صفحة 5 من 12 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 17 إلى 20 من 45

الموضوع: تجارب أمم المجلد السادس


  1. #17
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ودخلت سنة أربعين وثلاثمائة

    وفيها لحق ركن الدولة بابن قراتكين غلام صاحب خراسان وواقعه بروذبار من خان النجان سبعة أيام متوالية فانهزم ابن قراتكين وذلك في المحرم من هذه السنة.
    ابتداء ذكر مشاهدات مسكويه صاحب هذا الكتاب وما يجرى مجرى مشاهداته

    قال الأستاذ أبو عليّ أحمد بن محمد مسكويه صاحب هذا الكتاب:
    أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة فهو عن مشاهدة وعيان أو خبر محصّل يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمّد بن الحسين بن العميد - رضي الله عنه - خبّرنى عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره وما اتّفق له فيها، فلم يكن أخباره لي دون مشاهدتى في الثقة به والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمّد المهلّبي - رحمه الله - خبّرنى بأكثر ما جرى في أيامه وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة.
    وحدّثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجرّبته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.
    فحدّثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة وأنا أحكى أولا السبب في ورود ابن قراتكين:
    ذكر السبب في ورود ابن قراتكين الري

    كان ركن الدولة عند وفاة أخيه عماد الدولة بنواحي جرجان وذلك أنّه قصد وشمكير وهزمه وتبعه إلى جالوس فلمّا بلغه وفاة أخيه اضطرب وجزع وعلم أنّ فارس ستضطرب على ابنه فسارع إلى المسير إليها لتوطئة الأمور وانصرف إلى الريّ فاستخلف بها عليّ بن كامه واتسع خناق أعدائه ببعده عن ممالكه وكلّ حدّث نفسه بأمر.
    وكتب ركن الدولة إلى معزّ الدولة بما عزم عليه ومما كان من وفاة أخيهما فكتب معز الدولة إلى وزيره أبي جعفر الصيمري وهو يومئذ منازل لعمران بن شاهين بالبطائح بان يخلّى ما هو بسبيله ويصير إلى فارس لخدمة ركن الدولة ففعل وسبق وصوله وصول ركن الدولة فحسن موقع ذلك من ركن الدولة.
    فلمّا وصل إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه بباب إصطخر فمشى حافيا حاسرا ومشى أهل عسكره وعسكر فارس على تلك السبيل ولزم المصيبة ثلاثة أيّام إلى أن خاطبه الرؤساء وسألوه أن يرجع إلى المدينة ففعل وأقام ستة أشهر.
    وأنفذ نصيبا من تركة عماد الدولة إلى أخيه معزّ الدولة وكان في جملتها مائة وسبعون غلاما ومائة وقر من السلاح ثم ما يجرى مجرى ذلك من الثياب والآلات واقتطع من أعمال فارس أرجان - وهي كورة من كور فارس - إلى أعماله وخلّف وزيره هناك وانقلب إلى الريّ.
    وحدّت أطماع من ذكرت وامتدّت إلى الريّ والجبل وإصبهان وتسرّبت العساكر إليها فمن ذلك مسير صاحب جيش خراسان إلى الريّ ومعه محمد بن ماكان من جهة الحسن بن الفيروزان وسار شيرج بن ليلى من قبل وشمكير ثم جمهور عسكر خراسان وكان أبو الحسن عليّ بن كامه قد انحاز إلى إصبهان وتفرّق قوّاد عسكر ابن قراتكين في ولايات أعمال الجبل وكان منهم بهمذان ينال قام وفي كل بلد من بلدان الجبل مثله.
    وكان ركن الدولة قد كاتب أخاه معزّ الدولة وهو بعد بفارس يستدعى من يدفع معرّات هؤلاء فأمدّه بسبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك والديلم وفيهم جماعة من الأتراك القدماء التوزونيّة وجماعة من العرب وكان مسيره من بغداد سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فدبّر سبكتكين تدبيرا جيّدا.
    ذكر تدبير صواب تمكن به سبكتكين من أول عدو لقيه بقرميسين

    رأى سبكتكين أن يخلّف عسكره وما ثقل من سواده وينتخب من الفرسان من يثق به ويسرى إلى قرميسين وكان فيها قائد من قوّاد الأتراك الخراسانية يقال له: بجكم الخمارتكينى، وكان ينال قام أنفذه إلى همذان واليا عليها فكبسه سبكتكين وهو في الحمّام وأخذه أسيرا وأوقع برجاله وأصحابه وأنفذه إلى معزّ الدولة فاعتقله مدّة طويلة ثم أطلقه.
    ولمّا بلغ ولاة أعمال الجبل ما جرى على بجكم هذا فارقوا مراكزهم واجتمعوا إلى ينال قام بهمذان.
    فلمّا سار سبكتكين نحوهم ساروا من همذان بأجمعهم فلم يحاربوا وورد سبكتكين همذان وأقام بها منتظرا ركن الدولة وذاك أنّ كتب ركن الدولة كانت ترد عليه أنّه يسير من فارس على طريق الجبل ثم تأخّر انتظارا لانحسار الثلوج ثم ورد همذان وتقدّم إلى سبكتكين بالمسير على مقدّمته.
    فشغب الصنف من الأتراك التوزونية وأظهروا التضجّر بالمقام الطويل فتوسّط الأستاذ الرئيس أبو الفضل - رحمه الله - بينهم وداراهم وسكّنهم فسكنوا في الوقت ثم عاودوا من الغد وطال ذلك منهم حتى اتّهموا.
    فسمعت أبا الفضل ابن العميد - رحمه الله - يقول:
    إني قلت للأمير ركن الدولة: هؤلاء أعداؤنا وقد كاشفونا فكيف نسير بهم إلى أعدائنا؟ فاتّفق الرأي بيننا أن نسكّنهم فإن سكنوا وإلّا حاربناهم وفرغنا من العدو الأقرب فلمّا عملنا على ذلك عملوا على الحرب فأوقعنا بهم ومضوا مفلولين. وسبق خبرهم إلى معزّ الدولة فكتب إلى أبن أبي الشوك الكردي وسائر وجوه الأكراد المقيمين في أعمال حلوان بطلبهم والإيقاع بهم ففعلوا ذلك وطلبوهم وأسروا منهم وقتلوا. فأمّا الأسارى فأنفذهم إلى بغداد وأمّا الفلّ فصاروا إلى الموصل بحال سيّئة.
    وأقام ركن الدولة بهمذان لتعرّف خبر ابن قراتكين إلى أن صحّ عنده مسير ابن قراتكين من الريّ نحو همذان فبثّ جواسيسه وطلائعه لتعرّف خبره.
    فأتاه الخبر بأنّه عدل عن سمت همذان وأخذ على طريق يؤدّى إلى إصبهان.
    فسار ركن الدولة في أثره يقفوه حتى انتهى إلى جرباذقان ووصل ابن قراتكين إلى إصبهان فعاث بها عيثا كثيرا مدة ما أقام ثم عرف قرب ركن الدولة منه فسار إلى طرف مفازة بقرب من إصبهان.
    فنزل منها على زرّين روذ ليكون وصول ركن الدولة إليه مع عسكره، وقد قطعوا المفازة ومسّهم التعب والعطش ولا يصلون إلى الماء. فرأى ركن الدولة أن يعدل إلى خان النجان ليلزم سمت قرى زرين روذ ولا يعدم الماء واتصل ذلك بابن قراتكين فانقلب عن موضعه معترضا له لئلا يملك عليه ظهره. فالتقيا في الموضع المعروف بالروذبار وبينهما زرّين روذ ولكنّه يخيض ولا يمنع الراجل ولا الفارس العبور وذاك أن الفصل كان ضيّقا. فدامت الحرب بينهما سبعة أيّام واشتدت في اليوم السادس خاصة ثم انهزم ابن قراتكين في اليوم السابع.
    وعاد الحديث إلى حكاية أبي الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة. حكى أنّه لحقه وركن الدولة وسائر الجيش من الاضاقة وعوز الميرة والعلوفات وتعذّر جميع الأقوات ما لم يلحقها مثله وذاك أن الأكراد أحدقوا بنا فلم يتمكّن أحد من اطّلاع رأسه عن المعسكر.
    وانقطعت عنّا المواد وكنا نصل إلى أقواتنا مما تحمله الأكراد إلينا ويبيعوناه بأوفر الأثمان وكذلك العلوفات فكان يجيئنا الكردي بجراب أو مخلاة أو وعاء فيه دقيق فيبيعناه بحكمه فإذا أخذناه ونفضناه وجدنا قدر الدقيق فيه مقدار ما رأيناه في رأس الوعاء وأسفله كلّه تراب ثم يختلط ذلك القدر اليسير بالتراب فلا ينتفع بشيء منه وكذلك يفعل بالشعير والحنطة وكانت لهم حيل تجرى هذا المجرى كثيرة.
    قال: فكنّا ننحر الجمل أو الدابّة فنتوزّع لحمه بين عدد كبير ونتبلّغ به على عادة الديلم وصبرهم على المجاعة والشدّة في الحرب وكان أعداؤنا الأتراك في مثل حالنا إلّا أنّهم لا يصبرون كما نصبر ولا يقنعون بما نقنع، فإذا ذبحنا نحن جزورا ذبحوا أضعافا كثيرة. ثم إنّ أصحابنا يعودون إلى نشاطهم في الحرب ويتسخط أولئك ويشغبون على صاحبهم ولا يناصحونه في الحرب إلى أن ملّوا.
    وأصبحنا يوما وقد رحلوا من معسكرهم فتركوا خيمهم بإزائنا وأتانا الخبر برحيلهم فما صدّقنا به حتى عبر جماعة وتلاهم العسكر أوّلا أوّلا وأشفقنا أن يكون لهم كمين أو مكيدة فلم يكن إلّا هزيمة وذهبوا على وجوههم.
    ذكر خبر عجيب واتفاق غريب

