قال فيها:
« أنت ذاكر ما جرى عليك من تكين الشيرزادى فإنّه أخرجك من نعمتك وكاد يأتى على مهجتك فلجأت إليّ بعد عداوة سبقت منك لي ومنازعة نازعتنيها عن بلاد لم يكن في يدك منها شيء فاطرحت الأحقاد واغتفرت الذنوب وآثرتك على تكين وهو إذ ذاك يبذل لي الخدمة والطاعة وحمل المال وإقامة الخطبة ولا يلتمس منى الأتراك الدخول بينك وبينه والانصراف عن النصرة لك عليه فآثرتك.
« وأنفذت كاتبي وعسكري بأموال أنفقتها ومؤن تكلّفتها حتى أخذت بناصيته وسلّمته إليك فشفيت صدرك منه وعدت إلى وطنك.
« ثم حصلت في يد وزيرى الصيمري حصول المستجير الذليل فوفى لك ولو شاء لأسرك واشتمل على بلادك وقلاعك.
« وظننت أنّك تعرف لي حقّ هذه النعمة وتطالب نفسك عليها بالمجازاة فأبيت إلّا غدرا بي وتقبيحا في معاملتى.
« وليتك - لما لم تعمل عمل الأصدقاء الأوفياء - عملت عمل الأعداء الحزماء، فكاتبتنى تعرض نفسك عليّ في النائبة العظيمة التي نابتنى في أوثق الناس عندي وتبذل لي معاونتك فكنت تنفذ عسكرك إلى تكريت على أنّه مدد لي فإن لاح لك استظهار مني تحمّدت عليّ وتودّدت إليّ وإن لاح لك استظهار عليّ أظهرت ما في نفسك حيث تكون فيه أعذر وأقل ملامة. » ثم أتبع هذا القول بالتوعّد والتهدّد بالمسير إلى أعماله واستيصاله.
الجواب عن هذه الرسالة

« إنّك قد صدقت في جميع ما عددت وإني معترف به، وو الله ما كان عن رأيي ولا أمرت به ولكني شيخ لي أولاد أحداث يخالفوننى في تدبيرهم فيركبون الهوى في أمورهم ولا رأي لمن لا يطاع. » وتمّت الموافقة بينه وبينه على تعجيل ألفي ألف درهم فعجلها له والتزم مثلها في كل سنة فأظهر معزّ الدولة الرضا ضرورة لأنّه كان غير واثق برجاله ولأنّ أعماله اختلّت بتلك الفتنة فعاد إلى داره.
ثم أخّر ناصر الدولة المال الثاني لأنّ الأوّل كان في سنة ستّ فخرج معزّ الدولة إليه وسار ناصر الدولة إلى نصيبين ودخل معزّ الدولة الموصل وسار إلى نصيبين وخلف سبكتكين بالموصل.
وأنفذ سريّة إلى سنجار لأنّه بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة بها وبلغهما خبر السريّة فانصرفا وقد كان أعجلهما الأمر فتركا خيمهما وجميع معسكرهما بحاله ولم يمكنهما حمل شيء. فأسرع الديلم الذين كانوا في السريّة إلى الغارة والنهب.
ذكر عجلة وإضاعة حزم

إنّ الديلم نزلوا في خيم أبي المرجّى وأخيه فعادا وكبسا العسكر واستأسرا جماعة وقتلا جماعة وكان ممّن قتل ابن ملك الديلم المعروف بسياه چشم قتله هبة الله ووقع في الأسر شيرزاد وشيرمردى وعدد كثير.
ذكر السبب في هذه النكبة وضعف معز الدولة بعد الاستعلاء

