرى في ديوان الصيمري.
ثم حاول أن يدخل يده في ديوان النفقات وكان يتولّاه أبو الفضل العبّاس ابن الحسين الشيرازي وفي ديوان الجيش وكان إلى سهل بن برديشت وفي حساب الخزانة الذي يتولّاه أبو على الحسن بن إبراهيم الشيرازي فمنعه معزّ الدولة من ذلك لخصوص هذه الطائفة [ به ] وسكونه إليها.
وفيها ورد الخبر بأنّ كوركير وينال كوسه قتلا الموكّلين بقلعة رامهرمز وكسرا قيودهما وخرج ينال كوسه وهرب فلقيه الأكراد ومانعهم فقتلوه ولم يخرج كوركير ولا فتح اللشكري ولا أرسلان كور ولا اصفهدوست وكتب معزّ الدولة إلى أبي جعفر الصيمري وهو بشيراز أن يبادر إلى القلعة وحفظها فبادر وكان اصفهدوست عليلا من قولنج فمات بها.
ولمّا بعد الصيمري عن عمران وشغل بهذه الأسباب بعد أن لم يبق في أمره شيء تنفّس وخرج من استتاره وعاد إلى أمره وجمع إليه من كان تفرّق عنه من رجاله وقوى أمره.
ترشيح فناخسره للأمر
وفي هذه السنة أحس عليّ بن بويه عماد الدولة بالموت لمخالفة العلل إيّاه وخاف لبعد أخيه عنه وكثرة من في جملته من كبار الديلم أن يطمع في مملكته بعده فاستدعى فنّاخسره بن ركن الدولة من أبيه ليرشّحه للأمر بعده ويأنس به القوّاد والجيش ففعل ذلك.
وسار فناخسره بن ركن الدولة إلى شيراز وضم إليه أبوه حاشيته الثقات ولمّا قرب من شيراز تلقّاه عماد الدولة في جميع عسكره وأجلسه في داره على السرير وأمر الناس بالسلام عليه ووقف بحضرته لئلا يمتنع أحد فكان يوما عظيما مشهودا، ثم عهد إليه بعد ذلك ومات.
ذكر استعمال حزم واستظهار من عماد الدولة قبل موته
كان عماد الدولة يتهم جماعة من أكابر قوّاده ويعرفهم بطلب الرياسة لأنفسهم. وكانوا يرون أنفسهم أكرم منه منصبا وأحق بالولاية فنظّف عسكره منهم وقبض على جماعة.
فكان ممن قبض عليه شيرنجين بن جليس فخوطب فيه وتشفّع فيه وجوه حاشيته وثقات أصحابه فقال لهم:
« إني أحدّثكم عنه بحديث فإن رأيتم بعد استماعه أن أطلقه فعلت. »
ثم ابتدأ يحدّثهم أنّه كان بخراسان في خدمة نصر بن أحمد. قال:
« ونحن يومئذ في شرذمة من الديلم وكان يجلس نصر بن أحمد للسلام في كل أسبوع مرّتين فجلس ذات يوم وحواليه من مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر آلاف غلام سوى سائر العسكر فرأيت شيرنجين هذا قد جرّد دشنيا واشتمل عليه بكسائه. فقلت له:
« ما هذا؟ » قال: « أريد أن أصنع اليوم ما أذكر به آخر الدهر. » قلت: « وما هو؟ » قال: « أدنو كأنّى متظلم أو طالب حاجة فأقبّل الأرض ولا أزال أدنو حتى إذا وثقت بالوصول إلى هذا الغلام (يعنى نصر بن أحمد) فتكت به ثم لا أبالى أن أقتل بعده وقد أنفت من القيام بين يدي صبيّ. » وكان لنصر بن أحمد يومئذ عشرون سنة وقد خرجت لحيته.
فعلمت أنّه إن فعل لم يقتل وحده حتى نقتل كلّنا معه معاشر الديلم فأخذت بيده وقلت له:
« بيني وبينك حديث. » وجمعت عليه الديلم وحدّثتهم بما همّ به وما يجيء علينا كلّنا إن تمّ له ما يريد فقبضوا على يده وأخذوا منه الدشنى.
أ فتريدون من بعد أن سمعتم رأيه في نصر بن أحمد أن أمكّنه من الوقوف بين يدي هذا الصبى؟ فأمسكوا عنه وقالوا:
« الأمير أعلم بجيشه. » ولم يزل محبوسا حتى توفّى في محبسه.
وفي هذه السنة قلّد أبو السائب عتبة بن عبيد الله قضاء القضاة.
ودخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة
خبر دخول ابن قراتكين غلام صاحب خراسان إلى الري
وفيها ورد الخبر بدخول ابن قراتكين غلام صاحب خراسان إلى الريّ وانصراف من كان بها من أصحاب ركن الدولة وكان ركن الدولة بطبرستان واستولى أصحاب ابن قراتكين على الجبل كلّه.
موت الصيمري
وفيها مات أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري في حمى حادّة بالبزبونى من الجامدة لمّا عاد لمحاربة عمران بن شاهين.
استكتاب معز الدولة المهلبي
وفيها استكتب معزّ الدولة أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلّبي ولما ورد الخبر بموت أبي جعفر الصيمري أرجف لجماعة بأنّ الأمير معزّ الدولة يستكتبه فمنهم أبو عليّ الطبري ومنهم أبو عليّ الحسن بن هارون ومنهم أبو محمّد المهلّبي واجتمع أبو محمّد المهلّبي وأبو عليّ الحسن بن هارون فتحالفا على أنّ من صحّ له الأمر منهما كان لصاحبه على مودّة ومشاركة.
وسعى أبو على الطبري وكان رجلا أمّيا في أول أمره نخّاسا يبيع الرقيق فخطب كتبة الأمير أبي الحسين مكان أبي جعفر الصيمري وبذل مالا فأطمعه معزّ الدولة فيما قدّر وتقدّم إليه بحمل المال فحمل إلى الخزانة مالا فلمّا صحّ المال عدل عنه إلى أبي محمّد المهلّبي فقلده كتابته وتدبير أعمال الخراج وجباية الأموال وخلع عليه لذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من جمادى الأولى.
وزوّج أبو محمّد المهلّبي ابنته من أبي على الحسن بن محمّد الأنبارى الكاتب واستخلفه بالحضرة وانحدر إلى الأهواز.
ذكر السبب في اختيار معز الدولة أبا محمد المهلبي وإيثاره إياه على وجوه الكتاب من الحضرة وغيرهم مع وفور عدد الكفاة يومئذ
سبب ذلك أنّه وجده جامعا لادوات الرياسة وكان لا يجمعها غيره وإن كان فيهم من هو أرجح كتابة. وأيضا فقد أنس به على طول الزمان وأنّه خلف الصيمري على الوزارة فعرف غوامض الأمور وأسرار المملكة وكان الباقون لا يعرفون ذلك ولا يخرج إليهم ولا يوثق بهم فيها.
وكان مع ذلك حسن الإنباء عن نفسه فصيحا مهيبا متوصّلا إلى إثارة الأموال عارفا برسوم الوزارة القديمة سخيّا شجاعا أديبا يفصح بالفارسية فتلافى أكثر ما درس من رسوم الكتابة واستدرك كثيرا من العمارات وأثار وجوه الأموال من مواضعها فحسنت إثارة.
وتوفر مع ذلك على أهل الأدب والعلوم فأحيا ما كان درس ومات من ذكرهم ونوّه بهم ورغّب الناس بذلك في معاودة ما أهمل منها.
ثم خرج إلى الأهواز فجمع أموالا كان قد طمع فيها العمال من بقايا وزيادات زادها في العقود عليهم ومن مؤامرات ناظر عليها العمّال والضمناء فألزمهم أموالها فاتصلت حموله وظهر فضله على من تقدّمه.
ثم انتقل من الأهواز إلى البصرة فكان أثره فيها أوفر وإثارته للأموال منها أكثر كما سنذكر بعضه.
إيغال سيف الدولة في بلاد الروم وما كان من عاقبته
وفي هذه السنة ورد الخبر بأنّ سيف الدولة غزا وأوغل في بلاد الروم وفتح حصونا كثيرة من حصون الروم وسبى عددا.
فلمّا أراد الخروج من بلد الروم أخذ الروم عليه الدرب الذي أراد الخروج منه فتلف كل من كان معه من المسلمين أسرا وقتلا وارتجع السبي الذي كان سباه وأخذ سواده وكراعه وخزائنه وأمواله وسلاحه وغنم الروم منه غنيمة لم يروا مثلها وأفلت في عدد يسير.
خروج سبكتكين إلى همذان
وفيها خرج الحاجب سبكتكين إلى همذان مددا لركن الدولة فلمّا دخل قرميسين أسر من كان بها من أصحاب ابن قراتكين.
رد القرامطة الحجر الأسود
وفيها ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى موضعه من البيت الحرام بمكّة وكان أخذه أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى من البيت الحرام وكان بجكم بذل في ردّه خمسين ألف دينار فلم يردّ، وقيل: إنّا أخذناه بأمر وإذا ورد الأمر بردّه رددناه.
فلمّا كان في ذي القعدة من هذه السنة كتب إخوة أبي طاهر كتابا يذكر فيه أنّهم ردّوا الحجر بأمر ممن أخذوه بأمره ليتمّ مناسك الناس وحجّهم.