    حكى الأستاذ أبو الفضل ابن العميد - نضر الله وجهه - أنّ ركن الدولة دعاه في اليوم السابع وقد نفد صبره وصبر أصحابه وشكا إليّ شدّة الأمور وصعوبته عليه وكأنّه يفكّر في حيلة للانهزام وإن كانت متعذّرة عليه فقلت:
    « أيّها الأمير، إنّك كنت منذ أسبوع مالك أكثر، تملك سرير الخليفة فينفذ أمرك في أكثر بلاد الإسلام ومن لم يكن من الملوك في سائر الأرض تحت أمرك وولايتك فهو أيضا تحت حكمك حشمة لك يقبل أمرك تجمّلا ويطيعك تهيبا وقد أصبحت اليوم وأنت لا تملك من الأرض إلّا ما عليه مضربك وقد اجتمع عليك هؤلاء الأعداء ليغصبوك عليه ويمنعوك منه ولا مفزع لك إلّا إلى الله - عز وجل - فأخلص نيّتك له واعقد عزيمتك على ما بينك وبينه تعالى يطلع على صدقها ويعرف صحّتها وانو للمسلمين خيرا ولكافة الناس مثله وعاهده على ما تعمله وتفيء به من الأعمال الصالحة والإحسان فيما تلى إلى من تلى عليه فإنّ الحيل البشرية كلّها انقطعت بنا ولم يبق لنا إلّا هذا الذي نصحتك به. »
    قال: فتبسّم وقال:
    « يا أبا الفضل قد سبقتك إلى ما أشرت به. » وجرى في هذا الباب ما يجرى مثله من النذور وصدق النيّة، وبتنا تلك الليلة على حالنا. فلمّا كان في الثلث الأخير من الليل جاءتني رسله متقاطرة فصرت إليه وهو مسرور قويّ النفس بخلاف ما عهدته وقال:
    « يا أبا الفضل أنت تعرف مناماتى وصدقها وقد رأيت ما أرجو أن يكون تأويله قريبا غير بعيد. » قلت: « وما ذاك. » قال: « رأيت كأنّى على دابّتى المعروف بفيروز وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وتذكر لي نعمة الله علينا فيه وأن الفرج جاءنا من حيث لا نحتسب. فبينا نحن في هذا الحديث وشبهه حتى مددت عيني بين غبرة الموكب إلى الأرض فرأيت خاتما يتلألأ قد سقط إلى الأرض عن صاحبه بين التراب فقلت للركابى الذي بين يدي: يا غلام هات ذاك الخاتم.
    فتطأطأ ورفعه إليّ فإذا خاتم فيروزج فأخذته وجعلته في اصبعى السبّابة وتبرّكت به وانتبهت وقد تفألت به وأيقنت بالظفر. » وذاك أن الفيروزج معناه الظفر إذا عرّب وكذلك لقب دابّته الذي رآه فيروز.
    قال أبو الفضل ابن العميد رحمه الله:
    فو الله ما أضاء الصبح حتى جاءنا الخبر والبشرى بأنّ العدوّ قد رحل فما صدّقنا به ولا التفتنا إليه حتى تواترت الأخبار وعبر سرعان الخيل وعادوا إلينا مستبشرين فقمنا حينئذ وركبنا متعجّبين لا نعرف سبب هزيمته حتى عبرنا على حذر من كمين أو مكيدة.
    فبينا نحن نسير وأنا إلى جانب ركن الدولة وقد تعمّد ركوب دابّته فيروز ليصدّق رؤياه إذ صاح الأمير بغلام بين يديه:
    « يا غلام ناولني ذلك الخاتم. » فتطأطأ وناوله من الأرض خاتم فيروزج: فأخذه ولبسه في سبّابته والتفت إليّ وقال:
    « هذا بلا تأويل هو الخاتم الذي حدّثتك بحديثه منذ ساعة. » فهذا من طرائف الأخبار ولولا صدق محدّثه وجلالة قدر من حكاه لي وبعده عن التزيد لما سطّرته في كتابي هذا.
    من حوادث هذه السنة

    وفيها تمّ الصلح بين معزّ الدولة وبين عمران بن شاهين وقلّده معزّ الدولة البطائح وأطلق أخوته وعياله وأطلق عمران بن شاهين من استأسر من القوّاد وغيرهم.
    فأمّا ابن قراتكين فإنّه عاود حرب الأمير ركن الدولة وجرت بينهما وقائع عظيمة بناحية الريّ ومات ابن قراتكين فجأة وكان سبب وفاته أنّه كان شرب أيّاما متوالية بلياليها فأصبح يوما ميتا وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
    وفيها انهزم صاحب عمان من باب البصرة من بين يدي أبي محمّد المهلّبي وأسر جماعة من أصحابه وأخذت عدّة من مراكبه ودخل أبو محمّد المهلّبي بغداد ومعه المراكب والأسارى.
    ودخلت سنة احدى وأربعين وثلاثمائة

    وفيها ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وأحرقوا مساجدها.
    ضرب معز الدولة المهلبي بالمقارع

    وفيها ضرب الأمير معزّ الدولة أبا محمّد المهلّبي بحضرته بالمقارع وحمله إلى داره وأقرّه على كتابته.
    ذكر السبب في ذلك

    كان السبب في ذلك أنّ أبا محمّد المهلّبي لمّا خرج إلى عمان وأنفق في ذلك الوجه ما أنفق ثم انهزم تنكّر له معزّ الدولة وهمّ بالقبض عليه. فلمّا حدث بالريّ ما حدث من ورود جيش خراسان إليها شغله ذلك عمّا في نفسه منه.
    وكان ورد أبو العبّاس الحنّاط إلى الحضرة برسالة ركن الدولة يطالب بمال يحمل إليه فدفعت الضرورة إلى مكاتبة الوزير المهلّبي وهو بواسط قد وافاها منهزما وأمر بالعدول إلى الأهواز وتسليم ألف ألف درهم إلى أبي العبّاس الحنّاط من القلعة وردّ العوض ممّا يستخرجه وأن يواصل الحمل إلى الحضرة ويسرّب الجيوش إلى الأهواز على طريق إصبهان إلى الريّ فنفذ لذلك كلّه وفي نفس الأمير معزّ الدولة عليه ما فيها.
    فلمّا أصعد المهلّبي إلى الحضرة أثّر في أمر يوسف بن وجيه صاحب عمان أثرا كبيرا وذاك أنّه كان قصد البصرة فسبقه أبو محمّد المهلّبي إليها وحاربه وهزمه وأسر أصحابه وأخذ مراكبه كما ذكرنا.
    ذكر السبب في طمع ابن وجيه في البصرة ثم انهزامه منها

    كنّا ذكرنا ما كان من استيحاش القرامطة من معزّ الدولة ومن جوابه إيّاهم عن رسالتهم واستخفافه بهم. فلمّا عرف ابن وجيه ذلك كاتبهم وأطمعهم في البصرة وسألهم أن يمدّوه من ناحية البرّ فأمدوه بأخيهم أبي يعقوب في سريّة قويّة فورد باب البصرة وأنهض ابن وجيه رجاله في مراكبه من ناحية البحر ونهض هو بنفسه.
    ووافق ذلك فراغ المهلّبي من الأهواز فبادر إلى البصرة وأخرج معه من القوّاد والرجال والزبازب والطيارات وآلات الماء كفايته وشحنها بالرجال وأزاح عللهم في الجيش والسلاح وأنفذ إليه معزّ الدولة مددا من بغداد.
    وكان المهلّبي رتّب على سور المدينة بالبصرة الرجال يحمونه وجمع إلى نفسه وجوه القوّاد مثل لشكر ورز بن سهلان وموسى فياذه وموسى بن ماكان وأشباههم من وجوه الناس وطبقات الغلمان وحارب ابن وجيه أيّاما ثم هزمه وظفر المهلبي بمراكبه ورجاله وأسر جماعة من وجوه أصحابه فخفّ بذلك بعض ما كان في قلب معزّ الدولة وانجلى همّ كثير كان في نفسه.
    فلمّا قدم بغداد تلقّاه معزّ الدولة وجامله مديدة ثم وقف على طازاذ مال من ضمانه له قدر وكان سبّب عليه للأتراك والمهمّات فردّ التسبيبات وطالب أصحاب المال باستحقاقاتهم وأضجر ذلك معزّ الدولة فطالب أبا محمّد المهلبي وهزّ المهلبي طازاذ فاستسلم وأظلمت القصة.
    فدخل المهلبي إلى معزّ الدولة فصدقه عن الصورة فاغتاظ من حيرته في الأمر وأثار ما كان في نفسه منه فزبره وطرده من بين يديه وأمره ألّا يعود إليه إلّا بعد أن يستدعيه فانصرف كئيبا. وحرّك طازاذ فصحح له مالا ونهض إلى الأمير معجّبا له من طازاذ بغير استدعاء من الأمير له.
    المهلبي يتحمل مائة وخمسين مقرعة

    فلمّا حصل بين يديه وأخبره بالصورة بطش به وضربه مائة وخمسين مقرعة يراوح منها بأن يرفع عنه الضرب حتى يوبخه ويبكّته بذنوبه منذ استخدامه ثم يعيد عليه الضرب إلى أن تفسّخ وثقل وقيل له إنّه كالتالف وأراد أن يرمى به إلى دجلة ثم تماسك وردّه إلى منزله ووكّل به.
    ضرب طازاذ والعمل على صرف المهلبي دون جدوى

    وفي اليوم الثاني استدعى طازاذ أيضا وضربه وعمل على صرف المهلّبي فلم يرتض خدمة أحد ممّن كان بحضرته في الوقت فترجّح رأيه وصعّد وصوب فلم يقم أحد مقام أبي محمد.
    وكان أبو محمد المهلبي شهما قويّ النفس لا يتحرّك لشيء من نوائب الدهر فعمل عملا يشتمل على ثلاثة عشر ألف ألف درهم باقية في الممالك والأعمال وأنفذه إليه وذكر أنّه يقيم باستخراجه وأنّه إن تمادت الأيّام في التوكيل به تمزّقت وطمع فيها فشاور معزّ الدولة من حضره وكان فيهم أبو مخلد عبد الله بن يحيى وقال:
    « هل يجوز أن أستنيم إلى هذا الرجل وقد لحقه مني هذا المكروه العظيم؟ » فقال أبو مخلد:
    « قد ضرب مرداويج وزيره أبا سهل أعظم من هذا الضرب ولحقه ما لحقك من السوء عنه ثم خلع عليه وردّه إلى أمره وكان لا يطيق المشي لما حلّ به من الضرب فركب عمّاريّة ونثر عليه في الطريق مال ولا يمكنه أن يستقلّ بالجلوس وبقي كذلك مدّة ثم عاود مرداويج الإنكار عليه فنكبه وأتى على نفسه. » فعند ذلك راسله معزّ الدولة بالركوب إليه إذا استقلّ وأزال عنه التوكيل فتجلد المهلّبي وركب بعد أيام يسيرة فخلع عليه وعاد إلى أمره.
    حدة معز الدولة واحتمال المهلبي

