ورد الخبر على ركن الدولة بالريّ بخروج قوم من خراسان يحزرون عشرين ألفا ويظهرون أنّهم غزاة واستراب بهم صاحب الحدّ وهو إسفوزن بن إبراهيم وذلك أنّهم عاثوا لما دخلوا الحدّ وخاطبهم وراسل رؤساءهم فلم يجد عندهم نكيرا ولم ير سيرتهم سيرة الغزاة ولم يكن لهم رئيس واحد بل كان لأهل كلّ بلد من بلادهم رئيس منهم.
فلمّا ورد كتاب إسفوزن بصورتهم أشار الأستاذ الرئيس حقّا على ركن الدولة ألّا يأذن لهم في دخولهم مجتمعين وأن يراسلهم في أن تصير منهم عدة نحو ألفى رجل إلى الريّ فإذا خرجت هذه العدّة منها ورد مثلها حتى يتتابعوا على ذلك فلا تكون منهم معرّة ولا يحدّثوا أنفسهم بسوء أدب. فامتنع ركن الدولة من قبول رأيه [ وقال ]:
« ولا يتحدّث الملوك أنّى احترزت من لفيف خراسان وخشيت نايرتهم. » فقال له وزيره أعنى الأستاذ الرئيس حقّا:
« فإن لم تفعل هذا فكاتب عساكرك فإنّهم متفرّقون عنك بالجبل وإصبهان وغيرها حتى تتوافى إليك، فإنّ معك بالريّ عدّة يسيرة وأنت غير مستظهر بالرجال ولا آمن أن يكون لهؤلاء القوم مواطأة مع صاحب خراسان وعددهم كثير وهم مستعدّون بعلة الغزو ونحن على غير أهبة ولا استعداد.
« فأبى عليه في هذا الرأي ولم يحفل بالقوم وكاتب صاحب الحدّ بأن يأذن لهم ويفرج عن وجوههم ولا يصيّر للشر مبدأ. » فسار القوم بأجمعهم ومعهم فيل عظيم من بين الفيلة حتى نزلوا بالريّ واجتمع رؤساؤهم إلى مجلس الأستاذ الرئيس يخاطبونه في مسئلة الأمير ركن الدولة أن يطلق لهم مالا يستعينون به على أمرهم. فوعدهم بذلك وظنّ أنّ القليل يسعهم على رسم الغزاة فإذا هم يطمعون في شيء كثير وقالوا:
« نحتاج إلى مال خراج هذه البلدان كلّها التي في أيديكم فإنّكم إنّما جبيتموها لبيت مال المسلمين لنائبة إن نابتهم ولا نائبة أعظم من طمع الروم والأرمن فينا واستيلائهم على ثغورنا وضعف المسلمين عن مقاومتهم. »
وسألوا مع ذلك أن يخرج معهم جيش ينضمّون إليهم وأخذوا في هذا النحو من الكلام وتبسّطوا في الاقتراح ورفع الأصوات وكان معهم فقهاء خراسان وشيوخها مثل المعروف بالقفّال وغيره.
فتبين الأستاذ الرئيس خبث سرائرهم وتيقّن ما كان ظنّه بهم من الشرّ وطلب الفتنة ولكنه كان يداريهم ويرفق بهم. فلمّا لم يجدوا سبيلا من طريق القول إليه والشغب به عدلوا إلى مشافهة الديلم فكانوا يكفّرونهم ويلعنونهم، وكان ذلك في شهر رمضان وكانوا يخرجون ليلا ومعهم آلاتهم من السيوف والحراب والقسيّ والسهام ويزعمون أنّهم يأمرون بالمعروف فيسلبون العامّة مناديلهم وعمائمهم وإذا تمكنوا من تفتيشه وأخذ جميع ما معه لم يقصّروا فيه والناس مع ذلك يدارونهم.
فاتفق أن وقعت بينهم وبين بعض أصحاب إبراهيم بن بابى خصومة لم يحتملها منهم فتأدى إلى القتال فقتل ذلك الرجل الديلمي واجتمع رفقاؤه للقتال فاجتمع من الغزاة نحو ألف رجل على باب إبراهيم بن بابى فخرج إليهم محاميا على أصحابه وقاومهم مدة إلى أن راسله ركن الدولة بالكفّ وراسلهم بمثل ذلك فأبوا. فتسرّع الديلم ومن كان قريبا لنصرة الديلم فاشتبكت الحرب وحجز بينهم الليل ورجع الخراسانية إلى معسكرهم يضربون بطبولهم الليل كلّه ويتواعدون القتال.
بروز الأستاذ الرئيس للقتال
فلمّا أصبحوا باكروا الحرب ودخلوا المدينة من ناحية اجران وفيها دار الأستاذ الرئيس [ وبرز للقائهم وبين يديه حاجبه روين وكان شهما شجاعا فحمل عليهم في غلمان دار الأستاذ الرئيس ] فحاربهم وكسرهم حتى رجعوا إلى الدرب الذي دخلوا منه ثم كثروا عليه ولم يولّ عنهم حتى طعنه بعضهم بحربة دخلت في كمّ درعه وأفضت إلى ساعده فخرقته وكثر الناس عليه وحامى عليه الأتراك الذين معه حتى ردّ إلى منزله وقد نزفه الدم وضعف وانكسر الأستاذ الرئيس ومضى كلّ من معه وثبت بنفسه على عادته.
فتعلّق به السلّار وكان حاضرا معه وقال له:
« أيّها الأستاذ ارجع إلى الأمير ولا تفجعه بنفسك فإنّه لم يبق حواليك أحد. » وأخذ بلجامه وردّه وسمعته يقول:
« عصّبها بي وأنت بريء من عارها. » فرجعا إلى دار الامارة واشتغل الخراسانية بنهب داره واصطبلاته وخزائنه وكانت موفورة جامّة إلى أن أتى الليل وانصرفوا وكان إليّ خزانة كتبه فسلمت من بين خزائنه ولم يتعرض لها.
أمسى الأستاذ ولا فرش لمنزله ولا آلة إلا دفاتره وكتبه
فلمّا انصرف إلى منزله ليلا لم يجد فيه ما يجلس عليه ولا كوزا واحدا يشرب فيه ماء. فأنفذ إليه ابن حمزة العلويّ فرشا وآلة. واشتغل قلبه بدفاتره ولم يكن شيء أعزّ عليه منها وكانت كثيرة فيها كلّ علم وكلّ نوع من أنواع الحكم والآداب يحمل على مائة وقر وزيادة. فلمّا رآني سألنى عنها فقلت:
« هي بحالها لم تمسّها يد. » فسرّى عنه وقال:
« أشهد أنّك ميمون النقيبة. امّا سائر الخزائن فيوجد منها عوض وهذه الخزانة هي التي لا عوض منها. » ورأيته قد أسفر وجهه وقال:
« باكر بها في غد إلى الموضع الفلاني. » ففعلت. وسلمت بأجمعها من بين جميع ماله.
واجتمع الخراسانية من غد ذلك اليوم وكانوا قد كسروا ركن الدولة في آخر نهار امسه وقويت نفوسهم وكانوا قصدوا باب روين الحاجب لينتهبوا داره وكان طريحا فيها غير مستقل فأمر غلمانه بطرح الحطب المعدّ للشتاء خلف الباب وإشعاله بالنار. ففعل ذلك فلم يصلوا إلى الدار من نحو الباب وراموا أن يتسوّروا سورها فرماهم الغلمان بالسهام فتراجعوا عنها. وعملوا على مباكرتها من الغد.
فلمّا أصبحوا راسلهم ركن الدولة وداراهم وعرض على أن ينقلعوا من مملكته فلم تكن فيهم حيلة وكان الأمر قد أبرم معهم بخراسان وكانوا ينتظرون مددا يلحقهم.
وأشار على ركن الدولة نصحاؤه بالمسير إلى إصبهان مع أولاده وحرمه وبترك هؤلاء والري حتى يجتمع إليه عساكره ويقصدهم بعديد وعتاد فأبى عليهم وخاطر بنفسه ودولته فإنّه كان في خمسمائة من قوّاده وخواصه ونحو ثلاثمائة من الغلمان وباقى عسكره كما ذكرنا متفرقون في ولاياتهم.
فلمّا كان من غد ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان تفرق الخراسانية على أبواب المدينة وهجموا من كل وجه فامتلأت منهم الشوارع والمحالّ ونادوا في البلد بما يسكن الناس والرعية وقصدوا دار الامارة وفيها الأمير وأولاده وخزائنه.
وكان الأستاذ الرئيس أمر بتحميل ما أمكن والمبادرة بالحرم وصغار الأولاد إلى طريق إصبهان لينتظروا ما يكون من أمر الحرب وهم على ظهور الدوابّ مستعدّين للتوجّه إلى حيث شاءوا.
فاغتصّ الميدان الذي في الدار بالبغال التي عليها صناديق الخزائن والعماريات فلم يكن للأمير ركن الدولة مخلص من بينها وكان قد ركب في غلمان داره والأستاذ الرئيس معه وجماعة من قوّاده وحاشيته فلم يجدوا طريقا إلى الخروج لتزاحم من ذكرت فوضع بينهم الدبابيس وكسرت عدة من الصناديق والبغال حتى أفرج للفرسان على ضغط شديد وزحمة منكرة فخلصوا إلى الطريق وكنت مع القوم.
وكان الخراسانية قد دنوا من الباب ومعهم السلاليم وعندهم أنّ ركن الدولة يتحصّن في داره. فخرج ركن الدولة من نحو الميدان وخرج حجّابه من الأبواب الاخر وصدموا القوم وصدقهم الديلم في المضايق حتى ردّوهم إلى الصحراء من الناحية المعروفة بالشجرة بعد أن أشرفنا على ذهاب النفس وزوال الدولة. فلمّا حصلوا في السعة صافّوا رجالهم للحرب.