كان من عادة ناصر الدولة إذا تنحى من بين يدي معزّ الدولة ألّا يترك في البلد لا كاتبا ولا دليلا ولا أحدا ممّن يعرف نفع السلطان وضرّه ويحشرهم إلى قلاعه مع حسباناته ودواوينه. ثم يأمر الصعاليك والعرب أن يتطرّفوا البلد ويمنعوا العلّافة ومن يخرج لطلب العلف والطعام إلّا أن يكون معهم عسكر قويّ فإذا رأوا عسكرا قويا لم يظهروا ولم يتعرضوا وكان غرضه في ذلك أن يضيق المير والعلوفات فينصرف عنه معزّ الدولة. ففعل ذلك في هذا الوقت.
وبلغ معزّ الدولة كثرة الغلات بنصيبين وكانت للسلطان فقصدها وخلّف حاجبه سبكتكين بالموصل. فلمّا صار ببرقعيد بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فعمل على كبسهما وندب لذلك جماعة من القواد الكبار وجعل الرئيس عليهم تكين الجامدار - وكان غلاما أمرد وضيء الوجه منهمكا في الشرب لا يعرف الصحو ولا تقدّمت له حنكة - فأشار الوزير المهلبي ألّا يخرجه في مثل هذا الوجه وأن يعدل إلى أحد مشايخ القواد فلم يقبل منه وأنفذه في خمسمائة رجل فأشرفوا على أبي المرجّى وهبة الله فأرهقوهما عن تقويض الخيم واستصحاب شيء من رجالهما وأفلتا على ظهور دوابّهما وتركوا جميع مالهم فانتهبه العسكر.
ثم تعجّل أصحاب معزّ الدولة إلى الخيم وتركوا الحزم فنزلوها واستقرّوا فعطف عليهم أولئك وصارت الكبسة لهم فقتلوا وأسروا وغنموا ما شاءوا.
وبقي معزّ الدولة في عدد يسير ببرقعيد في طريقه إلى نصيبين فكتب إلى بغداد يستدعى العساكر فتعجّلوا وتلاحقوا إليه فلمّا قويت عدّته سار من برقعيد إلى نصيبين وسار ناصر الدولة من نصيبين إلى ميّافارقين وفضّ جيشه عنه بأسره وصرفهم، فصار جميعهم إلى معزّ الدولة في الأمان واستأمن أبو زهير أخو ناصر الدولة إلى معزّ الدولة ورحل ناصر الدولة من ميّافارقين إلى حلب مستجيرا بأخيه سيف الدولة فتلقّاه أخوه بأجمل تلقّ وقبله أحسن قبول وخدمه بنفسه حتى تولّى نزع خفّه بيده.
وكان حامد بن النمس توجّه من قبل معزّ الدولة إلى الرحبة فهزم من كان بها من جيش ناصر الدولة.
وكان طريف الخادم وهزار مرد وهما غلاما ناصر الدولة يتطرّفان الموصل في الجانب الشرقي منها كل يوم ويلتقطان عمّال معزّ الدولة ويأخذان العلّافة من عسكر الحاجب ويمنعان من ورود شيء إلى الموصل حتى صارت محاصرة وأخذا من الثرثار من عمّال معزّ الدولة رجلا يعرف بعليّ بن الصقر وحملاه إلى القلعة ثم كبسا الحديثة وكان فيها محرز حاجب الوزير أبي محمد المهلّبي وأبو العلاء ابن شاذان يتقلّد عمالتها فقبضا عليهما ثم أطلقا محرزا وحملا أبا العلاء إلى القلعة.
وكان معزّ الدولة راسل كافور الخادم بمصر يأمره بحمل مال إلى الحضرة فحبس كافور الرسول حبسا جميلا وطاوله وبثّ جواسيسه لتعرّف الأخبار.
فلمّا عرف انصراف معزّ الدولة عن ذلك الوجه إلى بغداد ردّ الرسول خائبا.
وورد عمرو النقيب من قبل ناصر الدولة إلى نصيبين وسفر في الصلح وطال الخطب بينه وبين معزّ الدولة فلم يتمّ الصلح. فلمّا رأى عمرو الصورة استأمن إلى معزّ الدولة وأقام بحضرته ولم يعد إلى ناصر الدولة.
ثم ترددت رسائل بين معزّ الدولة وبين سيف الدولة وتوسّط بين أخيه وبينه حتى تقرر ما بينهما ورجع معزّ الدولة من نصيبين قاصدا الموصل.
ذكر اتفاق صعب غير محتسب

لمّا صار معزّ الدولة بين المونسية وآذرمه في اليوم الخامس عشر من شباط هبّت ريح باردة مغربية ووقع دمق فتلف في ساعات يسيرة من النهار عدد عظيم من عسكره ولحق معزّ الدولة غشية وكاد يتلف من كثرة ما عليه من الوبر والخزّ.
فقلع أهل العسكر سقوف آذرمه وأبوابها وأوقدوها فأطلق معزّ الدولة لأهلها ثلاثة آلاف درهم ليبتاعوا بها مكان ما أخذ من أنقاضها.
ذكر تدبير سيّئ ورأى ظاهر الفساد رآه معزّ الدولة بعد فراغه من روزبهان أدّى إلى تخريب المملكة وسوء عاقبة الأولاد والرعية