    وكان معزّ الدولة حديدا سريع الغضب بذيّ اللسان يكثر سبّ وزرائه والمحتشمين من حشمه ويفترى عليهم فكان يلحق المهلبي - رحمه الله - من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله.
    وكنت أنادمه في الوقت فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا، حتى لقد سمعت أبا العلاء صاعد بن ثابت وكان يخلفه ويأنس به يعاتبه ويقول في عرض كلامه:
    « إنّ الأمير إذا اتّصل به أنسك وقلة اكتراثك لغضبه وما يلحقك من شتيمته نسبك إلى الاستهانة به فيزيد ذلك في ضرره عليك، فإن أظهرت الانخزال والاستكانة حتى يبلغه تحرّسك وانقباضك كان أحرى أن يقصّر ويندم ولا يشتّم على عادته معك وغضبه منك. » فقال له أبو محمد المهلبي:
    « ما يذهب عليّ ما تقول ولكن هذا أمير خرق عجول لا يملك لسانه، فإن ذهبت أظهر الاستيحاش من هذياناته وقع له أنّى قد تنكّرت له وأنّى لا أناصحه وأنّه يتّهمنى بما لا يدور في فكرى فيكون سببا لجائحة ونكبة وليس له غير التغافل والتبسم في وجهه إذا أمكن فإن لم يمكن ذلك خوفا من غضبه فليس إلّا قلّة الفكر فيه فكان الأمر على ذلك. » وحدّثني أبو بكر ابن أبي سعيد رحمه الله: انّ معزّ الدولة وقت مقامه بالبصرة وهزيمته للبريدى افترى على المهلّبي وذكر حرمه وأفحش عليه وكان المافرّوخى حاضرا فلمّا انصرفنا من عنده قال لي المافرّوخى:
    « قد ساءني أن أجرى هذا الفحش القبيح بحضرتى على الوزير فكيف الطريق إلى تسليته؟ » وإنّما أراد ألّا يتهمه بالشماتة ولا يراه بعين من علم استهانة الأمير به.
    فقلت: « الإمساك في مثل هذا أولى من الكلام. » فأمسك أيّاما لا يركب إليه إلّا مع الناس وقت الاذن ثم اتّفق أن دخل المافرّوخى وأنا معه لمهمّ فوجدناه واجما مطرقا فقال المافرّوخى:
    « أرى الوزير واجما فهل تجدّد أمر؟ » فقال: « ويحك أنّى أرى الأمير منذ أيام قد أمسك عمّا كان يتعاهدنا به من برّه بلسانه وأخاف أن يكون مشغول القلب بطارق تطرّقه وأنا مفكر في ذلك. » قال أبو بكر ابن أبي سعيد: فلمّا خرجنا من عنده قال لي المافرّوخى:
    « هل رأيت أدهى من هذا الرجل وأذكر منه؟ » فقلت: « لا. »
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #18
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    صلح بين صاحب خراسان وبين أمراء بنى بويه

    وفيها خرج أبو مخلد وأبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة المطيع لله إلى صاحب خراسان في الصلح بينه وبين أمراء بنى بويه وكتب معهما كتاب عن الخليفة.
    ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

    وفيها مات أبو الفضل العباس ابن فسانجس بالبصرة وقلّد الديوان بعده أبو الفرج محمد ابنه وأجرى على رسم أبيه.
    وفيها ليلة الجمعة للتاسع من جمادى الآخرة ولد الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة بطالع السنبلة.
    وفيها وافى أبو سالم ديسم بن إبراهيم الكردي منهزما من آذربيجان هزمه السلّار المرزبان وهو الذي حكينا أن ركن الدولة أسره وحبسه في قلعة سميرم فاحتال حتى فكّ قيده وقتل صاحب القلعة وخرج منها - وسنحكى حيلته هذه فيما بعد - وعاد إلى آذربيجان واجتمع إليه من كان مع ديسم من الديلم وانصرف ديسم عنها وصار إلى الحضرة مستجيرا بمعزّ الدولة ومستنصرا. فأكرمه معزّ الدولة جدّا ووقع منه وأنس به وعاشره وحمل إليه مالا وثيابا وكان يسمّيه في كتبه « الأخ أبو سالم ».
    ذكر السبب في خروج ديسم عن آذربيجان بعد تمكنه منها وانهزامه من بين يدي المرزبان

    كنا ذكرنا خبر ابن عبد الرزاق وتمكّنه من آذربيجان من قبل ركن الدولة واتّفق أن أوحش كاتبا له كان صحبه من خراسان واعتمد لوزارته ابن محمود لخدمته إيّاه بالأموال قديما ولخبرته بالبلدان. فاستوحش الكاتب وتركه إلى أن أشخصه لجياية الأموال في نواحي ديسم وضم إليه جيشا. فلمّا وجد الفرصة كاتب ديسما وهرب إليه بذلك الجيش كلّه.
    فنفرت نفس ابن عبد الرزاق من آذربيجان وعاد إلى الريّ وأخذ معه ابن محمود وسار ديسم إلى أردبيل واستأذنه الكاتب الخراساني في العود إلى بلده فأذن له وأحسن بالخلع والجوائز.
    ودبّر أمره أبو عبد الله النعيمي وابن الصقر النصراني وتوافر إليه الديلم والأكراد فملك آذربيجان وبلادها وجبى الأموال وأعطى البلاد له باليد.
    فتمكن من نشوى ودبيل وكان عليهما الفضل ابن جعفر الحمداني وإبراهيم بن الضابى على سبيل التغلب فصلحت حاله وانتظمت.
    واتفق أن مات ابن الصقر النصراني فوصل من تركته إليه مائة ألف درهم سوى ما أغضى عنه وهو شيء كثير فتفرّد النعيمي بوزارته.
    ولم يزل أمره منتظما إلى أن شره إلى مال النعيمي وطمع فيه فقبض عليه ونصب في موضعه كاتبا له يقال له: عليّ بن عيسى، فاحتال النعيمي [ بأن سارع ] إلى بذل خطّه بكلّ ما اقترحه عليه ولم يحالفه وسلك سبيل المداراة ثم قال له:
    « ان رددتني إلى العمل وسلمت إليّ خليفتي عليّ بن عيسى صحّحت لك من جهته وجهتي سوى مال المواقفة ألف ألف درهم. » فشرهت نفسه إلى ذلك ورده إلى موضعه وقبض على عليّ بن عيسى وسلّمه إليه.
    وكان المرزبان بن محمد في تلك الأيام قد ملك القلعة التي حبس فيها بسميرم وقتل الموكّل به وهو شير اسفار وكان أيضا قد أفلت عليّ بن ميشكى المعروف ببلكا المأسور معه من حبس ركن الدولة وصار إلى الجبل وجمع جمعا كثيرا وكاتب الديلم الذين كانوا مع ديسم واستمالهم وسار حتى قرب من وهسوذان أخي المرزبان فكانا جميعا يدبّران على ديسم.
    ثم وصلت كتب المرزبان إليها بخلاصه من القلعة وكاتب سائر الديلم بآذربيجان وليس عند ديسم من الخبر كلّه إلّا خبر عليّ بن ميشكى وظنّ أنّه وحده يقاتله.
    فلحق بأردبيل ابن أخت له يقال له: غانم، مضموما إلى وزيره النعيمي ومستوفيا عليه المال الذي ضمنه عن نفسه وعن عليّ بن عيسى خليفته.
    وسار على اغترار بمن معه من الديلم فوجد النعيمي الفرصة لما كان في نفسه وأفسد غانما على خاله ديسم وقتل عليّ بن عيسى بالمكروه العظيم واستأمن إلى عليّ بن ميشكى واحتمل معه كل ما قدر عليه من المال.
    وبلغ الخبر ديسما فعاد إلى أردبيل بعد أن كان بلغ إلى زنجان وشغب الديلم عليه فأخرج كل ذخيرة له من الصياغات وغيرها وتوجه إلى برذعة على سبيل النزهة والصيد وهو يظن أن خصمه عليّ بن ميشكى وليس عنده خبر المرزبان.
    وكان أنفذ إلى أرمينية من يوطّئ له نيّات ملوكها من ابن الديراني وابن خاجيق وأخيه حمزة وابن سباط وغيرهم ليلجأ إليهم إن حزبه أمر وورد عليه خبر عليّ بن ميشكى بتوجهه إلى أردبيل مع عدّة يسيرة ثقة بأنّ الديلم الذين مع ديسم سيستأمنون إليه، فانكفأ ديسم إلى أردبيل ووقعت الحرب فقلب الديلم تراسهم في وجهه وانحازوا إلى ابن ميشكى سوى جستان بن شرمزن فإنّه أخلص مودة ديسم فقبض الديلم عليه وانهزم ديسم في نفر من الأكراد إلى بلد الأرمن فحمل إليه ملوكها ما تماسك به.
    وورد عليه خبر المرزبان هناك في مسيره عن قلعة سميرم التي كان محبوسا فيها وحصوله بأردبيل وتسلّمه القلاع والأموال وإنفاذه على ابن ميشكى في جيش لطلب ديسم فلم يمكنه المقام فهرب إلى الموصل ثم صار إلى بغداد وذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة فتلقّاه معزّ الدولة وأكرمه ورتّبه في أعلى مرتبة وقضى حقّه وواصل إليه المبارّ والألطاف وبذل له خمسين ألف دينار إقطاعا في كلّ سنة على أن يقيم بحضرته فأقام مديدة في أطيب عيش وأرخى بال فكان يقول ذلك لكتّابه وأسبابه ويقول:
    « أرغد عيش لي وأهناه أيّام مقامي ببغداد. » ثم كاتبه أسبابه من آذربيجان بما اغترّ به فنزع إلى الإمرة والاستبداد فرحل من بغداد وزوّده معزّ الدولة مالا كثيرا وثيابا ودوابّ ومراكب. فسار إلى الشام زائرا سيف الدولة في طريقه ثم انقلب من عنده إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن خاجيق لثقته كانت به وإنّه كان أودعه ذخيرة له وكتب المرزبان إليه يلزمه القبض [ عليه ].
    فدافعه ثم اضطر إلى أن أطاعه في القبض عليه وسأله ألّا يلزمه تسليمه إليه فأجابه المرزبان إلى ذلك فأوقع ابن الديراني الحيلة على ديسم حتى قبض عليه وحصله عنده. فلمّا فعل ذلك كتب إليه المرزبان يلزمه حمله إلى حضرته ناقضا الشرط فدافعه مدة ثم اضطرّ إلى تسليمه فحبسه عنده ثم سمل عينه فلمّا توفّى المرزبان قتله بعض أسبابه خوفا من غائلته.
    ذكر حيلة المرزبان على صاحب قلعة سميرم وما تم عليه حتى أفلت من موضعه وعاد إلى مملكته بآذربيجان

