فلم يلبث محمد بن العبّاس أبو الفرج في وزارته إلّا يسيرا حتى اضطربت أموره ولم يف بما ضمنه لبختيار وتمكن أبو قرة من السعى عليه وردّ أبي الفضل إلى وزارته وضمن لبختيار تصحيح سبعة آلاف ألف من جهته بضمان سبكتكين عنه.
شرح الحال في ذلك وسبب تمكن أبي الفضل بعد نكبه حتى أعيد إلى الوزارة ومكن من أبي الفرج
لما خلع على أبي الفرج الخلعة التي تخلع على الوزراء ومكن من أبي الفضل وسلّم إليه مع جميع أسبابه والمتصلين به اتسع بما راج له من جهاتهم وحبس أبا الفضل في داره وضيّق عليه وبحث عن أمواله وأموال أهله وحرمه بغاية ما أمكنه.
فلمّا وقف عليه الأمير طالبه بالمال وناظره فاستقرّ ما بينهما على أن التزم ثلاثة آلاف ألف درهم يحتسب منها بما صحّ من خاص أمواله وأثمان غلّاته وآلاته وكراعه ويوفّى ما يبقى واشترط أن يوسع عليه ويسهل الاذن لمن يدخل إليه ليستسعفهم ويقرض منهم. فأحجم أبو الفرج محمد ابن العبّاس عن التنفيس عنه خوفا من نفاذ حيلته عليه وأعاده إلى الحبس والتضييق وانفسخ ما قرّره معه وعطف على أسبابه فثنّى المصادرات عليهم وعسفهم وأرهقهم وجازفهم ومات في حبسه صهر لأبي الفضل العباس بن الحسين يقال له: إبراهيم بن محمد الدهكى، فاتهم به وأنّه قتله بالعذاب والمطالبة.
وخلع على أبي قرة لتقلّد الديوان بعد أن أرفق بختيار بمال على ذلك وأقرّت واسط في يده فصار ضامنا لها خاصة مستوفيا على غيره من الضمناء وتلقّب بالرئيس لأن أبا الفرج كان أيّام تقلّده الديوان متلقّبا بهذا اللقب فأنكر أبو الفرج ذلك على أبي قرة وأمر الناس أن يخاطبوه بالوزير الرئيس تحصينا لهذا اللقب عن أبي قرة.
ذكر فساد الحال بين الوزير وبين أبي قرة وما تم له من عزله وتولية أبي الفضل
وابتدأ أبو قرّة يطالب بجميع مراتب أبي الفرج التي كانت له قبل الوزارة وزعم أنها من حقوق صاحب الديوان ويجب أن يستوفيها. فاضطربت الحال بينه وبين الوزير أبي الفرج ولم يزل يتزيد حتى ترامت إلى نهاية الفساد وضمن أبو قرّة عن هذا اللقب مالا ثانيا حتى أمضى له وخرج الأمر بأن يخاطب به.
وكان معزّ الدولة أطلق لأبي الفرج وأبي الفضل عند إخراجه إيّاهما إلى جهتي عمان والبطيحة للحرب عليهما أن يضربا على أبوابهما بالدبادب في أسفارهما عند حضور أوقات الصلوات. فصار ذلك رسما لهما استمرّا عليه ولم يقطعاه عند انصرافهما من وجه الحرب. فلمّا تقلّد أبو قرة الديوان أجراه مجرى حقوق العمل التي تستوفى واحبّ أن يضرب على بابه بالدبادب.
فسأل بختيار ذلك فأجابه إليه ومنعه أبو الفرج الوزير منه وأنكر، ثم بذل فيه أبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك.
ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة في التنافس إلى أبعد غاية وفي العداوة إلى أقصى نهاية. وكان صاحبهما لاهيا عنهما واتصلت المنازعة بينهما في أمثال هذه الأشياء ولم تحفظ مرتبة الوزارة وفضلها على غيرها حتى لم تتميز من سواها.
فتقدّم الوزير أبو الفرج إلى كتّابه بعمل لأبي قرة ومؤامرة تشتمل على ما يجب عليه في مردود حسباناته التي عملها في سنى ضمانه وإثارة جميع ما غبن فيه السلطان ومرافقه القديمة والحديثة فعملت هذه المؤامرة واشتملت على ستة آلاف ألف درهم ونسبت هذه الأموال إلى جهاتها وعرضت على بختيار وأطمع في وجوبها وأن حاله تفي بها فأمر بمطالبته.
واعتصم بسبكتكين الحاجب فحامى عليه واغتاظ بختيار من تعززه عليه ووجد خصومه الطريق إلى إغرائه به وأقاموا في نفسه أنّه سيحمل سبكتكين على خلع طاعته وإزالته عن مملكته. فأنفذ بختيار إليه نقيبا ووكّله به في دار سبكتكين ثم أنفذ ثانيا يستدعيه وضعف سبكتكين عن مقاومة صاحبه بختيار ومنابذته وكان شاع عنه أنّه إنّما يحامى على أبي قرة لمرفق يأخذه منه، فترك الإغراق في نصرته وسلمه إلى بختيار على موجدة في نفسه وحمية في قلبه ووعد أبا قرة أنّه سيتكلم فيه ويستنقذه.
فلمّا صار عند بختيار سلّمه إلى الوزير أبي الفرج وأمره باستخراج المال فضعف الوزير عن منابذة سبكتكين فيه ولم يقدم على عسفه ولم يسكن إلى إطلاقه فحصل معتقلا اعتقالا جميلا ووقفت الأمور التي كان ينظر فيها من إقامة القضيم للكراع ومهمات التسبيبات عليه.