دبّر معزّ الدولة عند فراغه من حرب روزبهان أن يطرد الديلم الروزبهانيّة ويمسك من لم يفارقه منهم وإن كانوا متهمين عنده وكان وعدهم للعشرة ثلاثة في أصول أموالهم وظنّ أنّه إن وفى للكلّ لم يتّسع له مع أنّ الفتح للأتراك وكان مائلا إليهم بالهوى قبل الاستحقاق فكيف بعد هذا الأثر العظيم! فابتدأ يجازى الأتراك بالإحسان فقوّد منهم جماعة واستحجب جماعة ونقّب جماعة ورفع كل طبقة إلى ما هو أعلى منها ونفى الديلم الروزبهانيّة ليتوفّر عليهم مالهم ويصير ذلك بإزاء ما يلزمه لأصحابه الديلم من الزيادات.
فأخرجهم إلى الأهواز وكتب إلى وزيره المهلّبي بجمعهم من جميع النواحي والأعمال والتوكيل بهم والمسير معهم إلى آخر الحدود ليتفرّقوا حيث شاءوا.
فدفع الوزير من ذلك إلى خطّة صعبة وحال مخاطرة عظيمة. لأنّ القوم كانوا ذوي عدد وعدّة ألا أنّه تلطّف وأحسن التدبير حتى أخرجهم زمرة بعد زمرة.
ثم حمل معزّ الدولة الأتراك على التسحّب على الديلم وتعييرهم بشقّ العصا وخلع الطاعة وتقريعهم بهذا ونحوه وأنّ عدد الأتراك مع قلته وفوا بهم حتى قهروهم وأذلّوهم.
ثم رسم للأتراك رسوما صار سببا لضراوتهم وطلب الأموال والتغلّب على الأعمال والتسحّب على العمّال وذاك أنّه أمر بتسبيب ما يستحقّونه على واسط والبصرة والأهواز وأخرجهم طبقة بعد طبقة على النوبة لاستيفاء أموالهم ولمن وراءهم من رفقائهم المقيمين وأن يقام لهم نزل يأخذونه راتبا في كل يوم إلى أن يستوفى ماله ومبلغه عشرة دراهم لكل غلام في كل يوم وعشرون درهما لمن كان نقيبا وأراد أن ينفعهم عاجلا لا مؤبدا.
وانفتح عليه من ذلك باب من الفساد كان أضرّ عليه من زيادة أوزارها في أصول استحقاقاتهم وذلك أنّهم آثروا أن تتأخر أموالهم المسببة لتكثر أيّام مقامهم وصيروا أصول أموالهم بضائع يتّجرون فيها وإذا راج لهم من مال تسبيباتهم لم ينسبوا شيئا منه إلى الأصل وقد بقي لهم درهم واحد ويستروح العمّال إلى إطلاق الشيء بعد الشيء لئلا يرهقوا بالمال جملة فربّما أقاموا سنتين وثلاثة.
وحلت التجارات في صدورهم وإجازة ما يحصل لهم في الطريق بغير ضريبة ولا مؤونة ثم تجاوزه إلى الدخول في التلاجئ فملكوا البلاد واستطالوا على العمّال وحاموا على التجّار ومن اعتصم بهم فضعفت أيدى العمّال واستعبدوا الناس واستمرّ ذلك وازداد إلى اليوم.
ودخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة

وفيها وافى أبو محمد الفياضى كاتب سيف الدولة إلى الموصل في المحرم وتقرّر الأمر على أن عقدت الموصل وديار ربيعة والرحبة على سيف الدولة بألفي ألف درهم وتسعمائة ألف في السنة وذلك لأنّ معزّ الدولة لم يستجب إلى عقدها على ناصر الدولة وعلى أن يقدّم من ذلك ألف ألف درهم ويطلق الأسارى الذين أسروا بسنجار.
فلمّا تقرر هذا انحدر معزّ الدولة وتأخر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين بالموصل والجيش بأسره معهما إلى أن يحمل مال التعجيل ثم وردا مع الجيش ومع أبي محمّد الفياضى كاتب سيف الدولة.
ذكر انحدار معز الدولة والسبب فيه بعد تمكنه من ديار ربيعة ومضر