وكان الذي جاء به أبو محمّد ابن سنبر ثم سار به إلى مكّة وردّه إلى موضعه.
ذكر الآثار الجميلة التي أثرها الوزير أبو محمد المهلبي حتى عمرت الخراب وتوفر دخلها واتصل الحمل منها بعد انقطاعه
قد كان معزّ الدولة لمّا فتح البصرة ودخلها تظلّم إليه الرعية من سوء معاملات البريديين فعرف أكثرها وذلك أنّ أبا يوسف البريدي خاصّة تفرّد بالنظر في أعمال البصرة وجباية أموالها.
فرسم لأبي الحسن ابن أسد الكاتب أن يطالب ملّاك الأرضين التي يؤخذ منها حقّ العشر - وتعرف بصدقات أراضي العرب - بالبصرة عن كل جريب من الحنطة والشعير عشرين درهما وإنّما فعل ذلك بسبب زيادة الأسعار بالبصرة وأنّ الكر بالمعدّل من الحنطة بلغ بها مائتي دينار ولم يستعمل ذلك إلّا على تدريج.
فلمّا قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف أقرّ ابن أسد على العمل وأجرى الناس على ذلك الرسم.
وكانت العمارة تنقص في كل سنة لأجل جور البريديين وعمّالهم وهم يطالبون بالعبرة فنقص مال العبرة عن جربان العمارة فزاد ذلك ما يلزم كل جريب في السنة على ما كان يلزمه في السنة التي قبلها.
وكان قد قحط أهل البصرة بالمحاصرات التي لحقتهم فألزموا أن يزرعوا تحت النخل حنطة وشعيرا فلمّا فعلوا ألزموا عن كل جريب أربعين درهما فقصّروا في العمارة، فجعل ما كان يرتفع عبرة عليهم واستوفى من ملّاك أرض العشر فتهارب الناس فزاد ذلك على من بقي.
فلمّا تقلّد أبو محمّد المهلبي وزارة معزّ الدولة ودخل البصرة وتظلّم إليه أهل البصرة من العبر التي جعلت عليهم في أرضى الحنطة والشعير فوعدهم بكل ما أنسوا به.










ثم قرر أمرهم على أن يردّوا إلى رسمهم القديم في أخذ العشر حبّا بعينه من غير ترييع ولا تسعير ونظر فيما بين ذلك وبين ما يؤخذ منهم على تقريب فأشار على أرباب العشر أن يبتاعوا فضل ما بين المعاملة على الظلم والمعاملة على الإنصاف بثمن يرغب فيه معزّ الدولة عاجلا فيسهل عليه ما ينحطّ من الارتفاع مع ما يتعجّل له من المال ثم يضاف إلى ذلك ما يثمّره العدل وموقعه من قلوب الناس مع الرجاء في المستقبل لزيادة الارتفاع.
فاستجابوا وتقرر الأمر بينهم على ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم وكتب لهم بذلك وثيقة ثم حطّ من الجميع عن الضعفى مائتي ألف درهم وكتب إلى معزّ الدولة بأنّ في ذلك حظا وصلاحا ووفورا في ارتفاع الناحية في المستقبل فحسن موقع فعله من معزّ الدولة فأمضاه.
وحضر البصريون فاشهدوا على المطيع لله بالبيع وسجّلوا بالابتياع ونسب المبتاع إلى فضل ما بين المعاملتين في العبر فعمر الناس وتضاعف الارتفاع للسلطان وزال عن البصرة تلك الرسوم وصار يرتفع عن المراكب ما يعدل ألفي ألف درهم فكان هذا من الآثار الجميلة لأبي محمّد المهلّبي.
ورود الخبر بشغب في عسكر سبكتكين وانصراف القرامطة مع الأتراك
وفي هذه السنة ورد الخبر بشغب جرى في عسكر الحاجب سبكتكين وأنّ القرامطة انصرفوا مع الأتراك بعد أن أوقع بهم ركن الدولة.
ذكر السبب في ذلك
كان الاجتهاد شديدا في استصلاحهم لأنّهم كانوا بإزاء حرب فلمّا تعذّر قال ركن الدولة:
« هؤلاء أعداء معنا في عسكرنا وهم أشدّ علينا من أعدائنا الذين بإزائنا والوجه أن نحاربهم ونطردهم. » فحاربهم وهزمهم فأمّا العرب فصاروا إلى معزّ الدولة وأمّا الأتراك فمضوا إلى الموصل ولمّا سار ركن الدولة إلى همذان ارتحل ابن قراتكين من الريّ إلى أصبهان.
وفي هذه السنة واقع أبو محمّد المهلّبي عمران بن شاهين ومع أبي محمّد المهلّبي روزبهان فكانت على المهلبي وروزبهان واستؤسر أكثر قوّادهما وقتل أبو الفتح ابن أبي طاهر بعد أن استظهر المهلّبي واستعلى.
ذكر السبب في ذلك وفي هزيمة المهلبي بعد الاستظهار على عمران
كان السبب في ذلك أنّ معزّ الدولة كان عوّل على روزبهان في محاربة عمران فبنى آلات الماء وأثبت الرجال واحتشد فطاوله عمران وتحصّن في مكامنه من البطائح فضجر روزبهان وأقدم عليه طلبا لمناجزته فاستظهر عليه عمران وهزمه وهزم أصحابه وغنم جميع آلاته وسلاحه فقوى بها.
وتضاعف طمعه في السلطان وضرى أصحابه على جند السلطان واستخفّوا بهم فكان بعد ذلك إذا اجتاز بهم الحجاب الكبار المحتشمون والقوّاد والأمراء من الديلم والأتراك سفهوا عليهم وطالبوهم بحق المرصد والبذرقة فإن تأبّى عليهم أحد تناولوه بالشتم القبيح والضرب المهين وكان الجند لا يستغنون عن الاجتياز بهم لحاجتهم إلى ضياعهم ومعاملاتهم بالبصرة والأهواز ثم انقطع طريق البصرة إلّا على الظهر.
فشغل ذلك قلب معزّ الدولة وكثر بكاء الأمراء والحجّاب والقوّاد بين يديه بما يجرى عليهم من الهوان في اجتيازاتهم فكتب إلى الوزير المهلّبي بالإصعاد إلى واسط لتلافي الحادثة والتجرد لطلب عمران ومعاودته الحرب وجرد إليه عسكرا جرّارا فيه ابن أبي طاهر ووجوه قوّاده وغلمانه وحمل إليه سلاحا كثيرا وأطلق يده في إنفاق الأموال فزحف إلى عمران وسدّ عليه مذاهبه وانتهى إلى مضيق في البطيحة [ و ] شعب لا يعرف مسالكها إلّا عمران وأصحابه.
فأحبّ روزبهان أن يلحق المهلّبي مثل ما لحقه من الهزيمة ولا يستبدّ بالظفر فأشار عليه بالاقتحام والهجوم وتوثق المهلّبي وأراد سدّ تلك المضايق فأخذ روزبهان في التضريب عليه وعارضه في كلّ ما دبّره ومنعه من هذا الاستظهار وسدّ الشعب وكتب إلى معزّ الدولة يستعجزه ويذكر أنّه إنّما يحجم ويجنح إلى المطاولة ليحتسب بالأموال في النفقات.
ولم يزل بذلك وشبهه إلى أن وردت كتب معزّ الدولة بالاستبطاء فترك المهلبي الحزم وركب الخطأ وعدل عمّا يدبّره كله ودخل بجميع عسكره هاجما على عمران وتأخّر روزبهان ليصير أول الخارجين عند الهزيمة.
وقد كمّن عمران كمناءه في تلك المعترضات وشحنها بالآلات الموافقة لتلك المضايق فخرجوا على العساكر وهم متزاحمون متضايقون في طريق الماء لا يعرفونها فوضعوا فيهم الحراب فقتلوا وأسروا وانصرف روزبهان موفورا ونجا الوزير المهلّبي سباحة وحصل القوّاد والوجوه في الأسر.
فاضطرت الحال إلى مصالحة عمران فقوى واستفحل أمره وأجيب إلى كل ما اقترح.
وقد كنا ذكرنا ورود الخبر بمسير السلّار المرزبان إلى الريّ ووعدنا هناك باستقصاء خبره والآن حين نبدأ بذلك.
ذكر الأسباب التي بعثت السلّار المرزبان على قصد الريّ وما انعكس عليه من تدابيره حتى أسر وحبس في القلعة بسميرم
كان المرزبان أنفذ رسولا إلى معزّ الدولة في أمور حمله إيّاها فورد مدينة السلام وقد رحل عنها إلى البصرة فافتتحها وأقام هذا الرسول منتظرا له إلى أن عاد فأدّى إليه الرسالة وكان فيها ما غاظه فتقدّم بحلق لحيته ففعل وأسمع نهاية ما كره وانصرف على هذه الحال.
فحكى للمرزبان ما جرى عليه فامتعض وأخذ في جمع الرجال والاستعداد ورأى أن يبتدئ بالريّ فراسل ناصر الدولة سرّا يبذل له المعاونة بنفسه وأولاده ورجاله وماله وأشار عليه بأن يبتدئ بقصد بغداد فخالفه وأجابه بجميل وأعلمه أنّه يرى الصواب في الابتداء بالريّ فإن تمّ له ما يريد طلب بعد ذلك بغداد وغيرها.