وندم سبكتكين على تقليد أبي الفرج الوزارة ومساعدته على نكبة أبي الفضل وتذكر ما كان يعامله به من المجاملة والنفاق ورأى أنّه على علّاته كان أصلح له من أبي الفرج وضعف قلب أبي الفرج بفساد رأيه.
وكان أخوه أبو محمد علي بن العبّاس الخازن مستوليا على بختيار مالكا لقياده لا يفارق مجلسه عند الأنس والمنادمة فأشفق أن يجرى عليه من سبكتكين ما جرى على شيرزاد منه فاتفقا على إرضاء سبكتكين بإطلاق أبي قرّة وتقرير أمره على مال قليل لا يؤثر في حاله وأن يصير إلى واسط على رسمه الأوّل ويعتزل الديوان. فلمّا أفرج عنه أقام القضيم ونفذ الأمور المتعلّقة به وانحدر إلى واسط بعد أن واطأ سبكتكين على السعى لأبي الفضل في الوزارة وإنقاذه من محبسه والقبض على أبي الفرج وأبي محمد علي بن العبّاس وأسبابهما.
وقد كان الوزير أبو الفرج عطّل ديوان أبي قرّة ونقل الأعمال عنه واستبد بمكاتبة العمال وكان له كاتب أهوازيّ يعرف بابن السكر قد اتسمت حاله فشرع في تقلّد هذا الديوان وبذل لبختيار مالا يصحّحه له في كلّ سنة من حقوق المحاسبات وأعلمه أنّ هذا الديوان زمام له على الوزراء وأنّ الوزير الآن مستبدّ بالجميع وفي ذلك ضياع الدخل والخرج وفساد الأصل والفرع.
واتّصل الخبر بأبي الفرج فغلظ عليه وعظم في نفسه وراسل بختيار بأنه لا يصبر على أن يتقلّد كاتبه هذا الديوان على مراغمته فأجابه بأنّه لا بدّ من صاحب ديوان يكون معه « فاختر أنت من تحب » فهان عليه ردّ أبي قرة إلى نفسه وكان أخفّ على قلبه وأيسر محملا من نظر ابن السكر فيه فكوتب بالاصعاد فورد وجددت له الخلع وقلد الديوان.
وكانت المراسلات بينه وبين أبي الفضل متصلة وذلك أن أبا الفضل كان واسع الصدر فأفضل على الموكلين به من غلمان الوزير أبي الفرج ووسّع عليهم وأكثر في برّهم والإحسان إليهم فلم يمنعوه من مكاتبة من يريد مكاتبته وأوصلوا إليه كتب من كاتبه فاحتال ضروب الحيل وتمّ له أكثر ما حاوله. فلمّا ورد أبو قرّة بغداد تمكن من إتمام أمره والسعى له.
واشتدت الإضاقة بأبي الفرج ووقفت عليه أموره ومطالبه. لأنّ واسط انغلقت عليه بأبي قرة والبصرة والأهواز انغلقتا عليه بالأتراك الذين استبدّوا بأموالهما في تسبيباتهم ولم ينهض بما ضمنه عن أبي الفضل لأنّه اقتصر على أخذ ظاهره وخاف أن يطلقه ليضطرب فيحتال عليه ويسعى في الوزارة وهو لا يعلم انه قد سعى وفرغ واجتمعت عليه مطالبات كثيرة وصارت حاله في انحراف بختيار عنه وعداوة سبكتكين الحاجب له ولأخيه وتعصّب الجند عليهما كحال أبي الفضل لمّا قبض عليه.
ذكر ما احتال به في هذه الحال وما عرض له من سوء الاتفاق
لمّا أحسّ باضطراب أمره خاف أن يعاجله بختيار بالقبض عليه فأحال على أموال وقفت عليه بالأهواز وأنّه يريد الشخوص إليها فمنعه بختيار من الخروج إلّا بعد إقامة الوجوه للنفقات التي بحضرته لئلا تتوجه عليه المطالبات بعد خروجه ويقع إخلال بالإقامات فاحتاج أن يستخلف أخاه بحضرته حتى ضمن له ذلك. وواقفه على وجوه ظن أنّها زاجية وأضاف إليه ابن أخته المعروف بأبي القاسم عليّ بن الحسين المشرف على أنّه ناظر في الدواوين والحسبانات وشخص إلى واسط.
وشخص أبو قرّة على أثره بعد أن قرر أمر أبي الفضل وفرغ منه ولكن تعلق طمع بختيار بالمواعيد التي وعده بها أبو الفرج والضمانات التي ضمنها أخوه. فلما حصلا بواسط ضايقه أبو قرّة في الأمور وعارضه في التدبير وكان مستوليا على البلد بالضمان، ثم على سائر الأعمال بحق النظر في الديوان ثم بالعناية التي كانت له من سبكتكين. فخفف الوزير أبو الفرج المقام بواسط وبرز عنها يريد الأهواز.
فحدث عند تدبيره وعمله على المسير أن توفّى رجل كان متغلبا على أسافل واسط وهي أعمال نهر الصلة ونهر الفضل وكان يعرف هذا الرجل بأحمد بن خاقان وهو جار محمد بن عمران بن شاهين واستولى على هذه النواحي وكان يقاطع عنها السلطان كما يريد ولا يمكن الاستيفاء عليه وله حال قوية ونعمة عظيمة. فقدّر محمد بن العباس الوزير أن يصل إلى أمواله فانتقل إلى هذا الوجه وسبقه ابن له يقال له: خاقان، فاحتمل غلات أبيه وأمواله ودخل إلى مضايق البطيحة.