ذكر مكيدة لركن الدولة في الوقت نفذت له
كان ديلم ركن الدولة ضعفت نفوسهم لما رأوا كثرة الرجال من أعدائهم وقلّة عددهم وأقبلوا يقولون:
« أتينا من ورائنا. » فأشفق ركن الدولة إشفاقا شديدا وقال لأصحابه:
« طيبوا نفسا فإنّ الذين وراءنا هم أصحابنا. » وبشّرهم بورود عليّ بن كامه وتقدم إلى الركابية والمجرين أن يبادروا إلى نحو طريق عليّ بن كامه الذي يقبل منه وأمرهم أن يركضوا هناك ويثيروا الغبرة ما استطاعوا ففعل القوم ذلك وارتفع الرهج وكبّر الناس وقالوا:
« هذا عليّ بن كامه. » ونشط الناس ركن الدولة وقال لهم:
« احملوا حملة قبل وروده. » فحمل الديلم بنشاط واستبشار بورود المدد فكانت إيّاها، وركب الخراسانية بعضهم بعضا، فدسّ ركن الدولة إلى بعض رؤساء الخراسانية بالانحياز إليه فآمنه وبذّل له، ففعل وتحطّم ذلك العسكر وقتلوا كل مقتلة وطلبوا الأمان فآمنهم على أن يخلّى لهم الطريق فأجابهم إلى ذلك. وكان قد حصل منهم عدد كثير بالبلد يذبحون كلّ من وجدوه على زيّ الديلم فإذا ذبحوه كبّروا كما يفعل في بلد الكفر بالكفار.
فبينما هم كذلك إذا انكفأ إليهم الديلم ظافرين فهمّوا بهم وقتلوا بعضهم حتى نادى فيهم ركن الدولة بالأمان وأمر الديلم بالكفّ فلمّا كان بالليل تحملوا وانصرفوا على سمت قزوين هائمين على وجوههم لا يلوى بعضهم على بعض.
ثم وردت بعدهم خيل أخرى نحو ألفى رجل بالعدة والسلاح ولم يلحقوا أصحابهم إلّا مفلولين هاربين فراسلهم ركن الدولة بأن يتوقّفوا ولا يرحلوا وأشفق أن يكون لهم بقزوين أو في بعض الممالك عيث واجتماع آخر فلم يفعلوا وتعجّلوا بالرحيل في أثر أصحابهم فأسرع في طلبهم وركض خلفهم حتى أدركهم فصافّوا الحرب فقتل منهم عددا كثيرا وردّ الباقين إلى الريّ بعد أن طلبوا الأمان. ثم أذن لهم في الخروج وأطلق أساراهم وأقر لهم بنفقات فخرجوا وقد ذهبت حشمتهم وزالت هيبتهم عن صدور الناس ولو أنّهم خرجوا بالماء الذي كان لهم لبلغوا من الروم كل مبلغ ولكثرت غزاة المسلمين معهم ولله أمر هو بالغه.
فسمعت الأستاذ الرئيس رحمه الله بعد ذلك يقول: لم أر قوما أشد من هؤلاء وما فرق جمعهم إلّا كثرة رؤسائهم وتحاسدهم وقد كانت لهم فرص لو انتهزوا بعضها لتمّ لهم أمرهم.
منها يومهم الذي دخلوا فيه الري فإنّهم اجتازوا بأجمعهم وفي مواكبهم على باب الأمير وهو غارّ وليس ببابه كبير أحد فلو هجموا عليه ما حال بينهم وبينه أحد.
ومنها ليلة دخلوا البلد لو أقاموا وقصدوا دار الامارة ما تحرّك في وجوههم أحد وكانت ليلة مقمرة وهي ليلة النصف وهي كنهار غدها إشراقا وإضاءة ولكن القوم عملوا على دخول البلد يوم عيد الفطر والناس مشغولون [ بالصلاة ] بمصلاهم غارّون وانتظروا أيضا المدد الذي وعدوا به وكانت الأخبار والرسل تأتيهم بقربهم منهم فعملوا على ذلك. وأبت المقادير إلّا صنع الله لركن الدولة وذلك بحسن نيته ودعاء رعيته له ونظر الله تعالى للناس.
وكان لإبراهيم السلّار في هذه الأيّام مواقف حسنة وآثار جميلة وأصابت بطنه حربة لم تصل إلى أحشائه لكثرة شحمه لأنّه كان سمينا بطينا ولكنها صارت فتقا فكان يشدّها بعصائب ورفائد إلى أن توفى بعد ذلك بسنتين.
وفي هذه السنة أخرج ركن الدولة الأستاذ الرئيس مع إبراهيم السلّار مددا له في نخب الرجال من الديلم والعرب وأصناف العسكر حتى فتح بلاد آذربيجان وأصلح الأستاذ الرئيس له قلوب أصحاب الأطراف وطوائف الأكراد وقاد جستان بن شرمزن إلى طاعته فلمّا فرغ من جميع ذلك ووطّأ له النواحي ومكّنه منها خرج عائدا إلى حضرة ركن الدولة.
ذكر تدبير جيد ورأي صواب رآه الأستاذ الرئيس ابن العميد ولم يقبل وعاقبة ذلك
لما صار الأستاذ الرئيس حقّا إلى آذربيجان رأى زكاء أرضها وكثرة ريعها وسعة مياهها واحتمالها للعمارة وحسب ما يرجى من ارتفاعها فوجده مالا عظيما مثل ارتفاع ممالك ركن الدولة أو قريبا منه ونظر إلى ما تحصّل لإبراهيم السلّار منه فوجده شيئا نزرا قليلا جدا وذلك لسوء تدبير إبراهيم وإهماله الأمور واشتغاله باللعب والنساء والسكر الدائم وطمع ضروب المعاملين فيه ولا سيما الأكراد الذين قد استأكلوا تلك النواحي. ثم قد عرف بالتزيد وقلة الوفاء فليس يوثق بيمينه ولا عهوده.
فعلم الأستاذ الرئيس أنّه إذا فارق الناحية عادت الصورة مع إبراهيم إلى ما كانت ولم يلبث أن يطمع فيه ويخرج من المدينة ثم من الناحية كلّها أو يقتل فيضيع سعى ركن الدولة وسعيه.
فكتب إلى ركن الدولة بصورة الناحية وصورة إبراهيم فيها وعرّفه مقدار ما يصل إليه منها وأشار عليه أن يدبّر الناحية لنفسه ليرفع له [ منها خمسون ألف ألف درهم ويعوض إبراهيم مما يحصل له وكان مقدار ما يرتفع له ] من هذه الجملة بعد ما يخرج في إقطاعات الديلم والأكراد وبعد ما يستولى عليه قوم متعززون لا يتمكن من استيفاء الحقوق عليهم وبعد ما يضيع بالأهمال وترك العمارة من ألفي ألف درهم فرأى أن يعوض إبراهيم من ارتفاع الري أو أصبهان أو همذان هذا المقدار ويجلس آمنا فارغ البال ويشتغل بما يؤثره من صحبة المغنّين والمساخر ويتسلّم الأستاذ الرئيس آذربيجان فيرفع منها لركن الدولة ما ذكرت مبلغه وكان يرجوا أكثر منه ولكنه استظهر عليه. فأبى عليه ركن الدولة وفكر في شيء يفكر فيه مثله من أصحاب الهمم الكبار وقال:
« يتحدّث الناس أنّى افتتحت البلاد لرجل لجأ إليّ ثم طمعت فيه! » وأمر الأستاذ الرئيس بالانصراف إليه مع عسكره وتسليم البلاد إلى إبراهيم.
كلام لابن العميد قاله لمسكويه صاحب هذا الكتاب
فأذكر يوما كنت جالسا فيه بين يدي الأستاذ الرئيس وهو يحدّثني بالشدّة التي قاساها هو وعسكره في سفرته وقلّة جدواها وثمرتها وأنّها لو أثمرت نعمة باقية عند إبراهيم لكان محتملا لها وراغبا فيما ينشر من الأحدوثة الجميلة عنه بعدها. ثم قال:
« ولكني سأضرب لك مثلا لما نحن فيه وتأمّله الآن لتتذكّره فيما بعد.
أما شهدت من يغزل الأبريسم ويفتله بالمغازل الكثيرة المعلّقة بالصنّارات على شبيه الصوالجة من الزجاج. »
قلت: « بلى. » قال: « أما تعلم أنّ الصانع إنّما يتعب حتى ينصب هذه الآلة وينظمها ثم يكفيه بعد ذلك أن يتتبع أذناب تلك المغازل ويتعاهدها بالفتل؟ فنحن قد أحكمنا الآلة والمغازل دائرة والإبريسم ممدود والفتل مستمرّ به، فإذا فارقنا الموضع ابتدأت القوة التي في الدوران تضعف وليس لها من يمدها بحركة فيبتدئ في الاسترخاء وتضعف سرعة دوران المغازل ثم تبتدئ في الانتكاث وتنقلب راجعة بعكس ما كانت تدور، ثم لا تجد أيضا من يتعاهدها فيتساقط أولا أولا حتى لا يبقى منها شيء. » فكأنّ هذا المثل كان وحيا فإنّه ما أخطأ شيئا من صورة إبراهيم بعد خروجنا وانتهى أمره بعد ذلك النظم الذي نظم له إلى أن طمع في ملكه حتى انسلخ منه شيئا بعد شيء إلى أن أسر وحبس في بعض تلك القلاع كما سنحكيه فيما بعد إن شاء الله.
ودخلت سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة
وفيها قصد معزّ الدولة عمران بن شاهين صاحب البطائح
وكان قد صمّم على مناجزته وأبي أن يقبل منه صلحا ومالا أو يرضى منه إلّا بحضور بساطه.
فاتّفق أن اعتل من ذرب لحقه وأحسّ بالضعف، فعاد إلى واسط وخلّف على عسكره سبكتكين الحاجب، وظنّ أنّه يتماثل فيعاود، واشتدت به العلة وكان لا يثبت في معدته طعام وأحسّ بالموت ورجع إلى بغداد.
عهد معز الدولة إلى ابنه
وعهد إلى ابنه بختيار عزّ الدولة وأظهر التوبة وأحضر وجوه المتكلمين والفقهاء وسألهم عن حقيقة التوبة وهل تصح له فأفتوه بصحّتها ولقّنوه ما يجب أن يقول ويفعل، وتصدّق بأكثر ماله وأعتق مماليكه وردّ شيئا كثيرا من المماليك وتوفّى في شهر ربيع الآخر سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة وكانت له أخبار وأحوال منها إنفاذه جيش الماء والديلم إلى عمان حتى فتحت له ولم يكن فيها ما يستفاد منه تجربة فطويناها.