وكان استأمن إليه من قوّاد الريّ عليّ بن جوانقوله فعرفه نية القوّاد الذين وراءه بالري وأنّهم على المصير إليه فزاده ذلك طمعا واستدعى أباه محمّد بن مسافر وأخاه أبا منصور وهسوذان.
فلمّا وافاه أبوه تلقّاه وقبّل الأرض بين يديه وأجلسه في صدر الدست ووقف بحضرته وامتنع من الجلوس حتى حلف عليه أبوه دفعات كثيرة فجلس وامتنع وهسوذان من الجلوس فلمّا جنّ الليل خلوا جميعا وتفاوضوا.
فلمّا عرف أبوه صحّة عزمه في قصد الريّ فثأ عزمه وعرّفه أحوالا توجب الامتناع من قصدها فأبى عليه وقال:
« قد وردت عليّ كتب وأكثر القوّاد هناك مستعدّون للانحياز اليّ. » فلمّا كان وقت الوداع بكى أبوه وقال:
« يا مرزبان أين أطلبك بعد يومي هذا. » فقال مجيبا له:
« إمّا في الإمارة بالريّ وإمّا بين القتلى. »
وقد كان ركن الدولة حين عرف خبره كتب يستمدّ من أخويه عماد الدولة ومعزّ الدولة وخشي أن يعاجله المرزبان قبل ورود المدد فكتب إليه على سبيل المكر والخديعة يعظّمه ويستخذي له ويسأله أن ينصرف عنه على شريطة أن يفرج له عن أبهر وزنجان وقزوين.
ولم تزل الرسائل تتردّد بينهما إلى أن ورد حضرة ركن الدولة بارس الحاجب في ألفى رجل من جيش عماد الدولة وورد سبكتكين الحاجب في ألفى رجل من جيش معزّ الدولة وكان قد صار إليه محمّد بن عبد الرزاق مستأمنا من عسكر خراسان ومحمّد بن ماكان مددا من جهة الحسن بن الفيروزان فلمّا تناهى استظهاره قبض على جماعة من قوّاده الذين شكّ فيهم واتّهمهم بمكاتبة المرزبان وسار إلى قزوين في جميع هذه الجيوش.
فعلم المرزبان أنّه لا طاقة له به ولكنّه أنف من الرجوع فعمل على محاربته وكان مع المرزبان يومئذ خمسة آلاف من الديلم والجيل والأكراد فحملت ميمنة ركن الدولة وميسرته على ميمنة المرزبان وميسرته فانهزمتا جميعا وثبت هو في القلب إلى أن قتل بين يديه حموه بلى وونداسفجان بن ميشكى وأسر عليّ بن ميشكى المعروف ببلّط ومحمّد بن إبراهيم وعدّة من أكابر قوّاده وأحاطت الرجال به فأسر وحمله ركن الدولة إلى الريّ ومنها إلى أصبهان وحمل من أصبهان إلى قلعة سميرم.
فلمّا انفصل من الريّ مع جماعة من قوّاد ركن الدولة وخوّاصه وكانوا مضمومين إلى الأستاذ الرئيس حقّا أعنى أبا الفضل ابن العميد رحمه الله كان هو المتولى حفظه والاستظهار عليه إلى أن يحصل في القلعة.
ذكر تدبير تم على المرزبان حتى حصل بإصبهان بعد أن كان واطأ الديلم الذين أخرجوا معه على الفتك بأبى الفضل ابن العميد والهرب به
حدّثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل قال:
لمّا كنّا بين الريّ وأصبهان تحقّق عندي مراسلة الديلم إيّاه واجتماعهم على أن يأخذوه قهرا ويحلّوا قيوده ويفتكوا بي وظهر ذلك حتى كادت المكاشفة تقع.
فلمّا خفت فوت التدبير سايرته وهو في عمارية وحادثته وهو ينتظر في ذلك اليوم أن يتمّ له ما يريد وجعلت أقاربه وألين له. فأظهر التوجّع والتألم مما حصل فيه فلمّا أطمعته في نفسي - وكان لا يطمع في ذلك من قبل - أمال إليّ رأسه وقال:
« أنت مقبل فإن كنت صادقا فابدأ بحلّ قيودي وعليّ لك كيت وكيت. » وضمن الضمانات التي تبذل في مثل ذلك الوقت. فأوهمته أنّى لا أعرف شيئا من مواطأة الديلم له وقلت:
« أخشى ألّا يساعدني من معي على ذلك. » فقال: « غفر الله لك، أنت لا تعرف الصورة، جميع من معك قد عملوا على فكّ قيودي والفتك بك وأنا أريد ذلك الساعة إن شئت. » فقلت: « يكفيني أن أثق بذلك ثم أنا أول عبد خدمك وناصحك وتابعك حتى يتمّ لك ما تريده. » وحدّثته بأشياء أنكرتها من صاحبي وحقود في قلبي عليه فاستدعى واحدا بعد واحد من القوّاد الذين كانوا معي وأسرّ إليهم أنّى معه وموال له ووصل حديثه معهم بأن أدخلنى معهم في التدبير فأظهرت سرورا شديدا بذلك وتواعدنا النزول في المنزل القريب وإتمام التدبير.
فلمّا نزلنا وضربت خيمتنا وخركاهاتنا وحصل في موضعه راسلني وأخلانى بنفسه ثم قال لي:
« ابعث إلى فلان وفلان - يعنى جماعة ممن يثق بهم - حتى يحضروا. » فقلت: « أيّها السلارّ، إنّ هاهنا تدبيرا يجب أن تسمعه فإن وقع بوفاقك وإلّا فما تأمر به ممتثل. » فقال: « وما هو. » فقلت: « إنّ حرم ركن الدولة وأولاده وخزائنه كلّها بإصبهان وأنا وزيره وثقته والمتولى للجميع فلو امتددنا على صورتنا هذه حتى لا نتّهم لتمكنت من القبض على الجميع وحصلنا في مدينة عامرة نتمكن فيها من التدبير ومع ذلك فإنّ حرم جميع القوّاد بإصبهان وكذلك أولادهم فإذا قبضنا عليهم لم يبق في واحد منهم فضل لمحاربتك واستسلم الجميع لك وانهدّ جانب ركن الدولة انهدادا لا انجبار له وتمكنّا أيضا من قلاعه وذخائره وأخرجناها ولم يكن له بقية وإن نحن عاجلنا الأمر وخرجنا من هذا المكان طلبنا الخيول وأحدقت بنا ولم نأمن مع ذلك تقرّب بعض من هو الآن معنا إلى تلك الجنبة ونحن في عدة يسيرة وحوالينا أصحابه ورجاله ولا نثق بالسلامة إلى المأمن ».
فرأيته قد تهلل وجهه ولم يملك نفسه لما استخفّه من السرور وقال:
« ليس الرأي إلّا ما رأيت. » قلت: « فإني منصرف عنك فراسل أنت كلّ من واطأك على رأيك الأول بما حدث لك من الرأي. »
قال: « نعم. » وقمت عنه وليس عنده شكّ في حصول الملك له بمواطاتي وأنّه قد أقبل جدّه وتمّت سعادته بتمام تدبيري وشاع في أصحابه ومن كان واطأه أنّا في تدبير فسكنوا بعد أن كانوا هموا بما هموا به.
وسرت آمنا حتى حصلت بإصبهان فلمّا تمكّنت من الرجال والتدبير بدأت بالقبض على أولئك القوّاد واستظهرت على المرزبان بثقاتى حتى حصّلته في القلعة بقيوده.
ذكر ما جرى في أمر عسكر المرزبان في آذربيجان بعد حصوله في الأسر
اجتمع من أفلت من عسكره وقوّاده وفيهم جستان بن شرمزن وعليّ ابن الفضل وشهفيروز بن كردويه وجماعة من الرؤساء مع ألفى رجل من الفلّ إلى الشيخ محمد بن مسافر، فعقدوا له الرياسة عليهم وصاروا إلى أردبيل فملك آذربيجان وهرب ابنه وهسوذان منه وتحصّن في قلعته بالطرم لما كان يعرفه من حقده وسوء رعايته.
فلم تأت الأيّام على محمّد بن مسافر حتى تجبّر وعاد إلى أسوأ أخلاقه مع الديلم فاجتمع الديلم على الوثوب به فشغبوا وهمّوا بقتله فالتجأ بالضرورة إلى ابنه وهسوذان وعنده أنّه يعصمه فقبض عليه وحبسه في قلعة شيشخان التي كان فيها وضيق عليه فلم تنبسط له يد ولا نفذ له أمر حتى توفي وكانت وفاته قبل خلاص ابنه المرزبان من قلعة سميرم.
وقلد ركن الدولة محمّد بن عبد الرزاق أعمال آذربيجان بعد أسر المرزبان وأنفذه إليه فتحيّر وهسوذان في أمره وأضطرّ إلى إخراج ديسم بن إبراهيم من القلعة لطاعة الأكراد إيّاه ولرياسته القديمة على آذربيجان فأطلقه وخلع عليه وقوّاه ومكّنه وواقفه على جمع أكراد آذربيجان ومن يطيعه من غيرهم ويقصد محمّد بن عبد الرزاق.