ووجد أبو قرّة فرصته فأخذ في مراسلته وتقويته وتشجيعه وأعلمه أنّه معه وعونه ثم عمل أعمالا أوجب بها لنفسه بحق الضمان الذي له في واسط على هذا المتوفى شيئا كثيرا من الغلة والمال. ثم قال للوزير أبي الفرج محمد بن العباس انّه لا حقّ له في شيء مما يصل إليه من أموال هذا المتوفى إلّا بعد أن يستوفى منه هذه البقايا أو يحتسب بها له من مال ضمانه.
فسار الوزير أبو الفرج إلى بلاد لم يجد فيها شيئا ولو وجده لنازعه فيه أبو قرّة، وحصل منازلا لخاقان بحيث لا يمكنه الدخول إليه ولم يصادف في تلك الأعمال إنسانا بكلمة ولا حبّة من غلّة ولا أثرا من مال، فجنح إلى مراسلة خاقان والتماس مصالحته. فامتنع عليه ونازله أياما كثيرة حتى ملّ وساءت حاله وحال من معه وانقطعت عنهم الموادّ فاضطرّ إلى الرحيل ورضى بمال يسير لم يتمكن من استيفائه وحصل من هذا اليسير شيء يسير ووقعت المنازعة فيه بينه وبين أبي قرّة حتى اتفقا على اقتسامه وبادر بالخروج إلى الأهواز.
وكاتب أبو قرّة بختيار يعلمه أنّه ليس له وجه درهم واحد وأنّه خرج « مستروحا إلى البعد عنك لتندفع عنه النكبة التي خافها من جهتك » وكتب إلى بختكين آزاذرويه يحذّره منه فكتب بختكين إلى بختيار بانّه لم يبق عليه شيء وأنّ تسبيبات الأتراك وأنزالهم تستغرق الواجب وزيادة كثيرة وأنّ محمد بن العباس الوزير إنّما يصير إلى أعماله ليتأول عليه بالمحالات ويعمل له المؤامرات ويمدّ يده إلى أموال السنة المقبلة.
ووافق ذلك أن أخاه أبا محمد علي بن العباس الخازن صحّح البعض من تلك الوجوه التي أقيمت بالحضرة ووقف عليه الباقي لضعف يده ولكثرة الأراجيف بأخيه وبه وبأنّ بختيار قد تمت المواقفة بينه وبين أبي الفضل على إعادته إلى الوزارة وأخذ خطه في أبي الفرج وأبي محمد أخيه وأسبابهما بسبعة آلاف ألف درهم وأنّه يطلق الاستحقاقات ويدرّ النفقات.
فكتب بختيار إلى بختكين بالقبض على أبي الفرج ومن معه في يوم وصولهم إلى الأهواز وكتب إلى أبي قرة بمثل ذلك وبالاحتياط عليهم حتى لا يفوت أحد منهم وقبض بختيار على أبي محمد الخازن أخيه وكان جالسا معه يشرب على رسم كان له في منادمته وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وكان في دار أبي الفرج وخلع عليه للوزارة.
خروج ابن العميد إلى الجبل
وفي هذه السنة خرج الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد إلى الجبل في خيل عظيمة لتدبير أمرها وتقرير أمر حسنويه بن الحسين الكردي.
ذكر السبب في ذلك
كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوى واستفحل أمره لما وقع من الشغل عنه بالفتوح الكبار ولأنّه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار في جملتهم وخدم خدمة يستحق بها الإحسان إلّا أنّه مع ما أقطع وأغضى عنه من الأعمال التي يتبسّط فيها والإضافات التي يستولى عليها ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها فيضطر الناس إلى إجابته ولا يناقشه السلطان فكان يزيد أمره على الأيام وتتشاغل الولاة عنه إلى أن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف ومشاحّة تلاحّا فيها إلى أن قصده ابن مسافر بالحرب فهزمه حسنويه وكان يظن ابن مسافر أنّه لا يكاشفه ولا يبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه فلم تقف الحرب حيث ظنّ وانتهى الأمر بينهما إلى أن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضع شبيه بالحصار ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرّقوا بإزائهم.
ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كلّ فارس منهم على رأس رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريد بذلك فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير في أيام كثيرة تقدم بطرح النار فيه من عدّة مواضع فالتهب وكان الوقت صيفا وحميت الشمس عليهم مع حرّ النهار فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف فصاحوا وطلبوا الأمان فرفق بهم وأمسك عمّا همّ به.
وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل هذا كلّه له وتقدم إلى وزيره أبي الفضل محمد بن الحسين العميد - وهو الأستاذ الرئيس - بقصده واستئصال شأفته، وأمره بالاستقصاء والمبالغة.
فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج في عدّة وزينة وخرج ركن الدولة مشيّعا له وخلع على القواد ووقف حتى اجتاز به العسكر قائد بعد قائد وكوكبة بعد كوكبة، ورضى العدة والقوة فودع حينئذ الوزير ابن العميد وعاد إلى الري.