وكان اتفق عند موته اتفاق حسن لعزّ الدولة فرأينا إثباته ليكون معدودا في جملة أمثالها من الاتفاقات العجيبة.
ذكر اتفاق حسن
لما مات معزّ الدولة ألحّ المطر ببغداد ثلاثة أيّام بلياليها إلحاحا شديدا منع الناس من الحركة ولم يتمكن الديلم من اطلاع رؤوسهم ومنع سائر الناس من البروز وتردّد النقباء إلى رؤسائهم فأرضى كل أحد بما سكن إليه وانجلت السماء عن سكون الجند ورضا الكافّة. فكاتب عزّ الدولة سبكتكين وسائر العسكر بمصالحة عمران بن شاهين والانصراف عنه إلى بغداد ففعل ونفّس خناق عمران. وصولح صاحب الموصل واستقرّت الأمور بيده.
وفيها وردت الأخبار بإقبال جيش قويّ من خراسان مع ابن سمجور ليجتمع مع وشمكير.
ذكر السبب في ذلك
لما اعتلّ أبو عليّ [ محمّد ] بن الياس وفلج بكرمان وخالفه أولاده وقصده عضد الدولة رحل إلى خراسان ولقي صاحب خراسان وبرئ بعض البرء وصار نديما له يعاشره ويؤانسه. فسوّل له قصد ممالك الديلم وأطمعه فيها وزعم أنّ أصحاب جيوشه ليس يناصحونه ويقبلون الهدايا والرّشى.
فوافق ذلك ما كان يشكوه إليه وشمكير حالا بعد حال فاتصلت المكاتبة بين وشمكير وصاحب خراسان وكذلك الحسن بن الفيرزان إلى أن وقعت المعاضدة والموافقة على أن يدبّر جميع الجيوش وشمكير.
وأنفذ صاحب خراسان إلى وشمكير وإلى الحسن بن الفيرزان هدايا كثيرة من دوابّ وغلمان وآلات وسرّب إليهما أمداد الجيوش مع صاحب جيشه محمّد بن إبراهيم بن سمجور وعلى أن يكون الرئيس على الجميع وشمكير.
فورد من ذلك على ركن الدولة ما لم يكن في الحساب وعلم أنّ الأمر قد بلغ الغاية وليس إلّا الفيصل. فكاتب عضد الدولة يستمدّه الرجال والمعونة وكاتب عزّ الدولة بمثل ذلك.
فأمّا عضد الدولة فأمدّه بخيل عليها أبو جعفر ابن رزمان وشخص بنفسه إلى إصطخر ليسير إلى خراسان وسيّر أحد حجّابه في جيش المقدّمة إلى طريثيث وأظهر في عسكره أنّ جيش خراسان قد ساروا بأجمعهم مع لفيف البلدان وغزاتهم إلى الريّ وخراسان خالية وليس دون ملكها شيء، واتصل ذلك بالقوم فأحجموا قليلا. واتفق سقوط وشمكير بضربة الخنزير وموته فانتقض ذلك الأمر كله.
سقوط وشمكير بضربة الخنزير وموته ذكر هذا الاتفاق العجيب
اتّفق أن استعرض وشمكير خيله وما قيد إليه من جهة صاحب خراسان فكان في جملتها فرس أدهم حسن الصورة فأعجبه وأمر بإسراجه وعزم على ركوبه والتصيّد في ذلك اليوم.
فدخل إليه منجّمه فنهاه عن الركوب فخالفه. فلمّا أصحر عارضه خنزير قد أفلت من أصحابه وقد رمى بحربة فثبتت فيه فحمل الخنزير على وشمكير وهو كالغافل فضربه وفرسه، فشبّ الفرس وسقط وشمكير على دماغه فخرج من أنفه وأذنيه دم وحمل ميّتا وذلك يوم السبت في أوّل يوم المحرّم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.
وقد كان بختيار عزّ الدولة اجتهد في إخراج سبكتكين مع جيش كثيف على الرسم فامتنع سبكتكين عليه فأوحشه بذلك واضطرب بختيار لأنّه لم يجد من يطيعه في الخروج إلى أن انتدب ألفتكين وقد كان يتلو سبكتكين في المرتبة وأحبّ أن يظهر في تلك الحالة فضلا وحسن طاعة للمنافسة التي كانت بينه وبين سبكتكين، فضم إليه جيشا وورد الريّ وقد استغنى عنه فعاد.
ذكر سوء تدبير بختيار لمملكته ولنفسه حتى فسد جنده وطمعوا فيه ثم طمع أعداؤه أيضا فيه وأفضى أمره إلى الهلاك
كان أبوه معزّ الدولة حين أيقن بالتلف وصّاه بطاعة ركن الدولة واستشارته في كلّ ما يعرض له من مهمّ، وكذلك بطاعته لابن عمّه عضد الدولة لأنّه أسنّ منه وأقوم بالسياسة. ووصّاه بإقرار كاتبيه أبي الفضل العباس بن الحسين وأبي الفرج محمّد بن العباس فإنّهما أكفى من غيرهما وأعرف بوجوه الخدمة.
ووصّاه بمداراة الديلم وإزاحة عللهم عند أوقات استحقاقاتهم لئلّا يخرقوا هيبته بالشغب وطلب الفتن. ووصّاه بالإحسان إلى الأتراك فإنّهم جمرة عسكره وإذا رابه من الديلم ريب أمكنه أن يقمعهم به. ووصّاه بعد الإحسان إلى الأتراك بكبار الحاشية وصغارهم وأن يجريهم على عادتهم ورسومهم.
فخالف هذه الوصايا كلّها واشتغل باللهو واللعب ومعاشرة المساخر والمغنّين والنساء، وأوحش كاتبيه وضرّب بينهما حتى استوحشا جميعا منه وطمع في إقطاعات كبار حاشيته وفي سبكتكين خاصّة وهو صاحب جيشه وكان معزّ الدولة وصّاه بألّا يقطع أمرا دونه وكان ذا أرب وسياسة وله رئاسة في العسكر قديمة متمكنة يهابه الجميع ويطيعونه، واحتجب عن عسكره بما ذكرته من الشغل باللعب والسكر الدائم.
وابتدأ بمناوأة عضد الدولة، وذلك أنّه منع صاحبه المقيم ببغداد من شرى الدوابّ وآلات خدمته التي كان يستدعيها وجرت عادته بالتمكن منها وترك استشارة عمّه ركن الدولة في كلّ ما عرض له.
عاقبة ذلك فكان من عاقبة ذلك أن سبكتكين صاحب جيشه لما أحسّ بطمعه فيه وفي نعمته انقبض عنه فصار لا يركب إليه ولا يثق، به واقتصر على التراسل على أيدى المتوسطين وكان لسبكتكين أصحاب أخبار في العسكر وفي دار بختيار خاصّة وله عيون وجواسيس من خاصّة حاشيته وبطانته فكان لا يخفى عليه شيء من حركاته فضلا عن تدابيره.
فأمّا كاتباه أبو الفضل العباس بن الحسين وأبو الفرج محمّد بن العبّاس فإنّهما لما عرفا قصده في إفساد نيّة بعضهما لبعض - فقد كان بينهما قبل ذلك منافسة في المرتبة وتحاسد في النعمة - أخذا جميعا أهبة التحرّز منه وأخذ هو في الحيلة عليهما حتى أزال بأحدهما نعمة الآخر. ثم قبض عليه بأصاغر الحاشية وأدانى الحشم ومكّن منهما الأوغاد والسفلة فاضطربت أحوال المملكة واضطرّ إلى الاستعانة بمن رفعه من السقّاط ومن لا يكمل للنظر في قرية ولا يصلح للتوسط بين نفسين فضلا عن العسكر المضطرب فاختلّت أصول أمره وفروعها.
وأما كبار الديلم ووجوههم فإنّه نفاهم عن مملكته طمعا في اقطاعاتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم فتبسّط أصاغرهم واستلانوا جانبه وتحالفوا عليه وطالبوه بزيادة في رسومهم واضطر إلى النزل على حكمهم ثم عجز عن إرضائهم.
وأمّا الأتراك فإنّهم نظروا إلى ما تمّ للديلم من التحكّم فعملوا مثل عملهم من الاشتطاط والتسحّب والمواجهة بالمخاطبة الغليظة واضطرّ إلى التدبير عليهم والراحة منهم.
وابتدأ بسبكتكين وكان متحرزا متيقّظا، فما تمّ له عليه شيء من تدبيراته فتحزّب الأتراك وصاروا يدا واحدة.
وتحركت الأحقاد والحفائظ التي كانت في نفوس الديلم على معزّ الدولة، فبرزوا إلى الصحراء مع الأسلحة والجنن وساموه أن يثبت من أسقطه معزّ الدولة وأن يعطيهم أرزاقهم ويعجّل لهم رزقة منسوبة إلى البيعة غير محسوبة.
فجمع بختيار الأتراك إلى داره مع أسلحتهم ليعتصم بهم وترك الديلم في الصحراء ثلاثة أيّام. فغاظهم ذلك وازدادوا تباعدا في الاشتطاط عليه وفي الاشتداد بالمطالبة إلى أن نزل على بعض حكمهم وأعطاهم ثلث رزقة غير محتسب به.
وخيّر أصحاب الإقطاعات بين الإقامة في أيديهم والتمسك بنواحيهم وبين تعريضهم منها وأثبت من الديلم الساقطين كلّ من كان صريحا في الديلم أو صريحا في الجبل دون من اختلط بهم ممن ليس منهم.
فلمّا تمّ لهم ودخلوا البلد اجتمع الأتراك أيضا على الشغب فخرجوا إلى الصحراء واستدعوا الأصاغر من غلمان الحجر في دار بختيار حتى برزوا معهم وتحالفوا وتعاهدوا أن تكون كلمتهم متفقة وأن ينصر كبيرهم صغيرهم وقويّهم ضعيفهم وقد كانت اجتمعت لهم أموال مسبّبه من تلك الزيادات المضافة إلى الأصول التي زادها معزّ الدولة، فطالبوا بتوفيتهم ذلك كلّه، وأن يسلك فيهم سبيل أبيه في الاستحجاب والتقويد والتنقيب والزيادة في المنازل والمراتب.