وكان الديلم بعد محمّد بن مسافر اجتمعوا إلى عليّ بن الفضل ورأسوه فتوسّط وهسوذان بينهما حتى أطاعه عليّ بن الفضل وتمّ أمره وسار ديسم إلى أردبيل واستكتب أحمد بن عبد الله بن محمود وورد ابن عبد الرزاق فانحاز عنه إلى ورثان من نواحي برذعة ليستخرج الأموال وترد عليه عساكر الأكراد.
ذكر خطأ ديسم في إيحاش وزيره حتى فارقه وثلمه فهزمه عدوه
كان بنواحي خويّ وسلماس كاتب نصراني يعرف بابن الصقر من جهة المرزبان قبل أسره فلمّا بلغه خبر ديسم صار إليه وحمل إليه ما كان جباه فحسن موقعه من ديسم فأكرمه وبالغ في إكرامه حتى صار يخلو به ويشاوره فاستوحش وزيره ابن محمود واتّقاه.
فلمّا استعدّ ديسم للقاء ابن عبد الرزاق سلم إلى ابن محمود خزائنه ونقله وأمره بالمصير إلى جبال موقان للتحصّن بها استظهارا إلى أن ينكشف الأمر.
فتسلّم ابن محمود ذلك كلّه وعدل إلى أردبيل وأرسل ابن عبد الرزاق بأنّه صائر إليه وسأله أن يستقبله بطائفة من عسكره ففعل ذلك ووقع ذلك من ابن عبد الرزاق أحسن موقع.
وفتّ في عضد ديسم وبلغه ذلك يوم القتال فضعفت نفسه واضطرب رأيه وتبيّن ذلك منه أصحابه فاضطربوا واستظهر عليه ابن عبد الرزاق فهزمه.










ودخلت سنة أربعين وثلاثمائة
وفيها لحق ركن الدولة بابن قراتكين غلام صاحب خراسان وواقعه بروذبار من خان النجان سبعة أيام متوالية فانهزم ابن قراتكين وذلك في المحرم من هذه السنة.
ابتداء ذكر مشاهدات مسكويه صاحب هذا الكتاب وما يجرى مجرى مشاهداته
قال الأستاذ أبو عليّ أحمد بن محمد مسكويه صاحب هذا الكتاب:
أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة فهو عن مشاهدة وعيان أو خبر محصّل يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمّد بن الحسين بن العميد - رضي الله عنه - خبّرنى عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره وما اتّفق له فيها، فلم يكن أخباره لي دون مشاهدتى في الثقة به والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمّد المهلّبي - رحمه الله - خبّرنى بأكثر ما جرى في أيامه وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة.
وحدّثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجرّبته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.
فحدّثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة وأنا أحكى أولا السبب في ورود ابن قراتكين:
ذكر السبب في ورود ابن قراتكين الري
كان ركن الدولة عند وفاة أخيه عماد الدولة بنواحي جرجان وذلك أنّه قصد وشمكير وهزمه وتبعه إلى جالوس فلمّا بلغه وفاة أخيه اضطرب وجزع وعلم أنّ فارس ستضطرب على ابنه فسارع إلى المسير إليها لتوطئة الأمور وانصرف إلى الريّ فاستخلف بها عليّ بن كامه واتسع خناق أعدائه ببعده عن ممالكه وكلّ حدّث نفسه بأمر.
وكتب ركن الدولة إلى معزّ الدولة بما عزم عليه ومما كان من وفاة أخيهما فكتب معز الدولة إلى وزيره أبي جعفر الصيمري وهو يومئذ منازل لعمران بن شاهين بالبطائح بان يخلّى ما هو بسبيله ويصير إلى فارس لخدمة ركن الدولة ففعل وسبق وصوله وصول ركن الدولة فحسن موقع ذلك من ركن الدولة.
فلمّا وصل إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه بباب إصطخر فمشى حافيا حاسرا ومشى أهل عسكره وعسكر فارس على تلك السبيل ولزم المصيبة ثلاثة أيّام إلى أن خاطبه الرؤساء وسألوه أن يرجع إلى المدينة ففعل وأقام ستة أشهر.
وأنفذ نصيبا من تركة عماد الدولة إلى أخيه معزّ الدولة وكان في جملتها مائة وسبعون غلاما ومائة وقر من السلاح ثم ما يجرى مجرى ذلك من الثياب والآلات واقتطع من أعمال فارس أرجان - وهي كورة من كور فارس - إلى أعماله وخلّف وزيره هناك وانقلب إلى الريّ.
وحدّت أطماع من ذكرت وامتدّت إلى الريّ والجبل وإصبهان وتسرّبت العساكر إليها فمن ذلك مسير صاحب جيش خراسان إلى الريّ ومعه محمد بن ماكان من جهة الحسن بن الفيروزان وسار شيرج بن ليلى من قبل وشمكير ثم جمهور عسكر خراسان وكان أبو الحسن عليّ بن كامه قد انحاز إلى إصبهان وتفرّق قوّاد عسكر ابن قراتكين في ولايات أعمال الجبل وكان منهم بهمذان ينال قام وفي كل بلد من بلدان الجبل مثله.
وكان ركن الدولة قد كاتب أخاه معزّ الدولة وهو بعد بفارس يستدعى من يدفع معرّات هؤلاء فأمدّه بسبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك والديلم وفيهم جماعة من الأتراك القدماء التوزونيّة وجماعة من العرب وكان مسيره من بغداد سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فدبّر سبكتكين تدبيرا جيّدا.
ذكر تدبير صواب تمكن به سبكتكين من أول عدو لقيه بقرميسين
رأى سبكتكين أن يخلّف عسكره وما ثقل من سواده وينتخب من الفرسان من يثق به ويسرى إلى قرميسين وكان فيها قائد من قوّاد الأتراك الخراسانية يقال له: بجكم الخمارتكينى، وكان ينال قام أنفذه إلى همذان واليا عليها فكبسه سبكتكين وهو في الحمّام وأخذه أسيرا وأوقع برجاله وأصحابه وأنفذه إلى معزّ الدولة فاعتقله مدّة طويلة ثم أطلقه.
ولمّا بلغ ولاة أعمال الجبل ما جرى على بجكم هذا فارقوا مراكزهم واجتمعوا إلى ينال قام بهمذان.
فلمّا سار سبكتكين نحوهم ساروا من همذان بأجمعهم فلم يحاربوا وورد سبكتكين همذان وأقام بها منتظرا ركن الدولة وذاك أنّ كتب ركن الدولة كانت ترد عليه أنّه يسير من فارس على طريق الجبل ثم تأخّر انتظارا لانحسار الثلوج ثم ورد همذان وتقدّم إلى سبكتكين بالمسير على مقدّمته.
فشغب الصنف من الأتراك التوزونية وأظهروا التضجّر بالمقام الطويل فتوسّط الأستاذ الرئيس أبو الفضل - رحمه الله - بينهم وداراهم وسكّنهم فسكنوا في الوقت ثم عاودوا من الغد وطال ذلك منهم حتى اتّهموا.
فسمعت أبا الفضل ابن العميد - رحمه الله - يقول:
إني قلت للأمير ركن الدولة: هؤلاء أعداؤنا وقد كاشفونا فكيف نسير بهم إلى أعدائنا؟ فاتّفق الرأي بيننا أن نسكّنهم فإن سكنوا وإلّا حاربناهم وفرغنا من العدو الأقرب فلمّا عملنا على ذلك عملوا على الحرب فأوقعنا بهم ومضوا مفلولين. وسبق خبرهم إلى معزّ الدولة فكتب إلى أبن أبي الشوك الكردي وسائر وجوه الأكراد المقيمين في أعمال حلوان بطلبهم والإيقاع بهم ففعلوا ذلك وطلبوهم وأسروا منهم وقتلوا. فأمّا الأسارى فأنفذهم إلى بغداد وأمّا الفلّ فصاروا إلى الموصل بحال سيّئة.
وأقام ركن الدولة بهمذان لتعرّف خبر ابن قراتكين إلى أن صحّ عنده مسير ابن قراتكين من الريّ نحو همذان فبثّ جواسيسه وطلائعه لتعرّف خبره.
فأتاه الخبر بأنّه عدل عن سمت همذان وأخذ على طريق يؤدّى إلى إصبهان.
فسار ركن الدولة في أثره يقفوه حتى انتهى إلى جرباذقان ووصل ابن قراتكين إلى إصبهان فعاث بها عيثا كثيرا مدة ما أقام ثم عرف قرب ركن الدولة منه فسار إلى طرف مفازة بقرب من إصبهان.
فنزل منها على زرّين روذ ليكون وصول ركن الدولة إليه مع عسكره، وقد قطعوا المفازة ومسّهم التعب والعطش ولا يصلون إلى الماء. فرأى ركن الدولة أن يعدل إلى خان النجان ليلزم سمت قرى زرين روذ ولا يعدم الماء واتصل ذلك بابن قراتكين فانقلب عن موضعه معترضا له لئلا يملك عليه ظهره. فالتقيا في الموضع المعروف بالروذبار وبينهما زرّين روذ ولكنّه يخيض ولا يمنع الراجل ولا الفارس العبور وذاك أن الفصل كان ضيّقا. فدامت الحرب بينهما سبعة أيّام واشتدت في اليوم السادس خاصة ثم انهزم ابن قراتكين في اليوم السابع.