وسار الوزير ومعه ابنه أبو الفتح وكان شابّا قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند فهو بذكائه وحدّة ذهنه وسرعة حركته قد نفق نفاقا شديدا على ركن الدولة وهو مع ذلك لقلّة حنكته ونزق شبابه وتهوره في الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه ويحبّ أن يسير في خواص الديلم ويمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط من يستميل بقلوبهم ويخلع عليهم خلعا كثيرة ويحمل رؤساءهم وقوّادهم على الخيول الفرّه بالمراكب الثقال ويريد بجميع ذلك أن يسلموا له الرئاسة حتى لا يأنف أحد من تقبيل الأرض بين يديه والمشي قدّامه إذا ركب وكان جميع ذلك مما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أنّ ذلك لو كان مما يترخص فيه لكان هو بنفسه قد سبق إليه.
ابن العميد يصف الديلم
ولقد سمعته في كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم في الحسد والجشع وأنّه ما ملكهم أحد قطّ إلّا بترك الزينة وبذل مالا يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد ولا يتكبّر عليهم ولا يكون إلّا في مرتبة أوسطهم حالا وأنّ من دعاهم واحتشد لهم وحمل على حالة فوق طاقته لم يمنعهم ذلك من حسد على نعمته والسعى على إزالتها وترقّب أوقات الغرّة في آمن ما يكون الإنسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت.
وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى يظنّ أنّه قد ملأ قلبه رعبا وأنّه سيكفّ عن السيرة التي شرع فيها. فما هو إلّا أن يفارق مجلسه ذاك حتى يعاود سيرته تلك فأشفق الأستاذ الرئيس في سفرته هذه أن يتركه بحضرة صاحبه فيلج في هذه الأخلاق ويغترّ بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهى إلى ما لا يتلافاه فسيّره معه واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا عليّ محمد بن أحمد المعروف بابن البيع، وكان فاضلا أديبا ركينا حسن الصورة مقبول الجملة حسن المخبر خلقا وأدبا.
ابن العميد وابنه أبو الفتح
فلمّا كان في بعض الطريق - وكان يركب العماريّات ولا يستقلّ على ظهور الدوابّ لإفراط علة النقرس وغيرها عليه - التفت حوله فلم ير في موكبه أحدا وسأل عن الخبر فلم يجد حاجبا يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيري فسألنى عن الخبر فقلت له:
« إنّ الجماعة بأسرهم مالت مع أبي الفتح إلى الصيد. » فأمسك حتى نزل في معسكره ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام وكان يحضره كل يوم عشرة من القوّاد على مائدته التي تخصّه وعدّة من القوّاد على أطباق توضع لهم وذلك على نوبة معروفة يسعى فيها نقباؤهم.
فلمّا كان في ذلك اليوم لم يحضره أحد واستقصى في السؤال فقيل:
« إنّ أبا الفتح أضافهم في الصحراء. » فاشتطّ من ذلك وساءه أن يجرى مثل هذا ولا يستأذن فيه.
وقد كان أنكر خلوّ موكبه وهو في وجه حرب ولم يأمن أن يستمر هذا التشتت من المعسكر فتتمّ عليه حيله. فدعا أكبر حجّابه ووصّاه بان يحجب عنه ابنه أبا الفتح وأن يوصى النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته وظنّ أنّ هذا المبلغ من الإنكار سيغضّ منه وينهى العسكر من اتباعه على هواه فلم يؤثّر كلامه هذا كبير أثر.
وعاد الفتى إلى عادته واتّبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب وكان لا يخليهم من الخلع والألطاف. فشقّ ذلك على الأستاذ الرئيس جدّا ولم يحبّ أن يخرق هيبة نفسه بإظهار ما في قلبه ولا أن يبالغ في الإنكار وهو في مثل ذلك الوجه فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوّه. فدارى أمره وتجرّع غيظه، وأدّاه ذلك إلى زيادة في مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول في مجلس خلواته:
« ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلّا هذا الصبى. »
- يعنى ابنه - ويقول في مرضه:
« ما قتلني إلّا جرع الغيظ التي تجرّعتها منه. » ومما حصّلته عنه في وجهه هذا وقد سألته عن عاقبة أمر حسنويه معه وهل إلى استئصاله سبيل فقال:
« أمّا بهذه السرعة وفي هذا الزمان فلا، ولكنا سنعود عنه ونحن كما كنّا وزيادة شيء، ويعود حسنويه وهو كما كان ونقصان شيء، ثم يدبر أمره على الأيّام. »
وفاة ابن العميد بهمذان وانتصاب ابنه أبي الفتح مكانه
فلمّا حصل بهمذان اشتدّت علته فتوفّى بها - رحمه الله - وانتصب ابنه أبو الفتح مكان أبيه وكان العسكر كما ذكرت مائلا إليه فزاد في بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومنّاهم وبذل لهم طعامه ومنادمته وأكثر من الخلع عليهم وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضّه على الطاعة وأومأ إلى مصالحته على مال يحمله يقوم بما أنفق على العسكر وتتوفّر بعد ذلك بقيّته على خزانة السلطان ويضمن إصلاح حاله إذا فعل [ ذلك ] مع ركن الدولة.
وكان يشقّ على سهلان بن مسافر لما في نفسه من حسنويه ولأنّه يحبّ الانتقام منه ويكره أن ينصرف مثل ذلك العسكر عنه ولم يؤثّر في أمره أثرا يسمع به وليّه وعدوّه إلّا أنّ أبا الفتح كان يرى أنّ مقاربة حسنويه والعود إلى صاحبه ببابه لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم وأن يلحق مكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه أولى وأشبه بالصواب - وقد كان أبو عليّ محمد بن أحمد خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد - فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرّر أمره على خمسين ألف دينار ينكسر بعضها وجبى كورة الجبل وجمع من الدواب والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينار ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوّى نفسه وشدّ منّته وأحمد جميع ما كان دبّره وأمر بالعود إلى الحضرة بالريّ.