كان السبب في إصعاده الإضاقة الشديدة التي لحقته بعد الأمور التي ذكرناها وتأخر أموال الحمول عنه فعلم ناصر الدولة بذلك فانهزم من بين يديه وقال لأصحابه:
« اذهبوا حيث شئتم فإني لا أقف للحرب. » فاستأمن أصحابه إلى معزّ الدولة كما كتبنا فيما تقدّم فازدادت إضاقة معزّ الدولة ولم يمكنه ضبط النواحي ولا الحماية، وتقاعد الناس بأداء الخراج احتجاجا بأنّهم لا يصلون إلى غلّاتهم وطلبوا الحماية واضطرّ معزّ الدولة إلى الانحدار ولكنّه أنف وأقام على كره ومشقّة. فلما ورد عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها وأجابه بالشكر الجميل وشكا إليه أخاه وقلّة وفائه والغدر به مرّة بعد مرّة وقال له:
« ان ضمنته أنت أجبت. » فضمنه وانحدر معزّ الدولة.
وفي هذه السنة انقطعت الحمول من واسط إلى البصرة والأهواز
ذكر السبب في ذلك

السبب في ذلك ما كنّا ذكرناه من استيلاء الأتراك واستضامتهم العمّال ومضايقتهم إيّاهم حتى اضطرّوهم إلى بذل المرافق الكثيرة لهم فاقتنوا الأملاك وحاموا على قوم على سبيل التلاجى فتغلّبوا على حقوق بيت المال وصار العمّال يعولون على الغلمان الأتراك في أخذ حقوقهم على التنّاء فيتنجزّونها كما يتنجّزون تسبيباتهم. وتشبه بهم الديلم واصطلح الفريقان على هذا السبيل فكسروا على السلطان حقوقه.
واجتمع العمال بذلك فكسروا أصول العقود وسألوا إزالة ما دهمهم فلم يمكن ذلك وصارا بمنزلة الداء الذي لا يرجى حسمه لأنّ الديلم كانوا مستوحشين ومتفرقين والأتراك متطاولين مدلّين. فلو قمعوا لصارت كلمتهم مع الديلم واحدة.
فجرى الرسم بأن ينقل ما رفعه العمّال من فاضل ما عليهم إلى السنة التي بعدها وحصل الوزير وكلّ من دبّر فيه تدبيرا متعرضا لسفك دمه وذهاب نفسه إلّا أنّ هذا الفساد كان في أيّام معزّ الدولة كالطفل الناشئ لهيبته وبقيّة حشمته ثم ظهر الإفراط بعد على أولاده ولما أتى عليه الزمان بعد وفاته.
حوادث عدة

وفيها خلع السلطان على الأمير أبي منصور بختيار بن معزّ الدولة وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء ولقّبه عزّ الدولة.
وفيها أنفذ لواء وعهد إلى أبي عليّ بن الياس وكان السفير في ذلك كله القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار الصيمري.
وفيها مات أبو الحسن محمّد ابن أحمد المافرّوخى وكان يكتب لمعزّ الدولة وكتب له بعده أبو محمّد عليّ بن عبد العزيز المافرّوخى مدّة شهر. ثم استعفى وانصر تقلّد مكانه أبو بكر ابن أبي سعيد.
وفيها كانت وقعة بين عليّ بن كامه ابن أخت ركن الدولة وبين بيستون ابن وشمكير فكانت على بيستون.
وفيها غرق الحاج الواردون من الموصل وكانوا في بضعة عشر زورقا كبارا فيها من الرجال والنساء نحو ألف نسمة.
وفيها غزا الروم المسلمين فأسروا وقتلوا وسبوا وانصرفوا وذلك في طرسوس والرها.
ودخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة

وفيها ورد الخبر بأنّ صاحب خراسان قتل رجلا من قواده يسمى بختكين من وجوه قواد الأتراك فاضطربت خراسان لأجله.
وفيها ورد الخبر بأن ابنا لعيسى بن المكتفي بالله ظهر بناحية أرمينية وتلقب بالمستجير بالله يدعو إلى المرتضى من آل محمّد رسول الله وسلّم - ولبس الصوف وأمر بالمعروف.
وكان هذا الرجل مضى إلى بلد الجيل فاستنصر بجماعة من الديلم المعروفيّة والمسوّدة والمنتسبين إلى مذهب السنة من مذاهب المسلمين فخرجوا معه وصاروا إلى آذربيجان فغلب على عدة بلدان منها ما كان في يد سلّار الديلمي.
ثم ورد الكتاب في شهر رمضان من جهة ابن سلّار بأنّه أوقع بهذا الرجل المتلقب بالمستجير بالله، فأسره وقتله.
ذكر السبب في خروجه وسرعة هلاكه

كان السبب فيه أن جستان بن المرزبان ترك طريقة أبيه في سياسة الجيش وتوفّر على النساء واللعب ثم أدخلهنّ في التدبير.