ثم اتفق الديلم والأتراك على ألّا يعارض كل فريق منهم صاحبه في طلب الحظّ لنفسه، وتعاهدوا على ذلك. فقادته الضرورة إلى أن ضمن لهم جميع ما التمسوه وإزاحة العلل فيه ولم يتسع لذلك ولا لبعضه. فاضطروا إلى مناظرة وزرائه على الاحتيال لهذا المال والنظر في جمعه من أين كان وكيف كان.
وكان أبو الفضل العباس أشدّ جسارة وإقداما من أبي الفرج، فضمن ذلك لهم واستعان بكاتب الفارسية شيرزاد بن سرخاب، وكان متمكنا من بختيار قريبا منه يسمع كلامه ويتدبّر برأيه، وضمن له مرفقا على ذلك ومالا يحمله إليه في كل سنة. فسعى له شيرزاد في الوزارة ووعد بها وقيل له:
« إذا ظهرت كفايتك فيما ضمنته من إرضاء الجند وغيره كانت الوزارة مقصورة عليك. » فأخذ في مصادرة الحاشية وألزمهم أموالا علم أنّهم يفون بها ولا يجحف بهم، وافتتح الخراج واجتهد حتى وفّى الديلم ما ضمن لهم وفرّق الأتراك في النواحي لتنجّز تسبيباتهم. فتمّ لهم أيضا ما التمسوه وذلك لجمام الأمر وأنّه كان مبدأ فوجد أموال الحاشية جامّة والنواحي في بقايا العمارة، فمشى أمره في هذه السنة.
واتّصل خبره بأبي الفرج محمّد بن العباس وهو يومئذ بعمان وكان خرج إليها في حياة معزّ الدولة وكانت له بها وقائع بين العمانيين حتى استوسقوا له. فلمّا عرف وفاة معزّ الدولة وطمع أبي الفضل في الوزارة وسعى شيرزاد له فيها، لم يلبث أن سلّم الناحية إلى رجل من أهل عمان يعرف بابن نبهان، وأظهر أنّ الأمر ورد عليه بالإفراج عن البلد وتسليمه إلى صاحب عضد الدولة، وأقبل مسرعا إلى العراق. فلمّا قرب منها استقبله أصحاب أخيه أبي محمّد علي بن العباس الخازن وكتّابه وكتبه يشيرون عليه بالمبادرة وترك التأخر عن الحضرة قبل أن يتمّ لأبي الفضل العبّاس بن الحسين تقلد الوزارة، فورد وصار الناس حزبين وطلب كل واحد منهما عثرات صاحبه وخطب الوزارة لنفسه. ثم تمكن أبو الفضل بمعاونة شيرزاد إلى أن تمّت له الوزارة.
ذكر رأي صواب لبنى حمدان رءاه ناصر الدولة فخولف
لما سمع أولاد ناصر الدولة باضطراب بختيار وسوء سياسته وشغله عن تدبير الملك باللعب والسكر الدائم وشغب جنده وانخراق هيبته همّوا بإخراج الأموال والانحدار إلى بغداد ومقارعة بختيار عن سرير الملك، فقال لهم أبوهم ناصر الدولة:
« لا تعجلوا فإنّ معزّ الدولة قد خلّف لابنه خميرة من المال يسيرة وسيفرّقها على جنده هؤلاء وسيجذب أيضا كتّابه وعمّاله من نواحيه ومن مصادرات أسبابه ما أمكنهم ولستم بمستظهرين عليه ولا متمكّنين من دولته إلّا بعد أن تفنى حيله وتخلو يده. فإذا كان ذلك الوقت فانحدروا إليه وكاثروه بالمال وأفسدوا عليه قلوب الرجال، فإنّكم تملكونه لا محالة. » وكان الرأي ما قال، فإنّ معزّ الدولة كان أتلف ماله على البناء الذي أحدثه وعلى الأتراك الذين اصطنعهم وكان مقدار ما خلّفه أربعمائة ألف دينار فأخرجها بختيار شيئا بعد شيء عند الضرورات وعند اجتداد المطالبات.
وكان كتّابه يستقرضون منه لهذه المهمات على أن يردّوا العوض عنه ثم لا يتمكنون من الوفاء حتى استغرقت النفقات والنوائب جميع ذلك بعد مديدة يسيرة.
واختلفت كلمة بنى حمدان فشغلوا عن مشورة أبيهم وكان مبدأ الشر بينهم أنّ أبا تغلب قبض على أبيه ناصر الدولة لما رءاه قد كبر ولم يبق فيه بقية غير سوء الخلق والتقتير على أولاده وعلى حاشيته. فلما قبض عليه أصعده إلى قلعته ووكّل به من يخدمه ويزيح علّته في حاجاته. فامتنع بعض إخوته وانتثر النظام الذي كان يجمعهم فشغلهم حفظ ما في أيديهم عن طلب ما ليس لهم.
واحتاج أبو تغلب إلى مداراة السلطان وتجديد عقد الضمان والتماس الخلع والعهد والعقد ليحتجّ بذلك على الجند ويستظهر به على إخوته المخالفين والموافقين، فأنفذ كاتبه أبا الحسن عليّ بن عمرو بن ميمون حتى أخذ له من السلطان ذلك، وبذل لبختيار ألف ألف ومائتي ألف درهم في كلّ سنة على الرسم وانصرف إلى صاحبه بقضاء حاجاته قرير العين بما تمّ على يده غير مفكر في شيء مما كان يهمّ به.
تلاحق مشايخ الملوك بالموت
وفي هذه السنة تلاحق مشايخ الملوك بالموت وتتابعوا وكان مدخل القران التاسع: فهلك معزّ الدولة أحمد بن بويه، وقبض أبو تغلب على أبيه ناصر الدولة، وهلك سيف الدولة، وهلك نقفور ملك الروم، وهلك كافور صاحب مصر، وهلك وشمكير بن زيار، وهلك الحسن بن الفيرزان، وهلك أبو عليّ محمّد بن الياس، وجماعة أمثالهم، وبقي ركن الدولة من بينهم وعمّر إلى أن استوفى أجله.
ودخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة
ذكر ما دبر كل واحد من الكاتبين في خطبة الوزارة وسعى كل واحد منهما على صاحبه
قد ذكرنا ما كان من أبي الفضل العباس بن الحسين من تمشيته للأمور في السنة التي مدّ يده فيها إلى الحاشية وما وجده في النواحي وما تأوّل به على العمّال حتى أرضى الجند. فاستطال على بختيار وانطلق لسانه وزعم أنّه قد أظهر الكفاية التي وعده بها وذكر أنّ دخل المملكة يعجز عن خرجها وأنّه إن قلّد الوزارة جبر هذا العجز وقام بالأمر كما قام به في تلك السنة وضمن لشيرزاد إذا تمّم له الوزارة مآلا.
وشخص إلى الكوفة لتقرير أمور المقطعين بسقى الفرات فاجتهد له شيرزاد في الوزارة حتى أنعم له وبلغ أبا الفرج ذلك فشمّر عن ساقه في فسخ نيّة بختيار وزعم أنّ الذي ذكره أبو الفضل من عجز الدخل عن الخرج لا حقيقة له وأنّ الأموال التي استخرجها ومشّى بها الأمور إنّما كانت من مصادرات الناس ومن بقايا في النواحي وأنّه لم يؤثّر أثرا ولا فتح فتحا ولا استحقّ من المراتب ما لا يستحقّ مثله.
واتصل ذلك بأبي الفضل فوافى من الكوفة ركضا وجرت بينهما مناظرات استقرّت على أن يعمل كل واحد منهما عملا لأصول الارتفاعات وما ينضاف إليها وعملا لأصول النفقات الراتبة وما ينضاف إليها من الحوادث لتعرف الصورة فيما اختلفا فيه ولازما الديوان مع كتابهما حتى ارتفعت هذه الأعمال.
فامّا أبو الفرج محمد بن العباس فإنّه أورد في عمله أصول العقود على عبرها وأبوابا ينكسر بعضها، ثم خفف النفقات الحادثة وحذف الاستظهار لها حتى لم يظهر العجز وقام الدخل بالخرج.
وأما أبو الفضل فإنّه وضع من الأصول ما نسبه إلى المنكسر وما ينظر به للضمناء واعتدّ بالزاجى دون التاوي واستظهر في تقدير النفقات الحادثة وزاد في مبلغه حتى أوجب في عمله عجزا في الدخل عن الخرج.
ثم حكى في عمله أنّه يقيم وجوها لهذا العجز وأنّه إن بقيت منه بقيّة نقلها في كل سنة إلى التي تليها على الرسم الجاري في ذلك.
وتقابلا على حسابهما وتناظرا على الخلاف بينهما ووقف الكلام بين المتوسطين - وفيهم شيرزاد - على إبطال الوزارة والتراضي بالاشتراك في الكتابة. ثم جدّ شيرزاد سرّا في أوقات خلواته ببختيار في السعى لأبي الفضل وبذل عنه لبختيار مالا على سبيل الهديّة وأعلمه أنّ فيه إقداما وبسالة يحتاج إليهما في الوقت وأنّه ذو مال ويسار يزيد على مال أبي الفرج إضعافا وأنّه ذو حيلة وتأويل وبطش، وأبو الفرج صاحب تقشّف وتوقّف وتعقّد وأن الأمر بمثله لا يمشى فلم يزل بهذا وأشباهه حتى أمضى بختيار العزيمة.
وقلد أبا الفضل الوزارة وخلع عليه القباء والسيف والمنطقة المحلّيين بالذهب وحمله على فرس بمركب ذهب وأقطعه إقطاعا بخمسين ألف دينار على رسم الوزراء وضم إليه عددا كثيرا من الديلم على رسوم الوزراء. فصار إليه أبو الفرج مسلّما وأظهر الامتناع من العمل وكره أبو الفضل ذلك لأنّه أحب أن يجرى على رسمه في تقلد الديوان ليشغله عن تتبعه والطعن عليه وأيضا ليراه بعين من يغدو ويروح إليه وينحطّ عن رتبة المساواة التي كان فيها إلى رتبة الأتباع. وكره أبو الفرج جميع ذلك فخوطب فيه وأعلم أنّه [ إن ] لم يصبر على هذه الحال والقناعة بها انقطعت العلائق بينه وبين صاحبه بختيار ونصب للديوان غيره ثم يكون مطّرحا بعرض النكبة وربما تأدى الأمر إلى أكثر من ذلك من تسلط أعدائه عليه وانبساط أيديهم فيه وفي أعزته فاستجاب إلى عمل الديوان واستونف بتقليده إيّاه وخلع عليه الدراعة على رسم الكتابة.