    لما حصل المرزبان في القلعة امتنع من الطعام والشراب خاصّة اللحوم وما أشبهها واقتصر على القوت اليسير من الحنطة التي يستظهر منه أيضا. فبلغ خبره ركن الدولة فأمر أن يوصل إليه طبّاخه الذي يثق به ليتولّى له ما كان يتولاه من المأكل والمشرب فحصل الطباخ في القلعة معه وأخذ المرزبان في تدبير الخلاص على يده.
    وكان الطباخ خفيفا أحمق وظهر منه ما في نفسه وعرف خبره شيراسفار صاحب القلعة فرمى به من قلة القلعة فهلك وضيّق على المرزبان.
    وكانت والدة المرزبان خراسويه بنت جستان بن وهسوذان الملك تبذل الأموال في تعرّف أخباره وتحتال في خلاصه وكان إبراهيم المعروف بابن الصابي - وقد تقدم ذكره - في حبس ديسم فتخلّص منه ولم يجد مفزعا إلّا خراسويه فقصدها ولاذ بها وضمن لها أن يتوصّل إلى المرزبان فأطلقت له مالا وأنفذته.
    وكانت المراغة بها رجل يعرف بتوبان يصارع ويقامر ويدخل في كل منكر فطلبه أصحاب الشرط بها فخاف وهرب من المراغة وقصد خراسويه وضمن لها السعى لها في أمر ابنها فطمعت في جلادته وأطلقت له مالا وعرّفته خبر ابن الضابى وأنّه نفذ قبله.
    فاجتمعا ولبسا لباس التجار وأظهرا الستر والدين والورع ولزما فناء القلعة وراسلا شيراسفار وعرّفاه أنّهما تاجران وأنّهما كانا فيما مضى يعاملان المرزبان وأنّه أخذ بضائعهما وامتعة التجار وسألاه أن يجمع بينهما وبين المرزبان ليتنجّزا كتبه وعلاماته بإزاحة علّتهما فيما يستحقانه وتستحقه التجار عليه وواصلا الدعاء له وعلى المرزبان وأكثرا لعنه وشتمه وكانا يقولان:
    « الحمد لله الذي كفى الناس شرّ هذا الظالم الذي لا يعرف الله ولا يؤمن بنبيه . » وما أشبه هذا حتى رقّ شيراسفار لهما وأوصل واحدا واحدا منهما إليه من غير اجتماع فقال المرزبان:
    « لا أعرفهما. » فأغلظا له وواجهاه بالقبيح وخوّفاه بالله وسوء العاقبة وقال:
    « إني لا أعرف حسابهما ولكني أكتب بأن يحاسبا. » وكثر ترددهما إليه فضمت والدته إليهما وصيفا الديلمي المتطبّب - وكان في عسكر السلطان قديما - ورجلا آخر يعرف بأبي الحسن ابن جني وجماعة من أهل الطرم على هيئة التجار وحملوا الألطاف إلى شيراسفار وأسبابه وإلى بواب القلعة وكانوا يشترون منهم الحوائج ويعدونهم، إلى أن يصلوا إلى أموالهم وبضائعهم، أنّهم يبذلون لهم أموالا جليلة وفي خلال ذلك يبكون ويشكّون ظلم المرزبان وعدوانه وكانوا يصلون إلى المرزبان فرادى ويوصلون الكتب ويتنجّزون الأجوبة ويدسّون إليه في خلال ذلك الدنانير الكثيرة ليبذلها وينفقها فيما يحتاج إليه.
    وكان لشيراسفار الموكّل بالقلعة غلام أمرد وضيء الوجه يحمل ترسه على مذهب الديلم فأظهر المرزبان عشقا له ومحبّة مفرطة فكان يعطيه سرّا الشيء بعد الشيء ويعده - إن هو تخلّص - بأمور عظيمة وولايات كبار حتى طمع الغلام وواطأه على كل ما أحبّ وأوصل إليه درعا في زنبيل فيه تراب وعدة سكاكين وأوصل إليه شموعا فيها مبارد واجتمع معه على وجوه الحيل.
    وأظهر أولئك القوم الذين كانوا في زيّ التجار النسك والتألّه والخشوع، فصاروا يصلون إلى باب القلعة ويوصلهم البوّاب واحدا واحدا إلى أن تمّت الحيلة بموافقة هذا الغلام الإسبربر.
    وكان اتفق معه على يوم بعينه: إذا دخل إليه شيراسفار يناوله الترس والزوبين الذي لصاحبه إذا استدعاه منه ووافق بعض أولئك التجار أن يكونوا مع البوّاب ليفتكوا به إذا صاح بهم.
    فلمّا كان في ذلك اليوم وصل إليه توبان وكان أجلدهم وجلس آخر مع البوّاب ليفتك به إذا سمع الصوت وجلس الباقون قريبا من الباب ليدخلوا عند التمكن.
    فلمّا صار إليه شيراسفار على رسم كان له وكان المرزبان قد برد مسمار قيده على مرّ الأيّام ولبس في ذلك اليوم درعه والتفّ بكسائه وكان يخاطب شيراسفار قديما ويسأله أن يطلقه ويعده المواعيد العظام فيمتنع عليه شيراسفار ويقول:
    « لا أخون ركن الدولة أبدا ولكن أساعدك على كل ما يخفّف عنك غير هذا الباب. » فلمّا كان في ذلك اليوم عاد المرزبان في مسألته وكان توبان حاضرا فقال لهم توبان:
    « بالله إلّا خلّصتمونى من الديون عليكم ثم عودوا لشأنكم. » فقال المرزبان لشيراسفار:
    « قد أطلت عنائي. » ونهض من موضعه وقد أخرج رجله من القيد وبادر إلى الباب فتسلم الترس والزوبين من الغلام ونهض شيراسفار ليتعلق به فوثب توبان إليه وعاركه وصرعه ثم وجأه بسكين كان معه حتى قتله وصاح المرزبان:
    « أشتلم. » على عادة الديلم فوثب الرجل الذي كان في الدهليز على البواب فقتله ودخل القوم الذين كانوا بالقرب فأحدقوا بالمرزبان وكان منغمسا في دم شيراسفار.
    وكان الموكّلون في القلعة على تفرّق ولعب بالنرّد فتداخلهم الرعب واجتمعوا وطلبوا الأمان فجمعهم المرزبان في بيت وأخرج حرم المقتول شيراسفار وحرم الجماعة ثم طلب سلاح القوم الذين في البيت فملكه، ثم أخرجهم من القلعة وتوافى إليه الرجال حتى خرج ولحق بمأمنه.
    ذكر الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج

    وفي هذه السنة تمّ الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج بعد حروب كثيرة على باب الريّ ومنازلة ثلاثة أشهر وانصرف ابن محتاج إلى خراسان.
    ذكر السبب في ذلك

    كان استمدّ وشمكير على عادته صاحب خراسان فأمدّه بأبي عليّ ابن محتاج في جموع كثيرة وتوجّهوا إلى الريّ وظنّوا أنّه الاستيصال وأنّه لا ثبات لركن الدولة ولا بقيّة له.
    وجاء وشمكير على ثقة بذلك فعلم ركن الدولة أنّه لا يقوم لهؤلاء الجمع الكثير إلّا بالمطاولة والتحصّن بحيث يكون القتال من وجه واحد فجعل بلد الريّ خلفه وحارب في الموضع المعروف بطبرك، فدامت الحرب وصبر الفريقان إلى أن قرب الشتاء وملّ الخراسانية فلم يصبروا وخافوا أيضا سقوط الثلج عليهم فأخذوا في العتاب والتراسل ورقّ أمر الحرب.
    وكان الواسطة من قبل الخراسانية أبو جعفر الخازن وهو صاحب الكتاب المعروف بزيج الصفائح وله تقدّم في علوم الرياضة ومرّ بينهما كلام كثير انتهى إلى الموادعة والصلح.
    فأشير على ركن الدولة بأن يجهز على الجرح ولا ينفس عن خناق عدوّه فإنّه إنّما جنح للسلم عن ضرورة وقد نفد صبره وماله وشغّب عليه جنده:
    « ووراءك بلدة مثل الريّ وأنت وادع جامّ بها » ولم ير له أحد من نصحائه أن يجيبهم إلى الصلح وذاك أن النكول كان قد ظهر فيهم.
    فلم يقبل ركن الدولة هذا الرأي من أحد على سداده ووضوحه ولو صدقهم بصدمة يصدمهم بها لأتى عليهم، والله أعلم بعواقب الأمور. فقبل الصلح وشقّ ذلك على وشمكير وبلغ منه مبلغا عظيما وذلك أنّه كان لا ينظر ولا يرجو أن يجمع أكثر مما جمع ولا يحتشد أكثر من هذا الاحتشاد.
    فلمّا انصرف ابن محتاج طلب ركن الدولة وشمكير فانهزم من بين يديه ولم يقف فاتبعه حتى أخرجه من طبرستان وجرجان وحصل بإسفرايين.
    وكتب إلى نوح بن نصر يعرفه ما جرى ويغريه بابن محتاج فاغتاظ نوح وتحرّك منه ما كان في نفسه على ابن محتاج فعزله من الجيش ببكر بن مالك وأنفذه في جيوش عظيمة.
    فصار ذلك سببا قويّا ضروريا لمكاتبة أبي عليّ ابن محتاج ركن الدولة وعدوله إلى طاعته بعد أن أصابه في نفسه وأسبابه وأحواله مكاره عظيمة أزالت ثقته بصاحبه وثقة صاحبه به ولم يبق بينهما حال يرجى معها الصلاح.
    وكتب الخليفة في هذا الصلح كتابا نفذ على يد ابن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة وأبي مخلد عبد الله بن يحيى صاحب معزّ الدولة واتّفق موت نوح قبل أن يؤدّى الرسالة والكتاب وقعد مكانه عبد الملك بن نوح.
    ولما قدم أبو مخلد من خراسان عائدا ومعه أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي اعترضهما ابن أبي الشوك الكردي من الشاذنجان وكان متقلّدا أعمال المعاون بحلوان وإليه الحماية والطريق وأظهر الخدمة وخرج معهما مبذرقا بهما.
    ثم غدر فنهبهما ونهب القافلة التي كانت معهما وأسر أبا مخلد وأفلت أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي فطالب ابن أبي الشوك معزّ الدولة بإطلاق رهائنه ووعد أنّه أن أطلقوا أطلق أبا مخلد فضمن له ذلك وأطلقوا وأطلق أبا مخلد.
    ثم خرج الحاجب سبكتكين إلى حلوان للإيقاع بالأكراد فدخل حلوان وقرّر أمر الأكراد وابن أبي الشوك وعاد.
    ودخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة

    وفيها خرج أبو سالم ديسم من بغداد وذلك لما يئس من نصرة معزّ الدولة.
    ذكر السبب في يأس ديسم من نصرة معز الدولة إياه

    سبب ذلك أنّ ركن الدولة صالح المرزبان بن محمّد السلّار وصاهره وتمكّن سلّار من آذربيجان فانصرف ديسم من حضرة معزّ الدولة وودّعه وظنّ أنّه يجد عند ناصر الدولة عونا فقصده وأقام عنده بالموصل مدّة ثم مضى من عنده بعد اليأس منه إلى سيف الدولة أخيه وأقام عنده أيضا مدّة.
    ركن الدولة يكتب عهدا لابن محتاج على خراسان من جهة الخليفة

    وفي هذه السنة قصد أبو عليّ ابن محتاج ركن الدولة للضرورة التي ذكرناها وجاء على طريق جبل ونداذ هرمز فاستقبله ركن الدولة وبالغ في إكرامه وأضافه وجميع من معه وأقام لهم الأنزال الواسعة والتمس ابن محتاج عهدا يكتب له من جهة الخليفة على خراسان فكوتب معزّ الدولة في ذلك فتكفّل به حتى فعل.
    وفيها وصل رسول ابن محتاج إلى بغداد ولقي معزّ الدولة فاحتشد له احتشادا كثيرا وأوصله إلى الخليفة حتى عقد لأبي عليّ على خراسان وقلّده إيّاها مكان نوح بن نصر وسلّم إليه العقد والخلع وضم إليه أبا مخلد وأبا بكر بن أبي عمرو الشرابي وأنفذ معهم معزّ الدولة أبا منصور لشكرورز نجدة لأبي عليّ ابن محتاج ومعاونة له على نوح.
    فلمّا كان بعد مدّة ورد كتاب أبي عليّ ابن محتاج بأنّه قد خطب لأمير المؤمنين المطيع لله بنيسابور ولم يكن خطب له إلى هذه الغاية في شيء من بلدان خراسان وذكر في كتابه صحّة موت نوح.
    وورد الخبر بأنّ نوحا لمّا حضرته الوفاة كان بحضرته ابن مالك وهو أحد قوّاده الكبار فغلب على الأمور وعقد الأمر لعبد الملك بن نوح في ولاية خراسان وتقلّد هو رئاسة الجيش مكان أبي عليّ ابن محتاج.