وعاد الحديث إلى حكاية أبي الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة. حكى أنّه لحقه وركن الدولة وسائر الجيش من الاضاقة وعوز الميرة والعلوفات وتعذّر جميع الأقوات ما لم يلحقها مثله وذاك أن الأكراد أحدقوا بنا فلم يتمكّن أحد من اطّلاع رأسه عن المعسكر.
وانقطعت عنّا المواد وكنا نصل إلى أقواتنا مما تحمله الأكراد إلينا ويبيعوناه بأوفر الأثمان وكذلك العلوفات فكان يجيئنا الكردي بجراب أو مخلاة أو وعاء فيه دقيق فيبيعناه بحكمه فإذا أخذناه ونفضناه وجدنا قدر الدقيق فيه مقدار ما رأيناه في رأس الوعاء وأسفله كلّه تراب ثم يختلط ذلك القدر اليسير بالتراب فلا ينتفع بشيء منه وكذلك يفعل بالشعير والحنطة وكانت لهم حيل تجرى هذا المجرى كثيرة.
قال: فكنّا ننحر الجمل أو الدابّة فنتوزّع لحمه بين عدد كبير ونتبلّغ به على عادة الديلم وصبرهم على المجاعة والشدّة في الحرب وكان أعداؤنا الأتراك في مثل حالنا إلّا أنّهم لا يصبرون كما نصبر ولا يقنعون بما نقنع، فإذا ذبحنا نحن جزورا ذبحوا أضعافا كثيرة. ثم إنّ أصحابنا يعودون إلى نشاطهم في الحرب ويتسخط أولئك ويشغبون على صاحبهم ولا يناصحونه في الحرب إلى أن ملّوا.
وأصبحنا يوما وقد رحلوا من معسكرهم فتركوا خيمهم بإزائنا وأتانا الخبر برحيلهم فما صدّقنا به حتى عبر جماعة وتلاهم العسكر أوّلا أوّلا وأشفقنا أن يكون لهم كمين أو مكيدة فلم يكن إلّا هزيمة وذهبوا على وجوههم.
ذكر خبر عجيب واتفاق غريب
حكى الأستاذ أبو الفضل ابن العميد - نضر الله وجهه - أنّ ركن الدولة دعاه في اليوم السابع وقد نفد صبره وصبر أصحابه وشكا إليّ شدّة الأمور وصعوبته عليه وكأنّه يفكّر في حيلة للانهزام وإن كانت متعذّرة عليه فقلت:
« أيّها الأمير، إنّك كنت منذ أسبوع مالك أكثر، تملك سرير الخليفة فينفذ أمرك في أكثر بلاد الإسلام ومن لم يكن من الملوك في سائر الأرض تحت أمرك وولايتك فهو أيضا تحت حكمك حشمة لك يقبل أمرك تجمّلا ويطيعك تهيبا وقد أصبحت اليوم وأنت لا تملك من الأرض إلّا ما عليه مضربك وقد اجتمع عليك هؤلاء الأعداء ليغصبوك عليه ويمنعوك منه ولا مفزع لك إلّا إلى الله - عز وجل - فأخلص نيّتك له واعقد عزيمتك على ما بينك وبينه تعالى يطلع على صدقها ويعرف صحّتها وانو للمسلمين خيرا ولكافة الناس مثله وعاهده على ما تعمله وتفيء به من الأعمال الصالحة والإحسان فيما تلى إلى من تلى عليه فإنّ الحيل البشرية كلّها انقطعت بنا ولم يبق لنا إلّا هذا الذي نصحتك به. »
قال: فتبسّم وقال:
« يا أبا الفضل قد سبقتك إلى ما أشرت به. » وجرى في هذا الباب ما يجرى مثله من النذور وصدق النيّة، وبتنا تلك الليلة على حالنا. فلمّا كان في الثلث الأخير من الليل جاءتني رسله متقاطرة فصرت إليه وهو مسرور قويّ النفس بخلاف ما عهدته وقال:
« يا أبا الفضل أنت تعرف مناماتى وصدقها وقد رأيت ما أرجو أن يكون تأويله قريبا غير بعيد. » قلت: « وما ذاك. » قال: « رأيت كأنّى على دابّتى المعروف بفيروز وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وتذكر لي نعمة الله علينا فيه وأن الفرج جاءنا من حيث لا نحتسب. فبينا نحن في هذا الحديث وشبهه حتى مددت عيني بين غبرة الموكب إلى الأرض فرأيت خاتما يتلألأ قد سقط إلى الأرض عن صاحبه بين التراب فقلت للركابى الذي بين يدي: يا غلام هات ذاك الخاتم.
فتطأطأ ورفعه إليّ فإذا خاتم فيروزج فأخذته وجعلته في اصبعى السبّابة وتبرّكت به وانتبهت وقد تفألت به وأيقنت بالظفر. » وذاك أن الفيروزج معناه الظفر إذا عرّب وكذلك لقب دابّته الذي رآه فيروز.
قال أبو الفضل ابن العميد رحمه الله:
فو الله ما أضاء الصبح حتى جاءنا الخبر والبشرى بأنّ العدوّ قد رحل فما صدّقنا به ولا التفتنا إليه حتى تواترت الأخبار وعبر سرعان الخيل وعادوا إلينا مستبشرين فقمنا حينئذ وركبنا متعجّبين لا نعرف سبب هزيمته حتى عبرنا على حذر من كمين أو مكيدة.
فبينا نحن نسير وأنا إلى جانب ركن الدولة وقد تعمّد ركوب دابّته فيروز ليصدّق رؤياه إذ صاح الأمير بغلام بين يديه:
« يا غلام ناولني ذلك الخاتم. » فتطأطأ وناوله من الأرض خاتم فيروزج: فأخذه ولبسه في سبّابته والتفت إليّ وقال:
« هذا بلا تأويل هو الخاتم الذي حدّثتك بحديثه منذ ساعة. » فهذا من طرائف الأخبار ولولا صدق محدّثه وجلالة قدر من حكاه لي وبعده عن التزيد لما سطّرته في كتابي هذا.
من حوادث هذه السنة
وفيها تمّ الصلح بين معزّ الدولة وبين عمران بن شاهين وقلّده معزّ الدولة البطائح وأطلق أخوته وعياله وأطلق عمران بن شاهين من استأسر من القوّاد وغيرهم.
فأمّا ابن قراتكين فإنّه عاود حرب الأمير ركن الدولة وجرت بينهما وقائع عظيمة بناحية الريّ ومات ابن قراتكين فجأة وكان سبب وفاته أنّه كان شرب أيّاما متوالية بلياليها فأصبح يوما ميتا وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
وفيها انهزم صاحب عمان من باب البصرة من بين يدي أبي محمّد المهلّبي وأسر جماعة من أصحابه وأخذت عدّة من مراكبه ودخل أبو محمّد المهلّبي بغداد ومعه المراكب والأسارى.
ودخلت سنة احدى وأربعين وثلاثمائة
وفيها ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وأحرقوا مساجدها.
ضرب معز الدولة المهلبي بالمقارع
وفيها ضرب الأمير معزّ الدولة أبا محمّد المهلّبي بحضرته بالمقارع وحمله إلى داره وأقرّه على كتابته.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ أبا محمّد المهلّبي لمّا خرج إلى عمان وأنفق في ذلك الوجه ما أنفق ثم انهزم تنكّر له معزّ الدولة وهمّ بالقبض عليه. فلمّا حدث بالريّ ما حدث من ورود جيش خراسان إليها شغله ذلك عمّا في نفسه منه.
وكان ورد أبو العبّاس الحنّاط إلى الحضرة برسالة ركن الدولة يطالب بمال يحمل إليه فدفعت الضرورة إلى مكاتبة الوزير المهلّبي وهو بواسط قد وافاها منهزما وأمر بالعدول إلى الأهواز وتسليم ألف ألف درهم إلى أبي العبّاس الحنّاط من القلعة وردّ العوض ممّا يستخرجه وأن يواصل الحمل إلى الحضرة ويسرّب الجيوش إلى الأهواز على طريق إصبهان إلى الريّ فنفذ لذلك كلّه وفي نفس الأمير معزّ الدولة عليه ما فيها.
فلمّا أصعد المهلّبي إلى الحضرة أثّر في أمر يوسف بن وجيه صاحب عمان أثرا كبيرا وذاك أنّه كان قصد البصرة فسبقه أبو محمّد المهلّبي إليها وحاربه وهزمه وأسر أصحابه وأخذ مراكبه كما ذكرنا.
ذكر السبب في طمع ابن وجيه في البصرة ثم انهزامه منها
كنّا ذكرنا ما كان من استيحاش القرامطة من معزّ الدولة ومن جوابه إيّاهم عن رسالتهم واستخفافه بهم. فلمّا عرف ابن وجيه ذلك كاتبهم وأطمعهم في البصرة وسألهم أن يمدّوه من ناحية البرّ فأمدوه بأخيهم أبي يعقوب في سريّة قويّة فورد باب البصرة وأنهض ابن وجيه رجاله في مراكبه من ناحية البحر ونهض هو بنفسه.