وكانت وفاة الأستاذ الرئيس بهمذان في صفر ليلة الخميس السادس منه سنة ستين وثلاثمائة ففقد به الفضل أجمع وعدمت المحاسن التي ما اجتمعت لغيره في الإسلام.
ذكر جملة من فضائل أبي الفضل ابن العميد وسيرته
كان هذا الرجل قد أدّى من الفضائل والمحاسن ما بهر به أهل زمانه حتى أذعن له العدوّ وسلم الحسود ولم يزاحمه أحد في المعاني التي اجتمعت له وصار كالشمس التي لا تخفى على أحد وكالبحر الذي يتحدّث عنه بلا حرج ولم أر أحدا قطّ زادت مشاهدته على الخبر عنه غيره.
فمن ذلك أنّه كان أكتب أهل عصره وأجمعهم لآلات الكتابة حفظا للغة والغريب وتوسّعا في النحو والعروض واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات وحفظا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام.
ما حدثني أبو الحسن علي بن القاسم في فضائل ابن العميد
ولقد حدثني أبو الحسن علي بن القاسم رحمه الله قال:
« كنت أروّى ابني أبا القاسم القصائد الغريبة من دواوين القدماء لأنّ الأستاذ الرئيس كان يستنشده إذا رءاه وكان لا يخلو إذا أنشده من رد عليه في تصحيف أو لحن مما يذهب علينا. فكان ذلك يشق عليّ وأحبّ أن تصح له قصيدة لا يعرفها الأستاذ الرئيس أو لا يردّ عليه فيها شيئا.
فأعيانى ذلك حتى وقع إليّ ديوان الكميت وهو مكثر جدا فاخترت له ثلاث قصائد غريبة ظننت أنّها ما وقعت إلى الأستاذ الرئيس وحفّظته إيّاها وتوخّيت الحضور معه. فلما وقع بصره عليه قال:
« هات أبا القاسم أنشدنى شيئا مما حفظته بعدي. » « فابتدأ ينشده، فلمّا استمر في قصيدة من هذه القصائد قال له:
« قف، فقد تركت من هذه القصيدة عدّة أبيات. » « ثم أنشده إيّاها. فخجلت خجلة لم أخجل مثلها. ثم استزاد فأنشده القصيدة الأخرى فأسقط فيها كما أسقط في الأولى واستدركه عليه أيضا. » قال: « فعلمت أنّ الرجل بحر لا ينزف ولا يوبّى ما عنده. » فهذا ما حدثني به هذا الرجل وكان أديبا كاتبا.
ما شاهدته أنا من ابن العميد من مقدرته العجيبة على الحفظ
وأما ما شاهدته منذ مدة صحبتي إيّاه - وكانت سبع سنين لازمته فيها ليلا ونهارا - أنّه ما أنشد شعر قطّ لم يحفظ ديوان صاحبه ولا غرّب عليه بشعر قديم ولا محدث ممن يستحق أن يحفظ شعره. ولقد سمعته ينشد دواوين قوم مجهولين أتعجب من تعاطيه حفظ مثلها حتى سألته يوما وقلت:
« أيّها الأستاذ كيف تفرغ زمانك لحفظ شعر هذا الرجل. » فقال: « وكأنّك تظنّ أنّى أتكلّف حفظ مثل هذا. إنّما ينحفظ لي إذا مرّ بسمعي مرّة. » وقد صدق رحمه الله فإني كنت أنشده لنفسي الأبيات التي تبلغ عدتها ثلاثين وأربعين فيعيدها بعد ذلك مستحسنا وربما سألنى عنها ويستنشدنى شيئا منها فلا أقوم بإعادة ثلاثة أبيات منتظمة على نسق حتى يذكّرنيها ويعيدها.
وحدّثني غير مرّة أنّه كان في حداثته يخاطر رفقاءه والأدباء الذين يعاشرهم على حفظ ألف بيت في يوم واحد وكان - رحمه الله - أثقل وزنا وأكثر قدرا من أن يتزيّد فقلت له:
« كيف كان يتأتّى لك ذلك. » فقال: « كانت لي شريطة، وهي أن يقترح عليّ من شعر لم أسمع به ألف بيت في يوم واحد، يكتب وأحفظ منه عشرين عشرين وثلاثين ثلاثين أعيدها وأبرأ من عهدتها. » فقلت: « وما معنى البراءة من عهدتها. » قال: « لا أكلّف إعادتها بعد ذلك. » قال: « فكنت أنشدها مرّة أو مرتين وأسلمها ثم اشتغل بغيرها حتى أفرغ من الجميع في اليوم الواحد. »
أما أدبه وعلمه
وأمّا كتابته فمعروفة من رسائله المدونة ومن كان مترسلا لم يخف عليه علوّ طبقته فيها، وكذلك شعره الذي جدّ فيه وهزل. فإنّه في أعلى درجات الشعر وأرفع منازله.
فأمّا تأويل القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار فكان منه في أرفع درجة وأعلى رتبة ثم إذا ترك هذه العلوم وأخذ في الهندسة والتعاليم فلم يكن يدانيه فيها أحد.
أبو الحسن العامري يستأنف القراءة على ابن العميد
فأمّا المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد في زمانه أن يدعيها بحضرته إلّا أن يكون مستفيدا أو قاصدا قصد التعلم دون المذاكرة.