  • #19
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وسار يطلب ابن محتاج وانفلّ عن ابن محتاج رجاله وعادوا إلى صاحب خراسان وبقي أبو عليّ في مائتي رجل من أصحابه سوى من ضمّ إليه من الديلم فاضطرّ إلى الهرب من بين يدي ابن مالك.
    وورد خبره من الدامغان بأنّه صائر إلى ركن الدولة مستجيرا به، فقبله ركن الدولة أحسن قبول وأقام عنده بالريّ. ونزل ابن مالك بنيسابور وتتبع أسباب ابن محتاج.
    وفيها صرف الابزاعجى عن الشرطة ببغداد واعتقل وصودر على ثلاثمائة ألف درهم وقلّد الشرطة مكانه تكينك نقيب الأتراك وقد كان طولب قبل صرفه بأربعين ألف درهم على أن يقرّر في عمله من الشرطة ووعد بإقطاع فلم يفعل.
    ذكر الرأي الخطأ من الابزاعجى حتى استمرت عليه النكبة وعظمت بعد أن كانت خفيفة

    كان الابزاعجى منقطعا إلى أبي عليّ الخازن فاستشاره وكان أبو عليّ يعتنى به فأشار عليه ألّا يلتزم شيئا ولا يدخل تحت شيء مما يطالب به وقال له:
    « هذا يطمع فيك ويسير رسما عليك فإن امتنعت انحسم الطمع فيك وفيما بعده.
    فقبل رأيه فأدّاه ذلك إلى النكبة وما أراد به أبو عليّ إلّا الخير ولكنّه أخطأ الرأي كما يخطئ الإنسان ولمّا أدّى هذا المال وانصرف إلى منزله قبض أيضا عليه ونكب نكبة ثانية وسلّم إلى تكينك فجرى عليه مكروه عظيم وصودر على مائتين وخمسين ألفا فأدّاها.
    دخول ركن الدولة إلى جرجان

    وفيها دخل ركن الدولة إلى جرجان ومعه أبو عليّ ابن محتاج بغير حرب وانصرف وشمكير عنه ودخل خراسان.
    وفيها خطب (بمكة والحجاز) لركن الدولة ومعزّ الدولة وبختيار وبعدهم لابن طغج وذلك بعد حرب جرت بين أصحاب معزّ الدولة وبين المصريين.
    وكان أبو عليّ ابن محمّد بن عبيد الله صاحب الحاج من قبل السلطان بمكّة، فأبلى وقاتل وقتل ابن له بين يديه.
    ودخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة

    تقليد معز الدولة إمرة الأمراء لابنه بختيار

    وفيها عقد معزّ الدولة لابنه أبي منصور بختيار الرياسة وقلّده إمرة الأمراء وذلك في المحرم من هذه السنة.
    وكان سبب ذلك أنّه عرض لمعزّ الدولة علّة يقال له: فرمافسمس وهي علّة الإنعاظ الدائم ويكون معه وجع شديد مع توتّر القضيب. وكان معزّ الدولة خوّارا في أمراضه فأوصى وقلّد ابنه كما حكينا إمرة الأمراء.
    عمران وأمتعة التجار

    وبلغ عمران بن شاهين أنّ معزّ الدولة قد مات واجتاز به مال يحمل إلى معزّ الدولة من الأهواز ومعه كار كبير فيه للتجار أمتعة عظيمة وكان مقدار المال المحمول لمعزّ الدولة مائة ألف دينار وما للتجار أضعاف ذلك.
    فمدّ عمران يده إلى المال والكار على رسمه في مثل ذلك فأخذ الجميع وقبض على المرعبل ملّاح معزّ الدولة الذي كان مع المال فصادره وضربه ضربا عظيما ودهقه إلى أن أزمنه. ثم أنفذ إليه معزّ الدولة أبا الحسين الكوكبي نقيب الطالبيين برسالة إلى أن ردّ المال وذهبت أمتعة التجار وانتقض الصلح وتأدّى الأمر إلى الوحشة.
    وكان الحاجب سبكتكين أخرج إلى شهرزور في جيش كثير ومعه عرّادات ومنجنيقات فأقام مدّة عليها ولم يمكنه فتحها واتّفق أنّ جيشا ورد من صاحب خراسان إلى الريّ فاحتيج إلى إنفاذ سبكتكين إلى ركن الدولة مددا له فانصرف من شهرزور ولم يصنع شيئا.
    استيلاء ابن ماكان على إصبهان ومبادرة ابن العميد

    وفيها ورد ابن ماكان أصبهان وكان مسيره إليها على طريق المفازة من خراسان فهجم هجوما وأضطرّ أبو منصور بويه بن ركن الدولة وعيال ركن الدولة وجميع أصحابه أن يخرجوا على وجوههم إلى خان ألنجان ومنها إلى الرباط على أقبح صورة واستولى ابن ماكان على أصبهان.
    وكان الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد - رفع الله درجته - بأرجان فبادر مع قطعة من العرب ونفر يسير من الديلم كانوا معه، فوجد ابن ماكان قد تبع أبا منصور بويه بن ركن الدولة ومن معه من الحرم فلحق سواده وملك خزائنه وتخلّص الأمير بويه والحرم وقد أشرف هو والحرم على الفضيحة والأسر فلحقه الأستاذ الرئيس فعارض ابن ماكان ودافعه بخان ألنجان فأوقع به واستأسره وبه ضربات وأسر جميع قوّاده وقتل أصحابه قتلا ذريعا.
    وحمل الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن ماكان وقوّاده إلى القلعة بالخان ثم صار إلى إصبهان فأوقع بمن فيها من أصحاب ابن ماكان وورد الأمير أبا منصور بويه بن ركن الدولة مع الحرم إلى إصبهان مصونين وتلافى ذلك الخطب العظيم أحسن تلاف.
    وكان يحدّثني - رحمه الله - بخبر هذه الوقعة مرّات فيقول:
    لما التقينا بالخان انهزم عنى أصحابي واشتغل أصحاب ابن ماكان بالنهب والغارة وثبتّ أنفة فقط من غير رجاء مني في ظفر، بل وقفت وقوف المستسلم للقتل والأسر. وذلك أنّى فكرت في تلك الحالة وقلت: إن انصرفت بنفسي سالما ومثلت بين يدي صاحبي أيّ وجه يكون لي عنده وأيّ لسان يدور بعذر لي بحضرته بعد أن أسلمت أعزّته وأولاده وحرمه وبالجملة ملكه! ونظرت فإذا القتل عليّ في حالتي تلك أهون من هذه الحال التي تصوّرتها فصرت لان أقتل كريما.
    فسكنت واقفا وراء خيمة لي بعمودين وأنا أرى أطنابها تقطع وما فيها يخرج ومن يراني لا يظنّ أنّى أثبت في ذلك الموضع مع تلك الصورة، فبينما أنا كذلك وأصحاب ابن ماكان مشغولون عني بالنهب إذ ثاب إليّ غلامي روين وفلان وفلان وراءهم العرب فثاب منهم جماعة يسيرة فحملت بهم وصاح الناس:
    « الكرّة. » فقتلنا وأسرنا ولم يفلت أحد.
    ولما كان بعد ساعة من النهار لم يبق من جيش ابن ماكان عين تطرف إلّا من أخذ أسيرا، وحمل إليّ ابن ماكان وبه ضربة في يده وقد تعلّق منها إصبعان بجلدة رقيقة، فمدّها حتى قطعهما.
    فهو على ذلك بين يديّ حتى شقّ الزحمة إليه مكار أو ركابيّ فصفعه صفعة طنّ بها الموضع وغاص، فلحقني غيظ عظيم وأمرت بطلبه وهممت بالمثلة به وقطع يده فما وقف له على أثر ولا عرف له خبر إلى اليوم.
    وكان ابن ماكان مع عظم قدره في نفوس الديلم وشدّة بأسه محربا عظيم القوّة ورأيت أنا جوشنه وهو رزين جدا يعرض على فتيان الديلم وأشدائهم أن يلبسه فيستعفى منه لثقله على اليد.
    حوادث عدة

    وفي هذه السنة أنجد سيف الدولة ديسما وعاضده بعض الأكراد فقصد سلماس وملكها وخطب لسيف الدولة بها وكان السلّار غائبا بناحية باب الأبواب مشغولا بقوم خرجوا عليه هناك. فلمّا عاد من باب الأبواب وأصلح أمره هناك وظفر بعدوّه فقصد ديسما فاستأمن رجاله إلى سلّار وهرب ديسم ومضى الى ابن الديراني صاحب أرمينية مستجيرا به فقبله ثم غدر به وقبض عليه وقيّده وحمله إلى السلّار فيقال: إنّ السلّار سملة ثم قتله.
    وفيها مات أبو عليّ ابن محتاج وابنه بالريّ في وباء حدث هناك.
    وفيها تمّ الصلح بين ركن الدولة وصاحب خراسان.
    وفيها ورد أبو الفضل القاشاني صاحب ركن الدولة مع ابن أخت ابن مالك برسالة عبد الملك بن نوح صاحب خراسان يلتمس أن ينفذ إليه خلع ولواء على خراسان، فعقد له الخليفة اللواء وسلّمه مع الخلع إلى ابن أخته الوارد برسالته وردّه مع أبي الفضل القاشاني وقاد أيضا إليه فرسا وأضاف إلى خلع الولاية خلع منادمة.
    ودخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة

    ذكر وزارة المهلّبي وخروج روزبهان على معزّ الدولة

    وفيها خوطب أبو محمّد المهلّبي بالوزارة وأمر بذلك معزّ الدولة وخلع عليه وزاد في إقطاعه.
    وفيها خرج روزبهان بن ونداذ خرشيد الديلمي على معزّ الدولة وخرج أخوه المسمى ببلكا بشيراز وكاشفا بالعصيان وفعل مثل ذلك أخوه الآخر أسفار بالأهواز وجاء روزبهان إلى الأهواز وكان بها الوزير المهلبي ليحاربه فاستأمن رجاله إلى روزبهان وانحاز الوزير عنه.
    وورد الخبر بذلك على معزّ الدولة فلم يكن يصدّق بذلك لشدّة ثقته به فإنّه هو الذي اصطنعه ونوّه باسمه فكان خاملا وعظّم قدره وكان صغيرا قبل ذلك من رجال موسى فياذه وصغار أصحابه.
    فأنفذ معزّ الدولة شيرزيل على مقدّمته للحرب واضطرب الديلم بأجمعهم على معزّ الدولة اضطرابا شديدا وأظهروا أشياء كانت في نفوسهم عليه من العتب والاستبطاء وكاشفوه وواجهوه بكلّ ما كره وأخذوا يستأمنون.
    فقلد معزّ الدولة الابزاعجى الشرطة بواسط وأنفذه إليها. وفي يوم الخميس لخمس خلون من شعبان خرج معزّ الدولة من داره ببغداد متوجها إلى قتال روزبهان وزاد الأمر في استئمان الديلم إلى روزبهان.
    وخرج الخليفة المطيع لله منحدرا إلى معزّ الدولة وذلك أنّ ناصر الدولة لمّا بلغه خبر روزبهان وما عمله هو وأخوته حدّث نفسه ببغداد فوجّه بابنه أبي المرجّى وآخر من أولاده إلى بغداد، وبلغ ذلك معزّ الدولة فردّ الحاجب سبكتكين من واسط لضبطها وكتب إلى مسافر بن سهلان - وكان بنهاوند متقلّدا لها - يأمره بالتعجّل إلى بغداد لمضامّة الحاجب سبكتكين ببغداد.
    فشغب الديلم المقيمون ببغداد لطلب أرزاقهم فبعث إليهم مسافر وسبكتكين ولشكرورز ووعدهم بالمال فسكنوا وكان مسافر نزل في أعلى القطيعة وخرج سبكتكين الحاجب فنزل بباب الشمّاسية وهم على قنوط من [ معزّ ] الدولة.
    ومنع معزّ الدولة جميع الديلم من العبور لقنطرة أربق معه لما رأى من استئمانهم إلى روزبهان ووكّل بالقنطرة من يمنعهم من عبورها قلّة ثقة بهم وخوفا من أن يغدروا به ويشوّشوا باقى عسكره لأنّه كان ينفق فيهم فإذا قبضوا النفقات صاروا إلى روزبهان من فورهم فما عبر معه من الديلم إلّا ليلى بن موسى فياذه وشيرزيل ابن وهرى والحسن بن فنّاخسره فقط.
    وكان اعتماد معزّ الدولة على غلمانه الأتراك فحارب روزبهان يوم الاثنين انسلاخ شهر رمضان نهاره كلّه إلى أن سقط القوم ثم حمل بنفسه في غلمان داره وحضّهم بأن قال:
    « يا أولادى قد ربّيتكم تربية الأولاد فأرونى غناءكم الساعة. » فحملوا معه حملة الصبيان الأغمار فلم يردّهم شيء وانهزم روزبهان وأصحابه وأسر روزبهان وبه ضربات وأسر كوركير وفتح اللشكري وأرسلان كور.
    شرح صورة هذه الحرب على سياقة من شاهدها

    استوحش الديلم من منع معزّ الدولة إيّاهم من العبور، فاجتمعوا عليه وقالوا له:
    « إن كنّا رجالك فأخرجنا نقاتل بين يديك فإنّا لا نصبر أن نجلس مع الصبيان لحفظ سوادك ونرى الأتراك يقاتلون عنك فمتى ظفرت بعدوّك خرجنا من المحمدة ومتى ظفر عدوّك فلحقنا العار والسبّة. » وكأنّهم سلكوا في هذا الكلام مسلك الحيلة ليطلق لهم العبور فيتمكّنون من كسر عسكره والاستئمان إلى عدوّه.
    فسألهم التوقّف وقال:
    « إنّما أريد أن أشامّ القوم ولا أناجزهم كما فعلت بالأمس فإذا كان في غد باكرناهم بأجمعنا على تعبية واستعنّا بالله وناجزناهم. » وكان يدرّ عليهم النفقات ويواصل العطايا ويكثر المداراة فأمسكوا عنه وعبر معزّ الدولة وعبّى غلمانه كراديس تتناوب في الحملات إلى وقت غروب الشمس فهناك فشل الأتراك وانقطعت حيلهم وفنى نشّابهم وشكوا إلى معزّ الدولة وقالوا:
    « ليس فينا فضل وقد أمسينا فنستريح الليلة وتفرّق فينا النشّاب ونباكرهم الحرب. » فعلم معزّ الدولة أنّه إن رجع عن هذه الحالة زحف روزبهان والديلم وثار من خلّف وراءه من أصحابه الديلم الذين كان يتّهمهم فلا يمكنه الهرب وكان الهلاك فبكى بين أيدى غلمانه وكان سريع الدمعة ثم سألهم أن تجمع الكراديس كلّها ويحملوا وهو في أوّلهم فإمّا أن يظفروا وإمّا أن يقتل أول من يقتل. فطالبوه بالنشاب فقال:
    « قد بقي مع الغلمان الأصاغر نشّاب فخذوه وتوزّعوه. » وكانت عدّة من الغلمان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد العتاق وعليهم الجنن والتجافيف وكانوا سألوا معزّ الدولة أن يأذن لهم في الحملة نوبة في الكراديس فلم يأذن لهم وقال لهم:
    « إذا كان الوقت الذي يصلح لكم ما سألتم أذنت فيه. » فوجّه إليهم بنقيب وأومأ بيده أن اقبلوا ما يقول النقيب ليأخذ النشاب منهم فلم يشكوا أنّه إنّما أومأ إذنا لهم فيما كانوا يسألونه ووعدهم به، فحملوا وهم مستريحون وكذلك خيلهم فصدموا صفوف الديلم فكسروا بعضهم فوق بعض وصاروا من ورائهم وحمل معزّ الدولة فوضع فيهم اللتوت فكانت إيّاها وكتب بالظفر إلى بغداد.
    فورد على الديلم المقيمين ببغداد ما أدهشهم ولم يصدّقوا به وقدّروا أنّه أرجف بذلك إرجافا فكانوا يستهزئون استهزاء ظاهرا ويقولون:
    « نعم كانوا دجاجا وضع عليهم مكبّة فما أفلت أحد ».
    وكانت نفوسهم اشرأبّت إلى روزبهان. فلمّا صحّ عندهم الخبر ضعفت نفوسهم وانخذلوا.
    وأسرع معزّ الدولة الانصراف ليلحق بغداد قبل ورود أصحاب ناصر الدولة إليها. فدخل بغداد يوم الجمعة لاثنى عشرة ليلة بقيت من شوال ودخل داره ثم سار في يومه ذلك في الماء إلى معسكر الحاجب بباب الشمّاسية في زبزب ومعه روزبهان في زبزب آخر مكشوفا ليراه الناس وكوركير في زبزب آخر، واجتمع الناس على الشطوط فدعوا له وعلى روزبهان.
    وقد كانت العامّة محبّين لأيّام معزّ الدولة وذلك لما كان منه في سدّ بثق نهر الرّفيل وسدّ بثق بادوريا فإنّه خرج بنفسه حتى سدّ هذا البثق وحمل التراب بنفسه في برّكة قبائه حتى فعل جميع العسكر مثل فعله وسدّ ذلك البثق. ثم خرج إلى النهروانات فسدّ بثقابها وكانت النهروانات قد بطلت وكذلك بادوريا فلمّا سدّ بثوقها عمرت بغداد وبيع الخبز النقي عشرين رطلا بدرهم فمالت العامّة إلى أيّام معزّ الدولة وأحبّوه.
    ومضى الأمير معزّ الدولة ممتدّا إلى عسكره بقطربّل وكان أبو المرجّى وأخوه قد وصلا إلى عكبرا ووصلت خيولهما إلى البركان. فلمّا بلغهما قدوم معزّ الدولة وما جرى على روزبهان انصرفا من عكبرا إلى الموصل وتبعهما الحاجب سبكتكين فلم يلحقهما لإغذاذهما السير.
    وحبس روزبهان بالصراة في حصن كان هناك فكان الديلم يحدّثون أنفسهم بكبس موضعه وإخراجه. وأشار أبو العباس مسافر على معزّ الدولة بقتله فأبى وكره ذلك إلى أن قال جماعة من ثقاته:
    « إنّك إن لم تبادر إلى قتله أخذه الديلم غصبا وزالت الدولة وذهبت أرواحنا. » فاخرج حينئذ بالليل وغرّق في سميريّة أسفل دار الخليفة.
    وورد الخبر بعد ذلك بظفر الأستاذ ابن العميد ببلّكا أخي روزبهان وردّه الملك على أبي شجاع فناخسره بن ركن الدولة.
    فانطوى ذكر روزبهان وأخويه بعد أن اشتعل اشتعال النار وانحاز إليه وإلى أخيه بلّكا الديلم وظنّوا أنّهم قد نقلوا ملك بنى بويه ولله الأمر من قبل ومن بعد.
    ثم إنّ معزّ الدولة أسقط الديلم الروزبهانيّة وقبض على جماعة من قواده وأعرض عن سائر الديلم وأقبل على الأتراك واصطنعهم وكتب بالفتح إلى الأمصار.
    ودخلت سنة ستّ وأربعين وثلاثمائة

    موت السلار المرزبان

    وفيها ورد الخبر بموت السلار المرزبان بآذربيجان في شهر رمضان وكانت وفاته بفساد المزاج. فلمّا يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان على أن يكون الرياسة له ثم من بعده لابنه جستان، وكان قد تقدّم إلى أصحاب قلاعه الموكّلين بحفظها إن حدث الموت ألّا يسلّموها إلّا إلى جستان ابنه فإن حدث به حدث الموت فإلى ابنه إبراهيم فإن مات فإلى ابنه ناصر.
    وكان له ولد رابع يقال له كيخسره فلم يذكره لصغره وقال: فإن لم يبق من هؤلاء أحد فسلّموها إلى أخي وهسوذان.
    ولما وصّى إلى أخيه وصيّته هذه عرّفه علاماته التي بينه وبين أصحاب قلاعه فأنفذ وهسوذان بعلاماته وخاتمه إلى المرتّبين في القلاع في تسليمها إليه فأبوا عليه وأظهروا وصيّته المستورة.
    وكان إبراهيم بن المرزبان متزوّجا بابنة ولكين بن خرشيد وهو من أكابر الديلم وكان ولكين هذا محبوسا من جهة المرزبان بأردبيل، فلمّا مات المرزبان خاطبته زوجته في أبيها وحملته على أن يمضى بنفسه ويخرجه من محبسه. فركب وأخرجه من غير استئذان عمّه وهسوذان فاستوحش وهسوذان وفكّر في مخاتلة أخيه له في الوصية وفي إقدام ابن أخيه إبراهيم عليه وإخراجه ولكين من محبسه بغير إذنه فساء ظنّه وخرج من أردبيل كالهارب إلى الطرم فاستولى جستان على ممالك أبيه وأطاعه أخواه إبراهيم وناصر وقلّد وزارته أبا عبد الله النعيمي وتوافى إليه قوّاد أبيه إلّا جستان بن شرمزن فإنّه تأخّر عنه وفكّر في التغلّب على ناحية أرمينية وكان واليا بها.
    وأخذ وهسوذان في التضريب بين أولاد أخيه وتفريق كلمتهم وإطماع أعدائهم فيهم والتشفّى بما عومل به حتى اضطرب عليهم عسكرهم وطالبوهم بما لا يتسعون له حتى تمكّن منهم وقتل بعضهم وحرّض على من لم يمكنه قتله حتى بلغ ما أراد واشتفى وزاد.
    ذكر أخبار الأمراض والمناخ والزلازل