ووافق ذلك فراغ المهلّبي من الأهواز فبادر إلى البصرة وأخرج معه من القوّاد والرجال والزبازب والطيارات وآلات الماء كفايته وشحنها بالرجال وأزاح عللهم في الجيش والسلاح وأنفذ إليه معزّ الدولة مددا من بغداد.
وكان المهلّبي رتّب على سور المدينة بالبصرة الرجال يحمونه وجمع إلى نفسه وجوه القوّاد مثل لشكر ورز بن سهلان وموسى فياذه وموسى بن ماكان وأشباههم من وجوه الناس وطبقات الغلمان وحارب ابن وجيه أيّاما ثم هزمه وظفر المهلبي بمراكبه ورجاله وأسر جماعة من وجوه أصحابه فخفّ بذلك بعض ما كان في قلب معزّ الدولة وانجلى همّ كثير كان في نفسه.
فلمّا قدم بغداد تلقّاه معزّ الدولة وجامله مديدة ثم وقف على طازاذ مال من ضمانه له قدر وكان سبّب عليه للأتراك والمهمّات فردّ التسبيبات وطالب أصحاب المال باستحقاقاتهم وأضجر ذلك معزّ الدولة فطالب أبا محمّد المهلبي وهزّ المهلبي طازاذ فاستسلم وأظلمت القصة.
فدخل المهلبي إلى معزّ الدولة فصدقه عن الصورة فاغتاظ من حيرته في الأمر وأثار ما كان في نفسه منه فزبره وطرده من بين يديه وأمره ألّا يعود إليه إلّا بعد أن يستدعيه فانصرف كئيبا. وحرّك طازاذ فصحح له مالا ونهض إلى الأمير معجّبا له من طازاذ بغير استدعاء من الأمير له.
المهلبي يتحمل مائة وخمسين مقرعة
فلمّا حصل بين يديه وأخبره بالصورة بطش به وضربه مائة وخمسين مقرعة يراوح منها بأن يرفع عنه الضرب حتى يوبخه ويبكّته بذنوبه منذ استخدامه ثم يعيد عليه الضرب إلى أن تفسّخ وثقل وقيل له إنّه كالتالف وأراد أن يرمى به إلى دجلة ثم تماسك وردّه إلى منزله ووكّل به.
ضرب طازاذ والعمل على صرف المهلبي دون جدوى
وفي اليوم الثاني استدعى طازاذ أيضا وضربه وعمل على صرف المهلّبي فلم يرتض خدمة أحد ممّن كان بحضرته في الوقت فترجّح رأيه وصعّد وصوب فلم يقم أحد مقام أبي محمد.
وكان أبو محمد المهلبي شهما قويّ النفس لا يتحرّك لشيء من نوائب الدهر فعمل عملا يشتمل على ثلاثة عشر ألف ألف درهم باقية في الممالك والأعمال وأنفذه إليه وذكر أنّه يقيم باستخراجه وأنّه إن تمادت الأيّام في التوكيل به تمزّقت وطمع فيها فشاور معزّ الدولة من حضره وكان فيهم أبو مخلد عبد الله بن يحيى وقال:
« هل يجوز أن أستنيم إلى هذا الرجل وقد لحقه مني هذا المكروه العظيم؟ » فقال أبو مخلد:
« قد ضرب مرداويج وزيره أبا سهل أعظم من هذا الضرب ولحقه ما لحقك من السوء عنه ثم خلع عليه وردّه إلى أمره وكان لا يطيق المشي لما حلّ به من الضرب فركب عمّاريّة ونثر عليه في الطريق مال ولا يمكنه أن يستقلّ بالجلوس وبقي كذلك مدّة ثم عاود مرداويج الإنكار عليه فنكبه وأتى على نفسه. » فعند ذلك راسله معزّ الدولة بالركوب إليه إذا استقلّ وأزال عنه التوكيل فتجلد المهلّبي وركب بعد أيام يسيرة فخلع عليه وعاد إلى أمره.
حدة معز الدولة واحتمال المهلبي
وكان معزّ الدولة حديدا سريع الغضب بذيّ اللسان يكثر سبّ وزرائه والمحتشمين من حشمه ويفترى عليهم فكان يلحق المهلبي - رحمه الله - من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله.
وكنت أنادمه في الوقت فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا، حتى لقد سمعت أبا العلاء صاعد بن ثابت وكان يخلفه ويأنس به يعاتبه ويقول في عرض كلامه:
« إنّ الأمير إذا اتّصل به أنسك وقلة اكتراثك لغضبه وما يلحقك من شتيمته نسبك إلى الاستهانة به فيزيد ذلك في ضرره عليك، فإن أظهرت الانخزال والاستكانة حتى يبلغه تحرّسك وانقباضك كان أحرى أن يقصّر ويندم ولا يشتّم على عادته معك وغضبه منك. » فقال له أبو محمد المهلبي:
« ما يذهب عليّ ما تقول ولكن هذا أمير خرق عجول لا يملك لسانه، فإن ذهبت أظهر الاستيحاش من هذياناته وقع له أنّى قد تنكّرت له وأنّى لا أناصحه وأنّه يتّهمنى بما لا يدور في فكرى فيكون سببا لجائحة ونكبة وليس له غير التغافل والتبسم في وجهه إذا أمكن فإن لم يمكن ذلك خوفا من غضبه فليس إلّا قلّة الفكر فيه فكان الأمر على ذلك. » وحدّثني أبو بكر ابن أبي سعيد رحمه الله: انّ معزّ الدولة وقت مقامه بالبصرة وهزيمته للبريدى افترى على المهلّبي وذكر حرمه وأفحش عليه وكان المافرّوخى حاضرا فلمّا انصرفنا من عنده قال لي المافرّوخى:
« قد ساءني أن أجرى هذا الفحش القبيح بحضرتى على الوزير فكيف الطريق إلى تسليته؟ » وإنّما أراد ألّا يتهمه بالشماتة ولا يراه بعين من علم استهانة الأمير به.
فقلت: « الإمساك في مثل هذا أولى من الكلام. » فأمسك أيّاما لا يركب إليه إلّا مع الناس وقت الاذن ثم اتّفق أن دخل المافرّوخى وأنا معه لمهمّ فوجدناه واجما مطرقا فقال المافرّوخى:
« أرى الوزير واجما فهل تجدّد أمر؟ » فقال: « ويحك أنّى أرى الأمير منذ أيام قد أمسك عمّا كان يتعاهدنا به من برّه بلسانه وأخاف أن يكون مشغول القلب بطارق تطرّقه وأنا مفكر في ذلك. » قال أبو بكر ابن أبي سعيد: فلمّا خرجنا من عنده قال لي المافرّوخى:
« هل رأيت أدهى من هذا الرجل وأذكر منه؟ » فقلت: « لا. »










صلح بين صاحب خراسان وبين أمراء بنى بويه
وفيها خرج أبو مخلد وأبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة المطيع لله إلى صاحب خراسان في الصلح بينه وبين أمراء بنى بويه وكتب معهما كتاب عن الخليفة.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
وفيها مات أبو الفضل العباس ابن فسانجس بالبصرة وقلّد الديوان بعده أبو الفرج محمد ابنه وأجرى على رسم أبيه.
وفيها ليلة الجمعة للتاسع من جمادى الآخرة ولد الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة بطالع السنبلة.
وفيها وافى أبو سالم ديسم بن إبراهيم الكردي منهزما من آذربيجان هزمه السلّار المرزبان وهو الذي حكينا أن ركن الدولة أسره وحبسه في قلعة سميرم فاحتال حتى فكّ قيده وقتل صاحب القلعة وخرج منها - وسنحكى حيلته هذه فيما بعد - وعاد إلى آذربيجان واجتمع إليه من كان مع ديسم من الديلم وانصرف ديسم عنها وصار إلى الحضرة مستجيرا بمعزّ الدولة ومستنصرا. فأكرمه معزّ الدولة جدّا ووقع منه وأنس به وعاشره وحمل إليه مالا وثيابا وكان يسمّيه في كتبه « الأخ أبو سالم ».
ذكر السبب في خروج ديسم عن آذربيجان بعد تمكنه منها وانهزامه من بين يدي المرزبان
كنا ذكرنا خبر ابن عبد الرزاق وتمكّنه من آذربيجان من قبل ركن الدولة واتّفق أن أوحش كاتبا له كان صحبه من خراسان واعتمد لوزارته ابن محمود لخدمته إيّاه بالأموال قديما ولخبرته بالبلدان. فاستوحش الكاتب وتركه إلى أن أشخصه لجياية الأموال في نواحي ديسم وضم إليه جيشا. فلمّا وجد الفرصة كاتب ديسما وهرب إليه بذلك الجيش كلّه.
فنفرت نفس ابن عبد الرزاق من آذربيجان وعاد إلى الريّ وأخذ معه ابن محمود وسار ديسم إلى أردبيل واستأذنه الكاتب الخراساني في العود إلى بلده فأذن له وأحسن بالخلع والجوائز.
ودبّر أمره أبو عبد الله النعيمي وابن الصقر النصراني وتوافر إليه الديلم والأكراد فملك آذربيجان وبلادها وجبى الأموال وأعطى البلاد له باليد.