وقد رأيت بحضرته أبا الحسن العامري - رحمه الله - وكان ورد من خراسان وقصد بغداد وعاد وعنده أنّه فيلسوف تامّ وقد شرح كتب أرسطاطاليس وشاخ فيها. فلمّا اطّلع على علوم الأستاذ الرئيس وعرف اتساعه فيها وتوقّد خاطره وحسن حفظه للمسطور برك بين يديه واستأنف القراءة عليه، وكان يعدّ نفسه في منزلة من يصلح أن يتعلّم منه، فقرأ عليه عدّة كتب مستغلقة ففتحها عليه ودرّسه ايّاها.
وكان الأستاذ الرئيس - رضي الله عنه - قليل الكلام نزر الحديث إلّا إذا سئل ووجد من يفهم عنه فإنّه حينئذ ينشط فيسمع منه ما لا يوجد عند غيره مع عبارة فصيحة وألفاظ متخيرة ومعان دقيقة لا يتحبس فيها ولا يتلعثم.
ثم رأيت بحضرته جماعة ممن يتوسل إليه بضروب من الآداب والعلوم فما أحد منهم كان يمتنع من تعظيمه في ذلك الفن الذي قصده به واطلاق القول بأنّه لم ير مثله ولا ظنّ أنّه يخلق.
ابن العميد وفن الإصغاء
وكان رحمه الله لحسن عشرته وطهارة أخلاقه ونزاهة نفسه إذا دخل إليه أديب أو عالم متفرد بفن سكت له وأصغى إليه واستحسن كل ما يسمعه منه استحسان من لا يعرف منه إلّا قدر ما يفهم به ما يورد عليه حتى إذا طاوله وأتت الشهور والسنون على محاضرته واتفق له أن يسأله عن شيء أو يجرى بحضرته نبذ منه فرغب إليه في إتمامه، تدفق حينئذ بحره وجاش خاطره وبهت من كان عند نفسه أنّه بارع في ذلك الفن والمعنى وما أكثر من خجل عنده من المعجبين بأنفسهم ولكن بعد أن يمدّ لهم في الميدان ويرخى من أعنّتهم ويمسك عنهم مدة حتى ينفد ما عندهم ويجزل لهم العطاء عليه.
اختصاصه بغرائب العلوم
فهذه كانت مرتبته في العلوم والآداب المعروفة ثم كان يختصّ بغرائب من العلوم الغامضة التي لا يدعيها أحد كعلوم الحيل التي يحتاج فيها إلى أواخر علوم الهندسة والطبيعة والحركات الغريبة وجرّ الثقيل ومعرفة مراكز الأثقال وإخراج كثير مما امتنع على القدماء من القوة إلى الفعل وعمل آلات غريبة لفتح القلاع والحيل على الحصون وحيل في الحروب مثل ذلك واتخاذ أسلحة عجيبة وسهام تنفذ أمدا بعيدا وتؤثر آثارا عظيمة ومرائى تحرق على مسافة بعيدة جدّا ولطف كف لم يسمع بمثله ومعرفة بدقائق علم التصاوير وتعاط له بديع. ولقد رأيته يتناول من مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته وأهل مؤانسته التفاحة وما يجرى مجراها فيعبث بها ساعة ثم يدحرجها وعليه صورة وجه قد خطها بظفره لو تعمّد لها غيره بالآلات المعدة في الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها ولا تأتّى له مثلها.
شجاعته في الحرب
فإذا حضر المعارك وباشر الحروب فإنّما هو أسد في الشجاعة لا يصطلى بناره ولا يدخل في غباره ولا يناويه قرن ولا يبارزه بطل مع ثبات جأش وحضور رأى وعلم بمواضع الفرص وبصر بسياسة العساكر والجيوش ومعرفة بمكايد الحروب.
اضطلاعه بتدبير الملك
فأمّا اضطلاعه بتدبير الممالك وعمارة البلاد واستغزاز الأموال فقد دلّت عليه رسائله ولا سيما رسالته إلى أبي محمد ابن هندو التي يخبر فيها باضطراب أمر فارس وسوء سياسة من تقدمه لها وما يجب أن يتلافى به حتى تعود إلى أحسن أحوالها. فإنّ هذه رسالة يتعلم منها صناعة الوزارة وكيف تتلافى الممالك بعد تناهى فسادها وما منعه من بسط العدل في ممالكه وعمارة ما يدبره منها.
إلّا أنّ صاحبه ركن الدولة مع فضله على أقرانه من الديلم كان على طريقة الجند المتغلبين يتغنّم ما يتعجل له ولا يرى النظر في عواقب أمره وعواقب أمور رعيته وكان يفسح لجنده وعسكره على طريق مداراتهم ما لا يمكن أحدا تلافيه وردّهم عنه. وكان مضطرّا إلى فعل ذلك لأنّه لم يكن من أهل بيت الملك ولا كانت له بين الديلم حشمة من يمتثل جميع أمره، وإنّما يرأس عليهم بسماحة كثيرة كانت فيه ومسامحة في أشياء لا يحتملها أمير عن مأمور.
وهذه سيرة إذا عوّدها الجند لم يمكن أن يفطموا عنها بل تزداد على الأيام وتتمادى حتى ينتهى إلى ما انتهى إليه جند عصرنا من تسحّبهم على الملوك واقتراحاتهم ما لا يفي به دخل المملكة وخروجهم في سوء الأدب إلى ما يخرج إليه السباع التي تضرأ ولا تقبل الأدب.
ثم كان الأستاذ الرئيس ابن العميد رحمه الله مع هذه السيرة قد دارى جنده ورعيته وصاحبه مداراة لو ادّعى له فيها المعجزة لاشتبه على قوم.