    وفي هذه السنة كثر ببغداد أورام الحلق والماشرا وكثر الموت بهذين الضربين وموت الفجاءة وكل من افتصد انصبت إلى ذراعه مادّة حادّة عظيمة يتبعها حمّى حادّة فيحتاج إلى بطّ وما سلم أحد ممن افتصد.
    وكانت شتوة هذه السنة دفيّة عادمة الأمطار وحكى أهل البحر أنّ البحر نقص في هذه السنة ثمانين باعا وأنّه ظهر لهم جبال وجزائر لم يعرفوها ولا سمعوا بها قطّ وكانت زيادة دجلة في هذه السنة يسيرا نحو عشرة أذرع وكان بالريّ ونواحيها زلازل عظام مات فيها من الناس ما يعظم مقداره ويكثر عدده.
    ودخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة

    حوادث عدة

    وفيها كثرت الزلازل ببغداد وحلوان وبلدان الجبل وعظم أمرها بالجبل خاصّة فخربت الأبنية وقتلت الخلق.
    وفيها شغب الأتراك والديلم بالموصل على ناصر الدولة وزحفوا إلى داره وأرادوا الفتك به فحاربهم بغلمانه وبالعامة وظفر بهم وقتل بعضهم في الوقعة وقبض على جماعة وهرب الباقون إلى بغداد.
    وفيها ورد الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة إلى بغداد يخطب ابنة معزّ الدولة ومعه أبو عليّ ابن أبي الفضل القاشاني وزيرا ومعه أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد يكتب له على سبيل الترسل.
    فلمّا كان ليلة السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى زفّت بنت معزّ الدولة إلى أبي منصور بويه ثم حملها إلى إصبهان.
    طمع ناصر الدولة في ممالك معز الدولة بعد الصلح والموادعة

    وفيها خرج معزّ الدولة نحو الموصل يوم الخميس لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وعبر من باب الشماسية إلى قطربّل وضرب مضاربه هناك وعزم على قصد الموصل لمحاربة ناصر الدولة وأولاده لما كان منهم في قصد ممالكه والطمع فيها بعد الصلح والموادعة وتردّدت الرسل فأمر معزّ الدولة أن تكتب عنه توبيخات وتهجينات عنيفة شديدة وأمر أن تقرأ وتستوفى أجوبتها.
    ذكر هذه التوبيخات


  • #20
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    قال فيها:
    « أنت ذاكر ما جرى عليك من تكين الشيرزادى فإنّه أخرجك من نعمتك وكاد يأتى على مهجتك فلجأت إليّ بعد عداوة سبقت منك لي ومنازعة نازعتنيها عن بلاد لم يكن في يدك منها شيء فاطرحت الأحقاد واغتفرت الذنوب وآثرتك على تكين وهو إذ ذاك يبذل لي الخدمة والطاعة وحمل المال وإقامة الخطبة ولا يلتمس منى الأتراك الدخول بينك وبينه والانصراف عن النصرة لك عليه فآثرتك.
    « وأنفذت كاتبي وعسكري بأموال أنفقتها ومؤن تكلّفتها حتى أخذت بناصيته وسلّمته إليك فشفيت صدرك منه وعدت إلى وطنك.
    « ثم حصلت في يد وزيرى الصيمري حصول المستجير الذليل فوفى لك ولو شاء لأسرك واشتمل على بلادك وقلاعك.
    « وظننت أنّك تعرف لي حقّ هذه النعمة وتطالب نفسك عليها بالمجازاة فأبيت إلّا غدرا بي وتقبيحا في معاملتى.
    « وليتك - لما لم تعمل عمل الأصدقاء الأوفياء - عملت عمل الأعداء الحزماء، فكاتبتنى تعرض نفسك عليّ في النائبة العظيمة التي نابتنى في أوثق الناس عندي وتبذل لي معاونتك فكنت تنفذ عسكرك إلى تكريت على أنّه مدد لي فإن لاح لك استظهار مني تحمّدت عليّ وتودّدت إليّ وإن لاح لك استظهار عليّ أظهرت ما في نفسك حيث تكون فيه أعذر وأقل ملامة. » ثم أتبع هذا القول بالتوعّد والتهدّد بالمسير إلى أعماله واستيصاله.
    الجواب عن هذه الرسالة

    « إنّك قد صدقت في جميع ما عددت وإني معترف به، وو الله ما كان عن رأيي ولا أمرت به ولكني شيخ لي أولاد أحداث يخالفوننى في تدبيرهم فيركبون الهوى في أمورهم ولا رأي لمن لا يطاع. » وتمّت الموافقة بينه وبينه على تعجيل ألفي ألف درهم فعجلها له والتزم مثلها في كل سنة فأظهر معزّ الدولة الرضا ضرورة لأنّه كان غير واثق برجاله ولأنّ أعماله اختلّت بتلك الفتنة فعاد إلى داره.
    ثم أخّر ناصر الدولة المال الثاني لأنّ الأوّل كان في سنة ستّ فخرج معزّ الدولة إليه وسار ناصر الدولة إلى نصيبين ودخل معزّ الدولة الموصل وسار إلى نصيبين وخلف سبكتكين بالموصل.
    وأنفذ سريّة إلى سنجار لأنّه بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة بها وبلغهما خبر السريّة فانصرفا وقد كان أعجلهما الأمر فتركا خيمهما وجميع معسكرهما بحاله ولم يمكنهما حمل شيء. فأسرع الديلم الذين كانوا في السريّة إلى الغارة والنهب.
    ذكر عجلة وإضاعة حزم

    إنّ الديلم نزلوا في خيم أبي المرجّى وأخيه فعادا وكبسا العسكر واستأسرا جماعة وقتلا جماعة وكان ممّن قتل ابن ملك الديلم المعروف بسياه چشم قتله هبة الله ووقع في الأسر شيرزاد وشيرمردى وعدد كثير.
    ذكر السبب في هذه النكبة وضعف معز الدولة بعد الاستعلاء

    كان من عادة ناصر الدولة إذا تنحى من بين يدي معزّ الدولة ألّا يترك في البلد لا كاتبا ولا دليلا ولا أحدا ممّن يعرف نفع السلطان وضرّه ويحشرهم إلى قلاعه مع حسباناته ودواوينه. ثم يأمر الصعاليك والعرب أن يتطرّفوا البلد ويمنعوا العلّافة ومن يخرج لطلب العلف والطعام إلّا أن يكون معهم عسكر قويّ فإذا رأوا عسكرا قويا لم يظهروا ولم يتعرضوا وكان غرضه في ذلك أن يضيق المير والعلوفات فينصرف عنه معزّ الدولة. ففعل ذلك في هذا الوقت.
    وبلغ معزّ الدولة كثرة الغلات بنصيبين وكانت للسلطان فقصدها وخلّف حاجبه سبكتكين بالموصل. فلمّا صار ببرقعيد بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فعمل على كبسهما وندب لذلك جماعة من القواد الكبار وجعل الرئيس عليهم تكين الجامدار - وكان غلاما أمرد وضيء الوجه منهمكا في الشرب لا يعرف الصحو ولا تقدّمت له حنكة - فأشار الوزير المهلبي ألّا يخرجه في مثل هذا الوجه وأن يعدل إلى أحد مشايخ القواد فلم يقبل منه وأنفذه في خمسمائة رجل فأشرفوا على أبي المرجّى وهبة الله فأرهقوهما عن تقويض الخيم واستصحاب شيء من رجالهما وأفلتا على ظهور دوابّهما وتركوا جميع مالهم فانتهبه العسكر.
    ثم تعجّل أصحاب معزّ الدولة إلى الخيم وتركوا الحزم فنزلوها واستقرّوا فعطف عليهم أولئك وصارت الكبسة لهم فقتلوا وأسروا وغنموا ما شاءوا.
    وبقي معزّ الدولة في عدد يسير ببرقعيد في طريقه إلى نصيبين فكتب إلى بغداد يستدعى العساكر فتعجّلوا وتلاحقوا إليه فلمّا قويت عدّته سار من برقعيد إلى نصيبين وسار ناصر الدولة من نصيبين إلى ميّافارقين وفضّ جيشه عنه بأسره وصرفهم، فصار جميعهم إلى معزّ الدولة في الأمان واستأمن أبو زهير أخو ناصر الدولة إلى معزّ الدولة ورحل ناصر الدولة من ميّافارقين إلى حلب مستجيرا بأخيه سيف الدولة فتلقّاه أخوه بأجمل تلقّ وقبله أحسن قبول وخدمه بنفسه حتى تولّى نزع خفّه بيده.
    وكان حامد بن النمس توجّه من قبل معزّ الدولة إلى الرحبة فهزم من كان بها من جيش ناصر الدولة.
    وكان طريف الخادم وهزار مرد وهما غلاما ناصر الدولة يتطرّفان الموصل في الجانب الشرقي منها كل يوم ويلتقطان عمّال معزّ الدولة ويأخذان العلّافة من عسكر الحاجب ويمنعان من ورود شيء إلى الموصل حتى صارت محاصرة وأخذا من الثرثار من عمّال معزّ الدولة رجلا يعرف بعليّ بن الصقر وحملاه إلى القلعة ثم كبسا الحديثة وكان فيها محرز حاجب الوزير أبي محمد المهلّبي وأبو العلاء ابن شاذان يتقلّد عمالتها فقبضا عليهما ثم أطلقا محرزا وحملا أبا العلاء إلى القلعة.
    وكان معزّ الدولة راسل كافور الخادم بمصر يأمره بحمل مال إلى الحضرة فحبس كافور الرسول حبسا جميلا وطاوله وبثّ جواسيسه لتعرّف الأخبار.
    فلمّا عرف انصراف معزّ الدولة عن ذلك الوجه إلى بغداد ردّ الرسول خائبا.
    وورد عمرو النقيب من قبل ناصر الدولة إلى نصيبين وسفر في الصلح وطال الخطب بينه وبين معزّ الدولة فلم يتمّ الصلح. فلمّا رأى عمرو الصورة استأمن إلى معزّ الدولة وأقام بحضرته ولم يعد إلى ناصر الدولة.
    ثم ترددت رسائل بين معزّ الدولة وبين سيف الدولة وتوسّط بين أخيه وبينه حتى تقرر ما بينهما ورجع معزّ الدولة من نصيبين قاصدا الموصل.
    ذكر اتفاق صعب غير محتسب