وكان مما وفّره أبو الفضل في وزارته إقطاعات استرجعها من قوم مثل أبي الفتح أخي عمران بن شاهين ومثل أبي عبد الله الأيسر المعروف بالجبّ ثم تجرد للأهواز ومحاسبة آزاذرويه وكتّابه.
واتفق في وزارته أن أظهر الحبشي بن معزّ الدولة عصيان أخيه وطمع في البصرة والتفرّد بها.
ذكر السبب في عصيان الحبشي وتمكن أبي الفضل منه وحصول أمواله وذخائره وأسبابه له
لما توفّى معزّ الدولة احتوى على الحبشي ابنه بالبصرة جماعة من حاشيته وجند البلد وأطمعوه في البصرة وأقاموا في نفسه أنّ المال الذي يرتفع من البصرة ينصرف معظمه إلى الجيش المقيمين بها وباقيه مصروف إلى نفقاته وليس يبقى بعد ذلك إلّا ما لا يستكثر أن يجعل حظّه من ميراث أبيه ويغضى عنه.
ثم أوهموه مع ذلك أنّ أخاه بختيارا لا يتمكن من الوصول إليه مع حصانتها لوهم بذلك فابتدأ يستبدّ بالأموال والأمور ويستولى على العمال ويتحيّفهم. وكان مغيظا على عامل البصرة الحسين بن الحسن المكنّى أبا طاهر فعمل على القبض عليه والتشفي منه وإزالة الحشمة فيه، ونمى الخبر إلى العامل فهرب إلى الحضرة.
وكتب الحبشي في أثره إلى بختيار يذمّه ويطعن عليه وينسبه إلى الخرق والجهل وأنّه لم يخفّف شيئا أنكره ولكن قصد التشنيع وذكر في الكتاب أنّه قد تقدّم بحفظ الأعمال والأموال إلى أن يعود فيجري على رسمه في التدبير لها.
ثم سأل في هذا الكتاب أن تسلّم إليه المدينة ويخلّى بينه وبين تدبيره وأن يواقف على ارتفاعه ويحتسب له بنفقاته التي تخصّه وبأموال الجند المقيمين بحضرته وإن بقيت بقية سبّب عليه ليزيح العلّة فيها. فأجابه بختيار بالتصديق لقوله ووعده أن يعمل بمحبته.
ثم زاد تبسّط الحبشي حتى كان يشرق الأمر ويظهر الخلاف. وكتب إليه بختيار بالتأنيس والاستمالة والمعاتبة اللطيفة وأعلمه أن وزيره العباس بن الحسين شاخص إلى الأهواز وأنه سيراسله منها ويبلغ محابّه في الأمور التي التمسها. وندب وزيره العباس للشخوص وأمره بالحيلة عليه حتى ينتزع البصرة من يده إمّا مكرا وخديعة وإمّا حربا ومكاشفة.
فاستخلف أبا العلاء صاعد بن ثابت النصراني بالحضرة وانحدر وأخذ معه أبا الفرج محمّد بن العباس صاحب الديوان وأبا سهل ديزويه العارض وجرّد معه عسكرا وأزاح علّته في السلاح والجنن والآلات سرا.
فلمّا وصل إلى واسط أقام بها شهرا ونظر في أمورها ومصالح أعمالها ومظالم أهلها وأظهر أنّه راحل إلى الأهواز، وكتب إلى ليلى بن موسى فياذه وكان بالأهواز يأمره بالاستعداد لقصد البصرة والمسير إلى بيّان وقدم حديدياته وسفنه على أنّ فيها أثقاله وكانت مملوّة بالسلاح وأمر أصحابه المنحدرين فيها بأن يتجاوزوا الأبلّة ولا يدخلوها ويقصدوا بيان ويظهروا أنّهم يحملون ما معهم إلى الأهواز على طريق حصن مهدى وحدر الطيارات والزبازب تفاريق.
وكتب إلى أحمد بن محمد المعروف بالطويل بأن يصير إلى بيّان وكان يتقلد حصن مهدى وأن يحفظ هذه الآلات وأطلعه على التدبير.
وكتب إلى الحبشي بن معز الدولة من واسط بأنّه يفعل كلّ ما يؤثره ويهواه ويتحمد عليه بأنّ مصيره عاجلا إلى الأهواز ليستدعى كاتبه إليها ويواقفه على ارتفاع البصرة ويسلّمها إليه. وأومأ في آخر الكتاب إلى التماس صلح منه على ذلك ويقول في جملة تعريضاته: « أنّه قد التزم عن الوزارة غرما ثقيلا » ويسأله معونة بما يحمله إليه. فسكن الحبشي إلى قوله ووعده وحمل إليه عاجلا مائتي ألف درهم ولم يشكّ أنّه قد اشترى بها منه البصرة. فلمّا وصلت إليه أنفذها إلى بختيار، ورحل كأنّه يريد الأهواز إلى الحويزة ونهر العباس. ثم عدل عنها إلى نهر البصرة وكان للحبشى رسل قد أنفذهم بأطيار ليكاتبوه بخبره فأرسلت الأطيار إليه بخبره فثار الحبشي وهاج ولم يملك نفسه وأظهر المنابذة والخلاف.
واستوحش من كان بالبصرة مقيما من الغلمان الأتراك في تسبيباتهم، فهربوا إلى بيّان فصادفوا بها عسكرا قويّا مع ليلى بن موسى فياذه وأحمد الطويل فانضمّوا إليهما وكانت قد حصلت الزبازب عندهم والملاحون والجنن والآلات والسلاح.
وأخرج الحبشي عسكره إلى الابلّة ورتّب غلمانه وأثبت من عشائر العرب قوما رتّبهم على أفواه الأنهار وقلّد حاجبا له تركيّا يقال له، بكتيجور رياسة عسكر الماء وجعل اسفهسلّار الديلم في عسكر الظهر صعلوك بن باطاهر أحد وجوه قوّاد البصريين.
فلمّا ورد الوزير أبو الفضل عسكر أبي جعفر وجّه إلى ليلى بن موسى فياذه وإلى أحمد الطويل ومن معهما يأمرهم أن يشحنوا تلك الزبازب والطيارات بالرجال والسلاح ويصعد إليه على تعبية من جانب دجلة الشرقي المعروف بالفرات ولا يعبروا في طريقهم إلى الأبلّة ولا يقاتلوا أصحاب الحبشي ولا يهيجوهم إلى أن يصلوا إليه فيضيف إليهم من معه من الخواصّ والغلمان وقد كانوا مستقلّين بنفوسهم ومن حصل عندهم من الأتراك الذين هربوا إليهم من البصرة وأقام ليلته ينتظرهم وتعذّرت الميرة عليه وانقطعت المادّة عن عسكره وتحيّر في أمره حتى لو تأخّر الفتح يوما لما أمكنه المقام ولاحتاج إلى الرحيل فتكون هزيمة عليه.
فلمّا كان الغد أصعد ليلى بن موسى والجماعة على أهبة وتعبية وعملوا على امتثال الأمر وترك التعرض لمن في طريقهم من أصحاب الحبشي. فلمّا جازوا الأبلّة خرج أولئك نحوهم وبدءوهم بالحرب فعدل حينئذ ليلى بن موسى ومن معهم إليهم وواقعوهم وغرّقوا عدة من زبازبهم واستأمنت عدة أخرى وهرب بكتيجور صاحب الحبشي ناجيا بحشاشته واشتملوا على بقية عسكر الماء.
ثم طمعوا في الظهر فتقدموا إلى الديلم هناك وقاتلوهم ساعة ثم تهيّأ لطائفة أن صعدوا إلى شاطئ الأبلّة وصاروا في ظهورهم فاضطربوا وانهزموا وقتل منهم نفر وانهزم قوم واستأمن آخرون وملكت الأبلّة.
وأنفذ ليلى غلاما له في بعض الزبازب إلى الوزير أبي الفضل مبشّرا بالفتح، فالتمس السفن والزبازب وعبر إلى قرية فوق الأبلّة وعسكر بها وكتب إلى الحبشي يشير عليه بالخروج إلى الأهواز فالتمس منه الأمان والتوثقة، فآمنه على النفس والولد والحرم وتوقّف عن ذكر المال والحال.
فتنبّه الحبشي على ذلك وتردّدت فيه الرسل فلم يسكن ولم يخرج.
فعبّى الوزير أبو الفضل عسكره وزبازبه وزحف إلى البصرة وملك منها الموضع المعروف بالسيالجة ولم يزل ينفذ إليه رسولا بعد رسول من شجعان الأتراك والديلم ويأمرهم أن يقيموا عنده ويتوكّلوا به ولا ينصرفوا بالجواب، إلى أن أحاط به منهم بضعة عشر رجلا بالسلاح ثم أنفذ أبا سهل ديزويه العارض في طائفة وافرة من العسكر فدخلوا إليه وأخرجوه إخراجا بين الجميل والقبيح وحمل معه أهله وولده وما خفّ من ماله وجواهر كانت له فلم يوصله الوزير إليه وأمر بأن يسلّم إلى أحمد الطويل ليصير به إلى حصن مهدى ففعل ذلك وأقام هناك معتقلا أيّاما ثم حمل إلى الأهواز وبقي مدّة أخرى ثم إلى رامهرمز واعتقل بها اعتقالا جميلا ثم أزيل التوكيل عنه وحمل إلى عمّه ركن الدولة بحديث يطول ولا فائدة في ذكره. ثم حصل عند عضد الدولة فأقطعه إقطاعا يسعه ومن معه، وأمره أن يحصل بسابور وهي كورة من كور فارس نزهة كثيرة العيون والأشجار والصيد، فأقام بها إلى أن توفّى في آخر سنة تسع وستّين وثلاثمائة.