وذلك أنّه لمّا استوزر لركن الدولة كان تقدّمه قوم عجزة وباشروا مع عجزهم أمورا مضطربة وجندا متحكمين والدنيا في أيديهم يملكونها كيف شاءوا لا يمنعهم أحد منها وإنّما أميرهم يسمى بالأمرة ما دام يستجيب لهم إلى اقتراحاتهم ومتى خالفهم استبدلوا به.
وكان ركن الدولة وقبله عماد الدولة يوسعان عليهم في الإقطاعات ويبذلان لهم من الرغائب ما لا يبقى لهم معها حجة ولا موضع طلبة وهم مع ذلك يتحكمون ويبسطون أيديهم ويطمعون فيما لا مطمع فيه وكان قصارى الوزير والمدبر أن يقيم كل يوم وجها لنفقة الأمير يومه ذلك من مصادرة العامة أو قرض من الخاصة أو حيلة على من يتهم بيسار كائنا من كان، وربما تعذّر عليهم قضيم الكراع يوما ويومين. فاما نفقات الحشم وجراياتهم وما يقيم أرماقهم فكانت تتمحّل وربما امتنع عليهم إقامتها أياما، ومع ذلك فإنّ هؤلاء المدبّرين كانوا لا يتمكنون من الفكر في وجوه الحيل لكثرة من يزدحم عليهم من الجند - أعنى الديلم والأتراك - وخاصة من يطالبهم بالمحالات فيهربون منهم ويتواعدون من الليل إلى مواضع غامضة يجتمعون فيها وربما خرجوا إلى الصحراء ويجتمعون على ظهور دوابّهم ويثنون أرجلهم على أعناقها بقدر ما يديرون الرأي في وجه الحيلة واقامة وظيفة ذلك اليوم فإذا تمّ لهم ذلك فهو عيدهم ونشاطهم وغاية كفايتهم في صناعتهم.
فلمّا تولى الأستاذ الرئيس ابن العميد - رحمه الله - وزارة الأمير ركن الدولة استقام الأمر حتى رأيناه يركب إلى ديوانه من دار السلطان ولا يلقاه غير خاص كتّابه ثم يلقى صاحبه فلا يدور بينهما إلّا عوارض المهم الذي لا يخلو من مثله ملك ووزير، وضبط أعماله ونظم أموره ورتّب أسباب خدمته حتى كان أكثر نهاره مشغولا بالعلم وأهله. وبسط عدله وأقام هيبته في صدور الجند والرعية حتى كان يكفيه رفع الطرف إلى أحدهم على طريق الإنكار فترتعد الفرائص وتضطرب الأعضاء وتسترخي المفاصل.
وقد شاهدت من ذلك مواقف كثيرة لو شرحتها لأطلت هذا الفصل إطالة تخرج عن غرض الكتاب. ولولا أنّ صاحبه كان لا يستجيب إلى عمارة نواحيه كما حكيته في أول هذا الجزء خوفا من إخراج درهم واحد من الخزانة ويقنع بارتفاع ما يحصل للوقت ويرى أنّ دولته مقرونة بدولة الأكراد فلذلك لا يمنعهم من العيث ولا يطلق يد حماة الأطراف في قصدهم ويرضى أن يقال له:
« قطعت القافلة وسقيت المواشي » فيقول:
« لأنّ هؤلاء أيضا، يعنى الأكراد، يحتاجون إلى القوت ».
ولقد قيل مرة:
« إنّ الأكراد وقعوا على بغال له خرجت للعلوفة فساقوها وذلك بالقرب من البلد وبحيث يلحقون إن طلبوا. » فقال في الجواب:
« كم كانت البغال. » فقيل: « ستة. » فقال: « وكم كانت عدة الأكراد. » فقيل: « سبعة. » فقال: « سيقع بينهم الخلاف. كان يجب أن تكون البغال سبعة بعددهم. » فإذا كان هذا رأيه في الإنكار على أهل العيث وذلك رأيه في توفير العمارات واستغزار الأموال فما حيلة وزيره ومدبّره؟ فتأمل هذه الصورة وانظر إلى سيرة ملك قد عوّد وزراءه هذه العادات ورضى منهم بما تقدمت حكايتهم من تمشية أمره يوما بيوم.
ثم آلت الحال إلى النظام الذي ذكرته واطّردت الأمور اطرادها المشهور الذي دبّره الأستاذ الرئيس ابن العميد - رحمه الله - أى كفاية كانت له وأى سياسة مشت بين يديه ولكنه - رحمه الله - لما حصل بفارس علّم عضد الدولة وجوه التدابير السديدة وما تقوم به الممالك وصناعة الملك التي هي صناعة الصناعات ولقنه ذلك تلقينا فصادف منه متعلما لقنا وتلميذا فهما، حتى سمع من عضد الدولة مرارا كثيرة أنّ أبا الفضل ابن العميد كان أستاذنا، وكان لا يذكره في حياته الّا بالاستاذ الرئيس، وربما قال الأستاذ ولم يقل معه الرئيس، ولا يحفظ عليه أنّه ذكره قط بعد موته إلّا بالاستاذ. وكان يعتد له بجميع ما يتم من تدابيره وسياسته ويرى أنّ جميع ذلك مستفاد منه ومأخوذ عن رأيه وعلمه.