فتمكن من نشوى ودبيل وكان عليهما الفضل ابن جعفر الحمداني وإبراهيم بن الضابى على سبيل التغلب فصلحت حاله وانتظمت.
واتفق أن مات ابن الصقر النصراني فوصل من تركته إليه مائة ألف درهم سوى ما أغضى عنه وهو شيء كثير فتفرّد النعيمي بوزارته.
ولم يزل أمره منتظما إلى أن شره إلى مال النعيمي وطمع فيه فقبض عليه ونصب في موضعه كاتبا له يقال له: عليّ بن عيسى، فاحتال النعيمي [ بأن سارع ] إلى بذل خطّه بكلّ ما اقترحه عليه ولم يحالفه وسلك سبيل المداراة ثم قال له:
« ان رددتني إلى العمل وسلمت إليّ خليفتي عليّ بن عيسى صحّحت لك من جهته وجهتي سوى مال المواقفة ألف ألف درهم. » فشرهت نفسه إلى ذلك ورده إلى موضعه وقبض على عليّ بن عيسى وسلّمه إليه.
وكان المرزبان بن محمد في تلك الأيام قد ملك القلعة التي حبس فيها بسميرم وقتل الموكّل به وهو شير اسفار وكان أيضا قد أفلت عليّ بن ميشكى المعروف ببلكا المأسور معه من حبس ركن الدولة وصار إلى الجبل وجمع جمعا كثيرا وكاتب الديلم الذين كانوا مع ديسم واستمالهم وسار حتى قرب من وهسوذان أخي المرزبان فكانا جميعا يدبّران على ديسم.
ثم وصلت كتب المرزبان إليها بخلاصه من القلعة وكاتب سائر الديلم بآذربيجان وليس عند ديسم من الخبر كلّه إلّا خبر عليّ بن ميشكى وظنّ أنّه وحده يقاتله.
فلحق بأردبيل ابن أخت له يقال له: غانم، مضموما إلى وزيره النعيمي ومستوفيا عليه المال الذي ضمنه عن نفسه وعن عليّ بن عيسى خليفته.
وسار على اغترار بمن معه من الديلم فوجد النعيمي الفرصة لما كان في نفسه وأفسد غانما على خاله ديسم وقتل عليّ بن عيسى بالمكروه العظيم واستأمن إلى عليّ بن ميشكى واحتمل معه كل ما قدر عليه من المال.
وبلغ الخبر ديسما فعاد إلى أردبيل بعد أن كان بلغ إلى زنجان وشغب الديلم عليه فأخرج كل ذخيرة له من الصياغات وغيرها وتوجه إلى برذعة على سبيل النزهة والصيد وهو يظن أن خصمه عليّ بن ميشكى وليس عنده خبر المرزبان.
وكان أنفذ إلى أرمينية من يوطّئ له نيّات ملوكها من ابن الديراني وابن خاجيق وأخيه حمزة وابن سباط وغيرهم ليلجأ إليهم إن حزبه أمر وورد عليه خبر عليّ بن ميشكى بتوجهه إلى أردبيل مع عدّة يسيرة ثقة بأنّ الديلم الذين مع ديسم سيستأمنون إليه، فانكفأ ديسم إلى أردبيل ووقعت الحرب فقلب الديلم تراسهم في وجهه وانحازوا إلى ابن ميشكى سوى جستان بن شرمزن فإنّه أخلص مودة ديسم فقبض الديلم عليه وانهزم ديسم في نفر من الأكراد إلى بلد الأرمن فحمل إليه ملوكها ما تماسك به.
وورد عليه خبر المرزبان هناك في مسيره عن قلعة سميرم التي كان محبوسا فيها وحصوله بأردبيل وتسلّمه القلاع والأموال وإنفاذه على ابن ميشكى في جيش لطلب ديسم فلم يمكنه المقام فهرب إلى الموصل ثم صار إلى بغداد وذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة فتلقّاه معزّ الدولة وأكرمه ورتّبه في أعلى مرتبة وقضى حقّه وواصل إليه المبارّ والألطاف وبذل له خمسين ألف دينار إقطاعا في كلّ سنة على أن يقيم بحضرته فأقام مديدة في أطيب عيش وأرخى بال فكان يقول ذلك لكتّابه وأسبابه ويقول:
« أرغد عيش لي وأهناه أيّام مقامي ببغداد. » ثم كاتبه أسبابه من آذربيجان بما اغترّ به فنزع إلى الإمرة والاستبداد فرحل من بغداد وزوّده معزّ الدولة مالا كثيرا وثيابا ودوابّ ومراكب. فسار إلى الشام زائرا سيف الدولة في طريقه ثم انقلب من عنده إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن خاجيق لثقته كانت به وإنّه كان أودعه ذخيرة له وكتب المرزبان إليه يلزمه القبض [ عليه ].
فدافعه ثم اضطر إلى أن أطاعه في القبض عليه وسأله ألّا يلزمه تسليمه إليه فأجابه المرزبان إلى ذلك فأوقع ابن الديراني الحيلة على ديسم حتى قبض عليه وحصله عنده. فلمّا فعل ذلك كتب إليه المرزبان يلزمه حمله إلى حضرته ناقضا الشرط فدافعه مدة ثم اضطرّ إلى تسليمه فحبسه عنده ثم سمل عينه فلمّا توفّى المرزبان قتله بعض أسبابه خوفا من غائلته.
ذكر حيلة المرزبان على صاحب قلعة سميرم وما تم عليه حتى أفلت من موضعه وعاد إلى مملكته بآذربيجان
لما حصل المرزبان في القلعة امتنع من الطعام والشراب خاصّة اللحوم وما أشبهها واقتصر على القوت اليسير من الحنطة التي يستظهر منه أيضا. فبلغ خبره ركن الدولة فأمر أن يوصل إليه طبّاخه الذي يثق به ليتولّى له ما كان يتولاه من المأكل والمشرب فحصل الطباخ في القلعة معه وأخذ المرزبان في تدبير الخلاص على يده.
وكان الطباخ خفيفا أحمق وظهر منه ما في نفسه وعرف خبره شيراسفار صاحب القلعة فرمى به من قلة القلعة فهلك وضيّق على المرزبان.
وكانت والدة المرزبان خراسويه بنت جستان بن وهسوذان الملك تبذل الأموال في تعرّف أخباره وتحتال في خلاصه وكان إبراهيم المعروف بابن الصابي - وقد تقدم ذكره - في حبس ديسم فتخلّص منه ولم يجد مفزعا إلّا خراسويه فقصدها ولاذ بها وضمن لها أن يتوصّل إلى المرزبان فأطلقت له مالا وأنفذته.
وكانت المراغة بها رجل يعرف بتوبان يصارع ويقامر ويدخل في كل منكر فطلبه أصحاب الشرط بها فخاف وهرب من المراغة وقصد خراسويه وضمن لها السعى لها في أمر ابنها فطمعت في جلادته وأطلقت له مالا وعرّفته خبر ابن الضابى وأنّه نفذ قبله.
فاجتمعا ولبسا لباس التجار وأظهرا الستر والدين والورع ولزما فناء القلعة وراسلا شيراسفار وعرّفاه أنّهما تاجران وأنّهما كانا فيما مضى يعاملان المرزبان وأنّه أخذ بضائعهما وامتعة التجار وسألاه أن يجمع بينهما وبين المرزبان ليتنجّزا كتبه وعلاماته بإزاحة علّتهما فيما يستحقانه وتستحقه التجار عليه وواصلا الدعاء له وعلى المرزبان وأكثرا لعنه وشتمه وكانا يقولان:
« الحمد لله الذي كفى الناس شرّ هذا الظالم الذي لا يعرف الله ولا يؤمن بنبيه. » وما أشبه هذا حتى رقّ شيراسفار لهما وأوصل واحدا واحدا منهما إليه من غير اجتماع فقال المرزبان:
« لا أعرفهما. » فأغلظا له وواجهاه بالقبيح وخوّفاه بالله وسوء العاقبة وقال:
« إني لا أعرف حسابهما ولكني أكتب بأن يحاسبا. » وكثر ترددهما إليه فضمت والدته إليهما وصيفا الديلمي المتطبّب - وكان في عسكر السلطان قديما - ورجلا آخر يعرف بأبي الحسن ابن جني وجماعة من أهل الطرم على هيئة التجار وحملوا الألطاف إلى شيراسفار وأسبابه وإلى بواب القلعة وكانوا يشترون منهم الحوائج ويعدونهم، إلى أن يصلوا إلى أموالهم وبضائعهم، أنّهم يبذلون لهم أموالا جليلة وفي خلال ذلك يبكون ويشكّون ظلم المرزبان وعدوانه وكانوا يصلون إلى المرزبان فرادى ويوصلون الكتب ويتنجّزون الأجوبة ويدسّون إليه في خلال ذلك الدنانير الكثيرة ليبذلها وينفقها فيما يحتاج إليه.
وكان لشيراسفار الموكّل بالقلعة غلام أمرد وضيء الوجه يحمل ترسه على مذهب الديلم فأظهر المرزبان عشقا له ومحبّة مفرطة فكان يعطيه سرّا الشيء بعد الشيء ويعده - إن هو تخلّص - بأمور عظيمة وولايات كبار حتى طمع الغلام وواطأه على كل ما أحبّ وأوصل إليه درعا في زنبيل فيه تراب وعدة سكاكين وأوصل إليه شموعا فيها مبارد واجتمع معه على وجوه الحيل.