الوزير أبو الفضل يملك البصرة ويصادر أصحاب الحبشي
وملك الوزير أبو الفضل البصرة عنوة وأنفذ إليه بختيار خلعا جليلة فلبسها وركب فيها ونصبت له القباب فانبسطت يده وقوى سلطانه وصادر أصحاب الحبشيّ وكتّابه وحاشيته ومعامليه وارتجع منه ما كان حمله معه من المال والجواهر، واستخرج من الأموال شيئا كثيرا وظفر بخزائنه كلّها. فكان في جملتها خزانة كتبه وفيها خمسة عشر ألف مجلّد سوى الأجزاء والمشرّس غير المجلد ووجد له من خزائن الأسلحة والفرش والثياب الفاخرة والآلات شيئا يستكثر لمثله فحمل ذلك كلّه إلى بختيار.
وقلّد بختيار ابنه المرزبان البصرة وسنّه ثمان سنين واستكتب له أبا الغنائم المفضّل بن أبي محمد المهلّبي وهو خال ولد الوزير أبي الفضل.
ذكر الدعوة إلى محمد بن عبد الله القائم من أهل البيت (ص)
وفي هذه السنة ظهرت دعوة بين الخاصّ والعامّ يدعى فيها إلى محمد بن عبد الله القائم من أهل بيت رسول الله وقيل إنّه الرجل الذي ورد بذكره الخبر وأنّه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد أعداء المسلمين ويجدّد ما عفا من رسوم الدين. فتطلّعت إليه نفوس العامة وجعل دعاته يأخذون البيعة على الرجل بعد الرجل فمن كان من أهل السنّة قيل له: إنّه عباسيّ. ومن كان من أهل التشيع قيل له: إنّه علويّ.
وكتبت عنه رسالة على عدّة نسخ وطرحت في المساجد والمحافل يدعو فيها إلى مثل ما حكيناه عنه، فحصلت نسخة منها عند الوزير أبي الفضل في أول وزارته فتقدم بإذكاء العيون على الطائفة الخائضة في هذا الباب والقبض على من يوجد منها. ثم انحدر قبل أن يظفر بأحد منهم وتقدم إلى خليفته أبي العلاء صاعد بن ثابت بالجدّ في طلبهم.
فلمّا نظر في ذلك وجد جماعة من وجوه الكتّاب وأماثل الناس قد دخلوا في هذا الأمر وبايعوا الدعاة إليه، وكذلك وجدوا خلقا كثيرا من الديلم والأتراك والعرب قد بايعوه وكان فيهم سبكتكين العجمي أحد أكابر القوّاد: قواد معزّ الدولة، ممن قاد الجيوش وتقلّد الأعمال وكان شجاعا مطاعا جوادا نازلا عند الأتراك بمنزلة من لا يخالف في الرضا والسخط وكان يتشيّع وقيل له إنّ الرجل علويّ، وإنّه يقلّدك إمرة الأمراء. فاستجاب واستفحل أمر القوم.
ذكر السبب في اضمحلال أمره حتى ظفر به وبأسبابه ودعاته وجميع من دخل معه في بيعته
كان هذا الرجل محمد بن المستكفي طرأ إلى مصر فتقبّله كافور الإخشيدي الخادم وأحسن إليه وأجرى عليه رزقا سنيّا. فكاتب جماعة من أصحابه بالدعاء إليه فجرى أمره كما حكينا.
فلمّا كثر المستجيبون له وهم لا يعرفونه وتقوّوا بمكان سبكتكين العجمي كاتبوه بالحضور وكتب إليه سبكتكين: إني أقوم لك بالأمر.
فورد هيت وهو لا يشك أنّ الأمر مستقرّ له ومستتبّ على إرادته. وخرج سبكتكين العجمي وكان يتقلّد حماية طريق الفرات إلى الأنبار وأظهر للسلطان أنّه ينظر في مصالح عمله، فتلقّاه وترجّل له وأكرمه ثم أدخله البلد مستترا وأنفذ إليه فرشا فاخرا وثيابا نفيسة وطعاما كثيرا وشرابا. وعمل على إيقاع حريق وفتنة في ليلة النيروز المعتضدي لتشاغل الناس بذلك ويهجم على بختيار ويوقع به وواطأه على ذلك خلق من الجند فظهر له قبل النيروز أنّه عباسي وليس بعلويّ فتغيّرت نيّته، وتصوّره بصورة المحتال وواجه بعض أولئك الدعاة بذلك وأعلمه أنّه كذّاب مموّه وتثاقل عن نصرته وأظهر الندم.
وخاف محمد بن المستكفي أن يقبض عليه وأحسّ أصحابه ودعاته بذلك فاستوحشوا وتفرقوا، فبعضهم هرب إلى ناحية السواد وبعضهم أمعن في الهرب. وعرف السلطان خبرهم فكاتب العمال بالتيقظ في طلبهم وإذكاء العيون عليهم فظفر ببعضهم فأمر بتقريره بالسوط فأقرّ على جماعة أخذوا ولم يزل التتبع يقع حتى حصل محمد بن المستكفي وأخوه فأوصله بختيار إليه واستشرحه الأمر فشرحه بعد أن آمنه على نفسه.
فالتمس المطيع لله من بختيار أن يسلمه إليه مع أخيه، فأبى عليه ودافع عنه وقال:
« قد آمنته. » فبذل المطيع لله لهما الأمان على النفس. فلمّا حصل الجميع في يده تقدم بجدع أنف محمد بن المستكفي وقطع أنف أخيه وحبسهما مدّة. ثم هربا وخفى خبرهما ووقع الاستقصاء على كل من دخل في بيعته، فصودروا وأدّبوا ضروب التأديب ولم يقع الإقدام على سبكتكين العجمي ولا على أحد من وجوه الجملة وإنّما خوطب سبكتكين خطابا خفيفا فجنح في الجواب إلى الإنكار وأغضى عنه وعن الجند.
عضد الدولة يملك كرمان
وفي هذه السنة صفت كرمان لعضد الدولة وملكها وفتح قلعة بردسير وهي خزانة أبي على ابن الياس التي جمع فيها ذخائره على مرّ السنين من الأموال والجواهر والأمتعة الفاخرة.
ذكر السبب في ذلك
كان أبو على ابن الياس لما عاود كرمان بعد إبراهيم بن كاسك جرى مجرى بعض المتصعلكين وآمن ناحية عماد الدولة عليّ بن بويه لما ذكرناه فيما تقدّم فشارك اللصوص وصعاليك القفص والبلوص فحصل عنده على طول السنين من جهتهم مال عظيم في القلعة التي وصفناها.
ولما مات عليّ بن بويه عماد الدولة وترعرع عضد الدولة فنّاخسره كان في نفسه من هذه القلعة ما لا يظهره فلمّا استوحش اليسع بن محمد بن الياس من أبيه صار إلى عضد الدولة وأقام عنده حتى أصلح له نية أبيه وعاد إليه فوعده بولاية العهد ورياسة العسكر.
ولما كان في هذه السنة وقع القفص على قافلة عظيمة وغنموا أموالا عظيمة للتجار فخرج إليهم محمد بن الياس يطلب نصيبه من غنيمتهم فأصابه في الطريق علة الفالج وردّ إلى منزله واستمرت به العلة فجمع أكابر أولاده وهم ثلاثة: اليسع وسليمان والياس، فخاطبهم بما ظنّ أنّه يجمع كلمتهم واعتذر إلى اليسع من النبوة التي سبقت منه حتى فارقه ثم جمع إليه تدبيره عسكره وولاية عهده ومن بعده الياس.
فأمّا سليمان فإنّه أشار عليه بأن يرجع إلى بلده وهو الصغد وأظهر له تذكرة فيها ثبت دفائنه وودائعه هناك وأراد بذلك أبعاده عن اليسع لعداوة كانت بينهما فأظهرت الجماعة قبول أمره والانتهاء إلى رأيه.
وشخص سليمان نحو الصغد بما قسمه له. فلمّا صار بظاهر المدينة عدل عن ذلك السمت وقصد القفص وطلب منهم ذلك القسم الذي كان أبوه شخص لتسلمها، فتمّ له الوصول إليه وأخذ منهم مالا جليلا واستضم إلى نفسه جماعة منهم ليقوى بهم ثم عاد إلى السيرجان وكان يتولاها من جهة أبيه.
فلمّا بلغ أباه ما صنع، غضب من مخالفته إيّاه واغتاظ منه فأمر اليسع بطلبه وقوّاه بالرجال وقد كان العسكر مطيعين له وأمره إن يضطرّه إلى الخروج إلى الصغد أو معاودة حضرته ليقبض عليه ووصّاه إن خرج نحو الصغد أن يخلّى له الطريق ولا يتبعه.
فخرج اليسع إلى السيرجان وتحصّن سليمان منه واقتتلا أيّاما. ثم استظهر اليسع فحمل سليمان جميع ما كان حصل له وخرج من باب من أبواب المدينة قاصدا خراسان فتركه اليسع امتثالا لأمر أبيه وعاقب جماعة من أهلها الذين كانوا عاونوا سليمان عليه ثم صفح عنهم.
ذكر اضطراب أمر اليسع مع أبيه حتى استبدل به وما آل إليه أمره حتى أخرج أباه إلى خراسان مكرها
كان في جملة محمد بن الياس رجل يعرف بعبد الله بن مهدى ويلقب ببسّويه شديد الغلبة عليه والتمكن منه وبينه وبين اليسع وحشة متأكدة.
فخافه على نفسه فاجتمع مع إسرائيل المتطبب وكان أيضا مكينا عنده، ومهندس كان معه يقال له: المرزبان على إفساد نية أبي على ابن الياس على ابنه اليسع وشككوه فيه وحركوا ما كان في نفسه قديما منه وأشاروا عليه بأن ينقض ما عقده له من تدبير جيشه ويجعله لحاجب من حجابه يقال له:
ترمش، ليكون الأمر غير خارج عن يده ما دام حيّا. وليكن غلامه صاحب جيشه فيتصرف معهم على رأيه. فقبل منهم هذا الرأي وكتب إلى اليسع بأن ينكفئ إليه واستدعاه إلى القلعة وكان لا يصعدها إلّا وحده دون كل أحد على رسم القلاع.