    لمّا صار معزّ الدولة بين المونسية وآذرمه في اليوم الخامس عشر من شباط هبّت ريح باردة مغربية ووقع دمق فتلف في ساعات يسيرة من النهار عدد عظيم من عسكره ولحق معزّ الدولة غشية وكاد يتلف من كثرة ما عليه من الوبر والخزّ.
    فقلع أهل العسكر سقوف آذرمه وأبوابها وأوقدوها فأطلق معزّ الدولة لأهلها ثلاثة آلاف درهم ليبتاعوا بها مكان ما أخذ من أنقاضها.
    ذكر تدبير سيّئ ورأى ظاهر الفساد رآه معزّ الدولة بعد فراغه من روزبهان أدّى إلى تخريب المملكة وسوء عاقبة الأولاد والرعية

    دبّر معزّ الدولة عند فراغه من حرب روزبهان أن يطرد الديلم الروزبهانيّة ويمسك من لم يفارقه منهم وإن كانوا متهمين عنده وكان وعدهم للعشرة ثلاثة في أصول أموالهم وظنّ أنّه إن وفى للكلّ لم يتّسع له مع أنّ الفتح للأتراك وكان مائلا إليهم بالهوى قبل الاستحقاق فكيف بعد هذا الأثر العظيم! فابتدأ يجازى الأتراك بالإحسان فقوّد منهم جماعة واستحجب جماعة ونقّب جماعة ورفع كل طبقة إلى ما هو أعلى منها ونفى الديلم الروزبهانيّة ليتوفّر عليهم مالهم ويصير ذلك بإزاء ما يلزمه لأصحابه الديلم من الزيادات.
    فأخرجهم إلى الأهواز وكتب إلى وزيره المهلّبي بجمعهم من جميع النواحي والأعمال والتوكيل بهم والمسير معهم إلى آخر الحدود ليتفرّقوا حيث شاءوا.
    فدفع الوزير من ذلك إلى خطّة صعبة وحال مخاطرة عظيمة. لأنّ القوم كانوا ذوي عدد وعدّة ألا أنّه تلطّف وأحسن التدبير حتى أخرجهم زمرة بعد زمرة.
    ثم حمل معزّ الدولة الأتراك على التسحّب على الديلم وتعييرهم بشقّ العصا وخلع الطاعة وتقريعهم بهذا ونحوه وأنّ عدد الأتراك مع قلته وفوا بهم حتى قهروهم وأذلّوهم.
    ثم رسم للأتراك رسوما صار سببا لضراوتهم وطلب الأموال والتغلّب على الأعمال والتسحّب على العمّال وذاك أنّه أمر بتسبيب ما يستحقّونه على واسط والبصرة والأهواز وأخرجهم طبقة بعد طبقة على النوبة لاستيفاء أموالهم ولمن وراءهم من رفقائهم المقيمين وأن يقام لهم نزل يأخذونه راتبا في كل يوم إلى أن يستوفى ماله ومبلغه عشرة دراهم لكل غلام في كل يوم وعشرون درهما لمن كان نقيبا وأراد أن ينفعهم عاجلا لا مؤبدا.
    وانفتح عليه من ذلك باب من الفساد كان أضرّ عليه من زيادة أوزارها في أصول استحقاقاتهم وذلك أنّهم آثروا أن تتأخر أموالهم المسببة لتكثر أيّام مقامهم وصيروا أصول أموالهم بضائع يتّجرون فيها وإذا راج لهم من مال تسبيباتهم لم ينسبوا شيئا منه إلى الأصل وقد بقي لهم درهم واحد ويستروح العمّال إلى إطلاق الشيء بعد الشيء لئلا يرهقوا بالمال جملة فربّما أقاموا سنتين وثلاثة.
    وحلت التجارات في صدورهم وإجازة ما يحصل لهم في الطريق بغير ضريبة ولا مؤونة ثم تجاوزه إلى الدخول في التلاجئ فملكوا البلاد واستطالوا على العمّال وحاموا على التجّار ومن اعتصم بهم فضعفت أيدى العمّال واستعبدوا الناس واستمرّ ذلك وازداد إلى اليوم.
    ودخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة

    وفيها وافى أبو محمد الفياضى كاتب سيف الدولة إلى الموصل في المحرم وتقرّر الأمر على أن عقدت الموصل وديار ربيعة والرحبة على سيف الدولة بألفي ألف درهم وتسعمائة ألف في السنة وذلك لأنّ معزّ الدولة لم يستجب إلى عقدها على ناصر الدولة وعلى أن يقدّم من ذلك ألف ألف درهم ويطلق الأسارى الذين أسروا بسنجار.
    فلمّا تقرر هذا انحدر معزّ الدولة وتأخر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين بالموصل والجيش بأسره معهما إلى أن يحمل مال التعجيل ثم وردا مع الجيش ومع أبي محمّد الفياضى كاتب سيف الدولة.
    ذكر انحدار معز الدولة والسبب فيه بعد تمكنه من ديار ربيعة ومضر

    كان السبب في إصعاده الإضاقة الشديدة التي لحقته بعد الأمور التي ذكرناها وتأخر أموال الحمول عنه فعلم ناصر الدولة بذلك فانهزم من بين يديه وقال لأصحابه:
    « اذهبوا حيث شئتم فإني لا أقف للحرب. » فاستأمن أصحابه إلى معزّ الدولة كما كتبنا فيما تقدّم فازدادت إضاقة معزّ الدولة ولم يمكنه ضبط النواحي ولا الحماية، وتقاعد الناس بأداء الخراج احتجاجا بأنّهم لا يصلون إلى غلّاتهم وطلبوا الحماية واضطرّ معزّ الدولة إلى الانحدار ولكنّه أنف وأقام على كره ومشقّة. فلما ورد عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها وأجابه بالشكر الجميل وشكا إليه أخاه وقلّة وفائه والغدر به مرّة بعد مرّة وقال له:
    « ان ضمنته أنت أجبت. » فضمنه وانحدر معزّ الدولة.
    وفي هذه السنة انقطعت الحمول من واسط إلى البصرة والأهواز
    ذكر السبب في ذلك

    السبب في ذلك ما كنّا ذكرناه من استيلاء الأتراك واستضامتهم العمّال ومضايقتهم إيّاهم حتى اضطرّوهم إلى بذل المرافق الكثيرة لهم فاقتنوا الأملاك وحاموا على قوم على سبيل التلاجى فتغلّبوا على حقوق بيت المال وصار العمّال يعولون على الغلمان الأتراك في أخذ حقوقهم على التنّاء فيتنجزّونها كما يتنجّزون تسبيباتهم. وتشبه بهم الديلم واصطلح الفريقان على هذا السبيل فكسروا على السلطان حقوقه.
    واجتمع العمال بذلك فكسروا أصول العقود وسألوا إزالة ما دهمهم فلم يمكن ذلك وصارا بمنزلة الداء الذي لا يرجى حسمه لأنّ الديلم كانوا مستوحشين ومتفرقين والأتراك متطاولين مدلّين. فلو قمعوا لصارت كلمتهم مع الديلم واحدة.
    فجرى الرسم بأن ينقل ما رفعه العمّال من فاضل ما عليهم إلى السنة التي بعدها وحصل الوزير وكلّ من دبّر فيه تدبيرا متعرضا لسفك دمه وذهاب نفسه إلّا أنّ هذا الفساد كان في أيّام معزّ الدولة كالطفل الناشئ لهيبته وبقيّة حشمته ثم ظهر الإفراط بعد على أولاده ولما أتى عليه الزمان بعد وفاته.
    حوادث عدة

    وفيها خلع السلطان على الأمير أبي منصور بختيار بن معزّ الدولة وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء ولقّبه عزّ الدولة.
    وفيها أنفذ لواء وعهد إلى أبي عليّ بن الياس وكان السفير في ذلك كله القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار الصيمري.
    وفيها مات أبو الحسن محمّد ابن أحمد المافرّوخى وكان يكتب لمعزّ الدولة وكتب له بعده أبو محمّد عليّ بن عبد العزيز المافرّوخى مدّة شهر. ثم استعفى وانصر تقلّد مكانه أبو بكر ابن أبي سعيد.
    وفيها كانت وقعة بين عليّ بن كامه ابن أخت ركن الدولة وبين بيستون ابن وشمكير فكانت على بيستون.
    وفيها غرق الحاج الواردون من الموصل وكانوا في بضعة عشر زورقا كبارا فيها من الرجال والنساء نحو ألف نسمة.
    وفيها غزا الروم المسلمين فأسروا وقتلوا وسبوا وانصرفوا وذلك في طرسوس والرها.
    ودخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة

    وفيها ورد الخبر بأنّ صاحب خراسان قتل رجلا من قواده يسمى بختكين من وجوه قواد الأتراك فاضطربت خراسان لأجله.
    وفيها ورد الخبر بأن ابنا لعيسى بن المكتفي بالله ظهر بناحية أرمينية وتلقب بالمستجير بالله يدعو إلى المرتضى من آل محمّد رسول الله وسلّم - ولبس الصوف وأمر بالمعروف.
    وكان هذا الرجل مضى إلى بلد الجيل فاستنصر بجماعة من الديلم المعروفيّة والمسوّدة والمنتسبين إلى مذهب السنة من مذاهب المسلمين فخرجوا معه وصاروا إلى آذربيجان فغلب على عدة بلدان منها ما كان في يد سلّار الديلمي.
    ثم ورد الكتاب في شهر رمضان من جهة ابن سلّار بأنّه أوقع بهذا الرجل المتلقب بالمستجير بالله، فأسره وقتله.
    ذكر السبب في خروجه وسرعة هلاكه

    كان السبب فيه أن جستان بن المرزبان ترك طريقة أبيه في سياسة الجيش وتوفّر على النساء واللعب ثم أدخلهنّ في التدبير.

  • صفحة 5 من 12 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. تجارب أمم المجلد الخامس
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 53
      آخر مشاركة: 06-15-2010, 09:58 AM
    2. تجارب أمم المجلد الرابع
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 99
      آخر مشاركة: 06-15-2010, 01:21 AM
    3. تجارب أمم المجلد الثالث
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 79
      آخر مشاركة: 06-14-2010, 09:44 PM
    4. تجارب أمم المجلد الثاني
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 87
      آخر مشاركة: 06-14-2010, 09:53 AM
    5. انطلاق السباق المحلي السادس بقطر
      بواسطة أحمد فرحات في المنتدى الملتقى الرياضي وكرة القدم Football & Sports Forum
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 05-11-2010, 12:27 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1