وأظهر أولئك القوم الذين كانوا في زيّ التجار النسك والتألّه والخشوع، فصاروا يصلون إلى باب القلعة ويوصلهم البوّاب واحدا واحدا إلى أن تمّت الحيلة بموافقة هذا الغلام الإسبربر.
وكان اتفق معه على يوم بعينه: إذا دخل إليه شيراسفار يناوله الترس والزوبين الذي لصاحبه إذا استدعاه منه ووافق بعض أولئك التجار أن يكونوا مع البوّاب ليفتكوا به إذا صاح بهم.
فلمّا كان في ذلك اليوم وصل إليه توبان وكان أجلدهم وجلس آخر مع البوّاب ليفتك به إذا سمع الصوت وجلس الباقون قريبا من الباب ليدخلوا عند التمكن.
فلمّا صار إليه شيراسفار على رسم كان له وكان المرزبان قد برد مسمار قيده على مرّ الأيّام ولبس في ذلك اليوم درعه والتفّ بكسائه وكان يخاطب شيراسفار قديما ويسأله أن يطلقه ويعده المواعيد العظام فيمتنع عليه شيراسفار ويقول:
« لا أخون ركن الدولة أبدا ولكن أساعدك على كل ما يخفّف عنك غير هذا الباب. » فلمّا كان في ذلك اليوم عاد المرزبان في مسألته وكان توبان حاضرا فقال لهم توبان:
« بالله إلّا خلّصتمونى من الديون عليكم ثم عودوا لشأنكم. » فقال المرزبان لشيراسفار:
« قد أطلت عنائي. » ونهض من موضعه وقد أخرج رجله من القيد وبادر إلى الباب فتسلم الترس والزوبين من الغلام ونهض شيراسفار ليتعلق به فوثب توبان إليه وعاركه وصرعه ثم وجأه بسكين كان معه حتى قتله وصاح المرزبان:
« أشتلم. » على عادة الديلم فوثب الرجل الذي كان في الدهليز على البواب فقتله ودخل القوم الذين كانوا بالقرب فأحدقوا بالمرزبان وكان منغمسا في دم شيراسفار.
وكان الموكّلون في القلعة على تفرّق ولعب بالنرّد فتداخلهم الرعب واجتمعوا وطلبوا الأمان فجمعهم المرزبان في بيت وأخرج حرم المقتول شيراسفار وحرم الجماعة ثم طلب سلاح القوم الذين في البيت فملكه، ثم أخرجهم من القلعة وتوافى إليه الرجال حتى خرج ولحق بمأمنه.
ذكر الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج
وفي هذه السنة تمّ الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج بعد حروب كثيرة على باب الريّ ومنازلة ثلاثة أشهر وانصرف ابن محتاج إلى خراسان.
ذكر السبب في ذلك
كان استمدّ وشمكير على عادته صاحب خراسان فأمدّه بأبي عليّ ابن محتاج في جموع كثيرة وتوجّهوا إلى الريّ وظنّوا أنّه الاستيصال وأنّه لا ثبات لركن الدولة ولا بقيّة له.
وجاء وشمكير على ثقة بذلك فعلم ركن الدولة أنّه لا يقوم لهؤلاء الجمع الكثير إلّا بالمطاولة والتحصّن بحيث يكون القتال من وجه واحد فجعل بلد الريّ خلفه وحارب في الموضع المعروف بطبرك، فدامت الحرب وصبر الفريقان إلى أن قرب الشتاء وملّ الخراسانية فلم يصبروا وخافوا أيضا سقوط الثلج عليهم فأخذوا في العتاب والتراسل ورقّ أمر الحرب.
وكان الواسطة من قبل الخراسانية أبو جعفر الخازن وهو صاحب الكتاب المعروف بزيج الصفائح وله تقدّم في علوم الرياضة ومرّ بينهما كلام كثير انتهى إلى الموادعة والصلح.
فأشير على ركن الدولة بأن يجهز على الجرح ولا ينفس عن خناق عدوّه فإنّه إنّما جنح للسلم عن ضرورة وقد نفد صبره وماله وشغّب عليه جنده:
« ووراءك بلدة مثل الريّ وأنت وادع جامّ بها » ولم ير له أحد من نصحائه أن يجيبهم إلى الصلح وذاك أن النكول كان قد ظهر فيهم.
فلم يقبل ركن الدولة هذا الرأي من أحد على سداده ووضوحه ولو صدقهم بصدمة يصدمهم بها لأتى عليهم، والله أعلم بعواقب الأمور. فقبل الصلح وشقّ ذلك على وشمكير وبلغ منه مبلغا عظيما وذلك أنّه كان لا ينظر ولا يرجو أن يجمع أكثر مما جمع ولا يحتشد أكثر من هذا الاحتشاد.
فلمّا انصرف ابن محتاج طلب ركن الدولة وشمكير فانهزم من بين يديه ولم يقف فاتبعه حتى أخرجه من طبرستان وجرجان وحصل بإسفرايين.
وكتب إلى نوح بن نصر يعرفه ما جرى ويغريه بابن محتاج فاغتاظ نوح وتحرّك منه ما كان في نفسه على ابن محتاج فعزله من الجيش ببكر بن مالك وأنفذه في جيوش عظيمة.
فصار ذلك سببا قويّا ضروريا لمكاتبة أبي عليّ ابن محتاج ركن الدولة وعدوله إلى طاعته بعد أن أصابه في نفسه وأسبابه وأحواله مكاره عظيمة أزالت ثقته بصاحبه وثقة صاحبه به ولم يبق بينهما حال يرجى معها الصلاح.
وكتب الخليفة في هذا الصلح كتابا نفذ على يد ابن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة وأبي مخلد عبد الله بن يحيى صاحب معزّ الدولة واتّفق موت نوح قبل أن يؤدّى الرسالة والكتاب وقعد مكانه عبد الملك بن نوح.
ولما قدم أبو مخلد من خراسان عائدا ومعه أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي اعترضهما ابن أبي الشوك الكردي من الشاذنجان وكان متقلّدا أعمال المعاون بحلوان وإليه الحماية والطريق وأظهر الخدمة وخرج معهما مبذرقا بهما.
ثم غدر فنهبهما ونهب القافلة التي كانت معهما وأسر أبا مخلد وأفلت أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي فطالب ابن أبي الشوك معزّ الدولة بإطلاق رهائنه ووعد أنّه أن أطلقوا أطلق أبا مخلد فضمن له ذلك وأطلقوا وأطلق أبا مخلد.
ثم خرج الحاجب سبكتكين إلى حلوان للإيقاع بالأكراد فدخل حلوان وقرّر أمر الأكراد وابن أبي الشوك وعاد.
ودخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة
وفيها خرج أبو سالم ديسم من بغداد وذلك لما يئس من نصرة معزّ الدولة.
ذكر السبب في يأس ديسم من نصرة معز الدولة إياه
سبب ذلك أنّ ركن الدولة صالح المرزبان بن محمّد السلّار وصاهره وتمكّن سلّار من آذربيجان فانصرف ديسم من حضرة معزّ الدولة وودّعه وظنّ أنّه يجد عند ناصر الدولة عونا فقصده وأقام عنده بالموصل مدّة ثم مضى من عنده بعد اليأس منه إلى سيف الدولة أخيه وأقام عنده أيضا مدّة.
ركن الدولة يكتب عهدا لابن محتاج على خراسان من جهة الخليفة
وفي هذه السنة قصد أبو عليّ ابن محتاج ركن الدولة للضرورة التي ذكرناها وجاء على طريق جبل ونداذ هرمز فاستقبله ركن الدولة وبالغ في إكرامه وأضافه وجميع من معه وأقام لهم الأنزال الواسعة والتمس ابن محتاج عهدا يكتب له من جهة الخليفة على خراسان فكوتب معزّ الدولة في ذلك فتكفّل به حتى فعل.
وفيها وصل رسول ابن محتاج إلى بغداد ولقي معزّ الدولة فاحتشد له احتشادا كثيرا وأوصله إلى الخليفة حتى عقد لأبي عليّ على خراسان وقلّده إيّاها مكان نوح بن نصر وسلّم إليه العقد والخلع وضم إليه أبا مخلد وأبا بكر بن أبي عمرو الشرابي وأنفذ معهم معزّ الدولة أبا منصور لشكرورز نجدة لأبي عليّ ابن محتاج ومعاونة له على نوح.
فلمّا كان بعد مدّة ورد كتاب أبي عليّ ابن محتاج بأنّه قد خطب لأمير المؤمنين المطيع لله بنيسابور ولم يكن خطب له إلى هذه الغاية في شيء من بلدان خراسان وذكر في كتابه صحّة موت نوح.
وورد الخبر بأنّ نوحا لمّا حضرته الوفاة كان بحضرته ابن مالك وهو أحد قوّاده الكبار فغلب على الأمور وعقد الأمر لعبد الملك بن نوح في ولاية خراسان وتقلّد هو رئاسة الجيش مكان أبي عليّ ابن محتاج.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)