فلمّا حصل عنده وليس فيها إلّا هو وهؤلاء الثلاثة ونفر من ثقات أصحابه وجماعة حرمه وجواريه قبض عليه وقيّده وفوّض أمر الجيش إلى ترمش الحاجب فلم يجتمعوا عليه ولا رضوا به.
فمشت والدة اليسع إلى والدة الياس وقالت لها:
« إنّ صاحبنا كان عقد لولدينا عقدا هو الصواب، لكنّه قد اختلّ عقله وعزب رأيه بهذه العلة وغلب عليه هؤلاء الثلاثة وتمّ لهم على ابني ما سيتمّ مثله على ابنك وحينئذ تخرج هذه المملكة عن آل الياس وتنتقل إليهم وإلى من نصبوه [ يعنى ترمش الحاجب ] والصواب أن تساعديني على تخليص ولدي ليكون الأمر جاريا مجراه الأول. » فساعدتها وقبلت رأيها.
وكان ابن الياس ربما أغمى عليه في علّته فاتفقت المرأتان على أن جمعتا الجواري وكان عددهن كثيرا وقصدن عبد الله بن مهدى بسّويه ليوقعن به.
فاتفق له أن أفلت وهرب واستنقذن اليسع وعالجن قيده فلم يكملن لكسره وخشين فوت الأمر فاتخذت له أمّه حبالا متينة من ثياب ديباج حتى تدلّى من القلعة إلى الأرض لأنّها لم تتمكن من إخراجه من باب القلعة. فلمّا حصل في الأرض رآه بعض الجند فكسر قيده وأعطاه دابّته فركب وتوسّط العسكر فاستبشروا به وعادوا إلى طاعته وخدمته.
وهرب ترمش الحاجب وجمع اليسع الجيش ليسير بهم إلى تحت القلعة ويحاصرها ويتغلّب عليها، وكان الشيخ في جميع ذلك مغمى عليه لا يعقل شيئا مما جرى. فلمّا أفاق من غمرته وعرف الصورة راسل اليسع واطلع عليه وسأله أن يكفّ عنه ويؤمنه على نفسه وحرمه ومن معه حتى يسلم إليه القلعة مع جميع أعمال كرمان ويرحل إلى خراسان ويكون عونا له هناك متى احتاج إليه.
فأجابه ابنه إلى ذلك ومكنه من جميع ما أراد فاحتمل مائة وقر من المال والثياب والجوهر وفاخر المتاع واستصحب ثلاثمائة غلام من غلمانه وما احتاج إليه من الآلات والكراع وشعّث القلعة وأحرق بقية ما كان فيه من الآلات والكسوة ورحل فلم يؤاخذه اليسع بما فعل بل احتمله ووفّى له بالأمان الذي بذله وتركه حتى نفذ إلى مقصده.
وتسلم اليسع القلعة وظفر بأولئك النفر الثلاثة وسلّمهم إلى كاتبه ومدبر أمره أبي نصر محمد بن إسماعيل البمّى وأمره بمطالبتهم فاستخرج منهم مالا عظيما.
وتلف إسرائيل الطبيب ثم وجه للمعروف ببسّويه كتابا كتبه إلى خراسان فيه الإغراء به والذم له وكان قد عفا عنه فأعاده إلى العقوبة حتى هلك فيها.
وابتدأ فنّاخسره عضد الدولة في تخبيب رجال ابن الياس فاستأمن إليه أكثر الديلم والأتراك وكان حينئذ أبو على ابن الياس بخراسان يطمع صاحبها في مملكة الديلم فكان من عاقبته ما شرحناه من موت وشمكير وغير ذلك.
وتفرّغ عضد الدولة لقصد كرمان ودسّ إلى كلّ من له رأى أو نجدة من خبّبه وأصلح قلبه له. ثم توجّه إليها فافتتحها ودخلها في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، واستولى على جميع أعمالها وملك قلعة بردسير وهي عظيمة فيها عدة قلاع متصلة بعضها ببعض، وانهزم اليسع إلى خراسان وصادف وصول اليسع إلى خراسان موت والده، فاحتوى صاحب خراسان على ما سلم معه من بقية ماله وكراعه.
ولما تمّ لعضد الدولة فتح كرمان واتصل خبره بصاحب سجستان كاتبه وترددت بينهما الرسل حتى صالحه وخطب له وهو أبو أحمد خلف بن أبي جعفر المعروف بابن بانويه.
وأنفذ إلى عضد الدولة من الحضرة ببغداد عهد الخليفة وخلعه من الطوق والسوارين والعقد على أعمال كرمان كلّها. فقلد عضد الدولة هذه الأعمال أكبر أولاده أبا الفوارس شيرزيل واستخلف له عليها كوركير بن جستان وكان وجه قوّاد عسكره وانصرف إلى شيراز.
ودخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة
وفيها استأمن حمدان بن ناصر الدولة إلى بختيار ودخل إلى مدينة السلام.
ذكر السبب في ذلك
كان ناصر الدولة قلّد حمدان ابنه الرحبة وسوّغه ارتفاعها وكان أبو تغلب وأخوه أبو البركات - وأختهما المسماة جميلة - بنى زوجته فاطمة بنت أحمد الكردي وكانت مالكة أمر أبيهم. فاستولى أبو تغلب على مالها وأموال ناصر الدولة وقلاعه وكانت هي مدبّرة جميع ذلك وتطابقت الجماعة على الشيخ وغلبوه على جميع ذلك ولم يكن له بهم طاقة لتناهيه في الكبر والضعف. فابتدأ يدبر القبض عليهم وكاتب ابنه حمدان ليستظهر به ويعتمده فيما همّ به، فظفروا بكتابه هذا ولم ينفذوه وزاد ما بينهم شروقا وانفراجا حتى خافوه، ودخل معهم في الخوف كاتبه وأكابر غلمانه الذين تابعوا أبا تغلب، فاجتمعوا وقبضوا عليه ليلا وحملوه إلى القلعة. واتصل ذلك بحمدان فامتعض لأبيه وكان عدوّا مباينا لإخوته هؤلاء وهو أشجع أولاد ناصر الدولة وأفرسهم وكان قد سار عند وفاة عمّه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقّة فملكها ثم سار من الرقة إلى نصيبين. واستفزّ على أبي تغلب من أطاعه من أهله وإخوته وجندهم وطالبهم بالإفراج عن أبيه وردّه إلى منزله وأمره فتوجّه إليه أبو تغلب فانهزم حمدان من بين يديه قبل اللقاء وتحصّن بالرقّة ومنها في الرافقة ونازله أبو تغلب عليها طويلا ثم اصطلحا على دخل وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.
موت ناصر الدولة
وعاش ناصر الدولة شهورا ومات في سنة ثمان وخمسين واستعمل أبو تغلب وعمّاله كلّ قبيح مع حمدان في ضياعه وأملاكه وطرد عنها وكلاؤه وانخرقت الحشمة بينهما فأنفذ إليه أخاه أبا البركات في جيش كثيف فلمّا قرب منه استأمن إليه معظم أصحاب حمدان فخرج عن البلد منهزما واحتمل حرمه وعياله وغلمانه ومن تبعه وورد هيت مستأمنا إلى بختيار وكتب إليه يستأذنه في الدخول فأجابه بالإذن والقبول وخرج فتلقّاه ومعه سبكتكين الحاجب وجماعة جيشه وأنزله في دار حسناء وفرشها فرشا فاخرا وحمل إليه هدايا من مال وافر وثياب فاخرة وطيب وفرش وبغال ودوابّ بمراكب ذهب وفضّة وتكفّل بالتوسّط بينه وبين أخيه أبي تغلب وأنفذ إليه أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي نقيب الطالبيّين برسالة في الصلح فتم بينهما وحلف لكل واحد صاحبه وشخص حمدان إلى الرحبة وحمل إليه بختيار هدية مثل الأولى وزيادة مع جمال وآلات السفر فرحل وشيّعه بختيار مع جيشه ثم عاد مستأمنا دفعة ثانية على ما سنذكره.
دخول جوهر مصر
وفي هذه السنة ورد الخبر بدخول جوهر صاحب أبي تميم العلوي صاحب المغرب مصر فاشتمل عليها وتقطع جيش كافور وجماعة الأخشيدية وتمزّقوا.
وفيها نفى شيرزاد بن سرخاب كاتب الفارسية عن مدينة السلام
ذكر السبب في ذلك
كان شيرزاد مستوليا على بختيار كما حكيناه وأسرف في التجبر وحلف بختيار على أن لا ينفذ عزما ولا يقرّر أمرا إلّا بعد مشاورته ورضاه وتحقق بالجندية وادّعى الشجاعة وأعاره الناس من ذلك ما لم يكن عنده تقرّبا إليه وكثر تعلقه بالأموال والتلاجى وشره إلى اكتساب الأرباح من غير وجوهها ولم ينقبض عن شيء همّ به ولم يمكن أحدا أن يعتصم منه. ومنع بختيار من عطاياه التي كان يبذلها للديلم والأتراك وقوّى عزيمته على الثبات والتماسك وخاض معه في إيقاع حيلة على سبكتكين الحاجب وقيل إنّه واطأ بعض الديلم على الفتك به إذا حضر الدار ليتسع بأمواله ونعمته. وعزم على تقلد الجيش والتسمية بالاسفهسلار فبلغ ذلك سبكتكين وامتنع أن يلقى بختيار أو يدخل داره إلّا في الأحايين البعيدة على تحرّز واستظهار.
وثقل أمر شيرزاد على الجند لأنّ بختيار كان عوّدهم ألّا يردّهم عن شيء يلتمسونه من واجب ومحال وقليل وكثير، فمنعه شيرزاد من ذلك وناصبه الكتّاب أيضا العداوة للخوف من شرّه وانقباض أيديهم عمّن يلتجئ إليه وكثر الدعاء عليه من أفناء الناس.
واجتمع الأتراك على عداوته وصاروا ينسبون كلّ حال يكرهونها وينكرونها إليه. وأخذ الوزير أبو الفضل يتحرّز منه لما فسد بينه وبينه ويستمل الأتراك ويوسع عليهم فمشى بعضهم إلى بعض وتوافقوا على الفتك به، ثم رأوا أن يستأذنوا سبكتكين الحاجب فقصده جماعة لذلك.
ونمى الخبر إلى بختيار فتقدم إليه بالمصير إلى سبكتكين واستصلاحه وطرح النفس عليه ومسألته كفّ القوم وضم إليه الوزير أبا الفضل ليعاونه وبينهما إذ ذاك منافقة لم ينهتك سترها. فقصدا سبكتكين ووجدا طائفة كثيرة من الأتراك عنده يستأمرونه في قتل شيرزاد فلم يأذن لهم ولكن أمرهم بتخويفه حتى يهرب وألّا يقارّوه بالحضرة. فأمسكوا عن قتله بعد أن همّوا به. وكان يجرى أمره مجرى صالح بن وصيف بسرّ من رأى أيام المهتدي بالله.
فلمّا وصل شيرزاد وأبو الفضل الوزير إليه وخاطباه وتضرّعا إليه صدّقهما عن الصورة وأعلمهما أنّه لولا خطره على الأتراك لقتل شيرزاد ولما تركوه أن يصل إليه وأشار عليه بالرحيل من ساعته إلى حيث شاء.
فخرج وهو يائس من صلاح حاله وخائف على مهجته فصادف الأتراك مجتمعين في دار سبكتكين يموجون في أمره ويتوعدونه ويغلظون له ويشتمونه، فأسرع الخروج إلى حضرة بختيار وعرّفه ما جرى، ثم التفت إلى الوزير فأسمعه غليظ ما يكره وقال له:
« هذا من عملك وتدبيرك. » فحلف له بالطلاق على براءته مما ظنّه به فأجابه بيمين الطلاق أنّه كاذب في جحوده.
ثم خلا بختيار بشيرزاد فحذّره شيرزاد من الوزير أبي الفضل وعقد معه عقدا وعهد إليه عهدا في صرفه عن الوزارة والقبض عليه واستصفاء نعمته ونعم أسبابه وواقفه على أن يحرس عليه بعد خروجه داره وأهله وولده وضياعه وأن يوقع عليه اسم ابنه سلّار بن بختيار لتنحسم عنها أطماع الديلم والجند إلى أن يستصلح نيّات الأتراك ونيّات سائر العسكر ثم يعود إلى حاله ويجرى على رسمه في الخدمة وانحدر في الوقت إلى الأهواز ثم صار منها إلى أرجان وبها يومئذ الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد. وكان حاجبه روين قريبا لشيرزاد وكان قد توفّى ففجع به جدا ووجد به وجدا شديدا. فلمّا وصل إليه شيرزاد رأى فيه شبها منه وتخيل فيه شمائله فعطف عليه وتحفّى له وأكرمه وحمل إليه مالا وكسوة وكتب له إلى ركن الدولة كتبا مؤكّدة ووعده بتوسط أمره وأشار عليه أن يخرج إلى حضرة ركن الدولة بكتبه ويقيم ببابه إلى أن يرد بنفسه فيتوسط أمره فاتفق أن خرج إلى الريّ وتوفّى بها.
وكان من سوء ملكة بختيار وقلة وفائه أنّه ثاني يوم خروجه قبض إقطاعه وضياعه وأملاكه وجواريه ودوره ونكب كاتبه وأسبابه واستثار أمواله وودائعه ونقل ابنه سلّار الى داره وسلّم إليه إقطاعه لا على الأصل الذي قرّره معه شيرزاد بل على أن يصير له ذلك خاصة يتوفر عليه.
القبض على الوزير أبي الفضل العباس
وحكى أيضا أنّ نفى شيرزاد كان في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. ثم أنّه بعد شهرين من نفى شيرزاد قبض على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين وكتّابه وأسبابه واستصفى أموالهم وقلّد الوزارة أبا الفرج محمد بن العباس وقلّد الديوان أبا قرّة الحسين بن محمد القنّائى.
ودخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة
ذكر السبب في القبض عليه
كان أبو الفضل الوزير استخدم أبا قرّة وهو رجل من دير قنّى حسن الذكاء قد نشأ بين كتّاب واسط وعمّالها وتخرّج معهم واختصّ بأحمد ابن عليّ القنّائى فتمهّر ولم يزل يتدرّج في التصرف حتى تقلد واسط رئاسة من قبل السلطان فاقتنى أموالا جليلة وصارت له نعمة ضخمة وكان شديد الجرأة على السلطان يقدم على أمواله إقداما لا يقدم عليها غيره هذا مع اهتداء إلى وجوه الحيل عليه ومعرفة بوجوه الارتفاق والارفاق فإنّه كان يرفق الوزراء والعمال باليسير ويتوصل به إلى الارتفاق الكثير.
فاضطرّ أبو الفضل في وزارته لبختيار عند الحاجة والإضافة إلى معاملته وكان يسعرها في وقت البيدر فربما قام عليه الكرّ بثلاثة أكرار. هذا إلى أمثال ذلك في معاملات الحنطة وغيرها وعظمت نعمته وتمكن من رعيّته بواسط فانبسطت يده عليهم فتأوّل عليهم وقوى بأموالهم. وكان الواحد منهم إذا تظلّم منه لم ينصف وردّ إليه أمره فيبسط المكروه عليه فصارت رعيته تشكره على طريق الخوف منه.
ولما غاب أبو الفضل الوزير إلى الموصل أيّام معز الدولة مكّنه واستخلفه ببغداد ووصل بينه وبين شيرزاد كاتب الفارسية ليعزّه ويمنع منه مراغمة أبي الفرج محمد بن العباس. فكان أبو قرّة يهدى إلى شيرزاد ويلاطفه ويكثر وجوه المرافق والمبارّ له ليمنع من الاستيفاء عليه وتأكدت الحال بينهما حتى انقطع إليه ولم يتمكّن أحد من الرجلين منه أعنى أبا الفرج وأبا الفضل وكانا يومئذ كاتبين لا يتسمى أحد منهما بالوزارة طول أيّام معز الدولة.
وكان أبو قرّة يرفع حسابه على ما يريد ولا يتمكّن أحد من الكتّاب أن يستوفيها عليه فيقرر بأكثر ارتفاع ضمانه سوى الأرباح التي ذكرناها وسوى ما يستغلّه من أملاكه وسوى ما يستخرجه من المصادرات والمصانعات.
وكان شيرزاد يطالب الوزير أبا الفضل بما كان واقفه عليه إذا تمّم له الوزارة وكان أبو الفضل يعتدّ عليه بما يصل إليه من جهة أبي قرّة وقال له:
« هذا الرجل عاملي وإنّما ضممته إليك لينوب عني عند غيبتي عن مدينة السلام وقد حصل لك من جهته ما ينبغي ان أحتسب به عليك وتعتدّه لي. » ويستجيبه شيرزاد بأنه لا يحتسب له إلّا بما يصل إليه من صلب ماله وخاص إقطاعه وارتفاقاته. ولم يزل ذلك يتردد بينهما حتى استوحش كل واحد من صاحبه واستوحش أبو قرة أيضا واختص زيادة اختصاص بشيرزاد.
فطمع في المنازل العالية لما يرجع إليه من الكفاية في نفسه ثم للحال المتأثلة واليسار العظيم واضطر الوزير إلى مغالطته عن نفسه وإيناسه والاستعانة به على شيرزاد وهو كان سبب اتصاله به. فلمّا تمّ على شيرزاد ما تمّ من النفي همّ الوزير بالقبض عليه ثم أمهله ودبّر أمره على أن تدرك غلّاته وخشي في الحال إن مدّ يده، أن تنقطع مادة ما كان يقيمه من قضيم الكراع وواقف بختيار على أنّه يستخرج منه عند حضور الوقت مائتي ألف دينار.
وكان بختيار لا يضبط لسانه ولا يكتم شيئا من أسرار نفسه ولو فيما جرّ عليه ذهاب النفس والملك فأخرج حديثه وسرّه فبلغ أبا قرة ما جرى وكان يخشى عداوة أبي الفرج فصار يخشى عداوة الوزير ولم يكن له وزر غير شيرزاد وكان قد نفى فاضطرب واحتال حتى توصل إلى سبكتكين الحاجب وبذل له على يد أبي بكر الإصبهاني صاحبه وثقته ذلك المال الذي كان يرتفق به شيرزاد بن سرخاب. فنصره سبكتكين نصرة زادت على نصرة شيرزاد فصار في ظل أحصن من الظل الأول وتعذّر على الوزير أن يملأ عينه منه فضلا [ عن ] أن يمدّ يده إليه.
فحينئذ اجتمعت على أبي الفضل الوزير أمور منها: الإضاقة وانقباض يده عن استيفاء الحقوق ومنها مطالبة بختيار له بالقروض التي كان اقترضها ولم يتسع لردّها عليه ومنها: عداوة سبكتكين له وخوفه من حيله ومكايده ومنها: حسده له على ظاهر حاله وما جمع من الغلمان والحجاب والمروءة الظاهرة ومنها: استمالته وجوه الأتراك ومكاثرته إياه في الإحسان إليهم ومنها: عداوة بختكين آزاذرويه وكاتبه سهل بن بشر إيّاه لقصده إيّاهما بالأهواز واستقصائه عليهما ومصادرته إيّاهما ومنها: عداوة صاحب الديوان أبي الفرج وأخيه عليّ بن العبّاس على قديم الأيّام ومنها: انقلاب أبي قرّة للأسباب التي ذكرناها، فخلا من كل صديق ومعين واصطلحت هذه الطائفة عليه.
ثم اضطرّ أبو الفرج محمد بن العبّاس إلى مصادقة أبي قرّة ليتعاضد على أبي الفضل لا لمودّة حقيقية فاتّفقا على أن يخاطبا سبكتكين الحاجب في مراسلة بختيار ومواقفته على القبض على أبي الفضل وضمنه أبو الفرج محمد بن العبّاس تسعة آلاف ألف درهم يستخرجها منه ومن خلفائه وكتّابه وجميع المتصلين به على أن يتقلّد الوزارة ويتقلّد أبو قرّة الديوان. ففعل ذلك وقبض على أبي الفضل كما سبق القول فيه.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 11 (0 من الأعضاء و 11 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)