ولعلّنا نذكر منه طرفا إذا انتهينا إلى سيرة عضد الدولة وما تمّ له من حيازة الممالك وحفظ الأطراف وقمع الأعداء والحرص على العمارة مع الشدة على المريب وإطفاء نائرة الأكراد والأعراب وإعادة الملك إلى رسومه القديمة، إن أخّر الله في الأجل.
ولعلّ من يطّلع على هذا الفصل من كتابنا ممن لم يشاهده يظن أنّا أعرناه شهادة أو ادّعينا له أكثر من قدر علمه ومبلغ فضله. لا والذي أنطقنا بالحقّ وأخذ علينا ألّا نقول إلّا به.
ودخلت سنة ستين وثلاثمائة
عقد المصاهرات بين الأتراك والديلم
وفي هذه السنة رأى بختيار ورئي له أن يعقد بين رؤساء الأتراك ورؤساء الديلم مصاهرات لتزول العداوات التي نشأت بينهم. فابتدأ بعقد مصاهرة بين المرزبان بن عزّ الدولة وبين بختكين المعروف بآزاذرويه مولى معزّ الدولة، وثنّى بمصاهرة بين سالار بن عزّ الدولة وبين بكتيجور مولى معزّ الدولة. وفعل مثل ذلك بجماعة، وأصلح بين الديلم والأتراك، واستحلف كل فريق منهما لصاحبه فحلفوا جميعا على موالاة عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة وسبكتكين الحاجب، وحلف بختيار لسبكتكين الحاجب وسبكتكين لبختيار بعد وحشة كانت بينهما فزال الظاهر ولم يزل الباطن.
غلبة الفالج على المطيع لله
ثم غلبت علّة الفالج على المطيع لله فثقل لسانه وجانبه الأيمن وذلك في يوم السبت لليلة خلت من صفر سنة ستّين وثلاثمائة، ثم تماثل وتماسك وعاش على هذه الحال إلى الوقت الذي سلّم فيه الأمر الى أمير المؤمنين الطائع لله.
وفي هذه السنة ورد الحاجب لأبي تغلب ابن حمدان وهو عدّة الدولة.
فعقد مصاهرة بين أبي تغلب بإحدى بناته وبين عزّ الدولة بختيار على صداق مائة ألف دينار، وجدد على أبي تغلب عقد أعماله لأربع سنين حساب كل سنة ستة آلاف ألف درهم ومائتا ألف درهم وأنفذت إليه الخلع.
وزارة أبي الفضل العباس الثانية لعز الدولة
وفي هذه السنة كانت وزارة أبي الفضل العباس بن الحسين الثانية لعزّ الدولة والقبض على أبي الفرج محمد بن العباس.
ذكر السبب في ذلك
قد كنّا ذكرنا فيما تقدم أنّ معزّ الدولة كتب إلى آزاذرويه بالقبض على أبي الفرج ومن معه في يوم وصولهم إلى الأهواز وأنّه كتب أيضا إلى أبي قرّة بمثل ذلك وأنّه قبض على أبي محمد الخازن أخي أبي الفرج في مجلسه وكان يحضره للمنادمة وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وخلع عليه للوزارة وذلك يوم الثلاثاء آخر ليلة بقيت من رجب سنة ستين وثلاثمائة.
فلمّا تمكّن من الوزارة لم تكن له همة إلّا استصلاح سبكتكين وعوّل عليه وعلى كاتبه أبي عمرو ابن أدمى وصاحبه أبي بكر محمد بن عبد الله الاصبهاني وتقرب إليه في مظاهرة أبي قرة ومساعدته.
وقلد أخاه الحسن بن محمد القنائى خزانة عزّ الدولة مضافا إلى ما كان يتولاه من خلافة أخيه أبي قرّة على الدواوين، وقلد أبا أحمد ابن حفص ديوانا كانت تجرى فيه نواح اختصها بختيار لنفسه وسماه ديوان الخاص وكتب إلى أبي قرة يستدعيه من الأهواز إلى الحضرة وأمر بإنفاذ أبي الفرج محمد بن العباس إلى البصرة موكّلا به.
فورد أبو قرّة بغداد ومعه أسباب أبي الفرج المقبوض عليهم فبلغ الوزير أبو الفضل في إكرامه كلّ مبلغ وعظّمه وتجددت بينهما معاهدة ومحالفة بأمر عز الدولة وسبكتكين إيّاهما واتفقت كلمة الجماعة.
ثم نظر الوزير أبو الفضل في أمره وزيادة خرجه على دخله وقلبه ظهرا لبطن، فلم ير وجها غير إطماع عزّ الدولة في أموال عمران فحرّضه عليه وقرّب عليه أمره واتفق ورود أبي قرّة وقد تمت العزيمة.
فشخص بختيار متقدما وسار في الجانب الغربي على الظهر والوزير أبو الفضل وأبو قرّة انحدرا في الماء، واجتمعت الجماعة بواسط وذلك في شوال سنة ستّين وثلاثمائة.
وفي هذه السنة ارتفع امر ابن بقيّة مع عز الدولة وعلا شأنه حتى بلغ الوزارة كما سنحكيه بإذن الله.
ذكر ارتفاع ابن بقية
كان هذا الرجل من القرية المعروفة بأوانا وكان أبوه مزارعا وجدّه بقية واليه كان ينتسب، ونشأ في أيام الفتنة وغلبه أهل الرستاق على طريق دجلة العليا ودخل في غمارهم وانتسب إلى بعض عيّاريهم وكان جرى رسمه بتقلّد المآأصير (؟ ).
واتفق له أن اتصل بصاحب مطبخ معزّ الدولة المعروف بممله وكان ضامنا لتكريت وما يجرى معها من المآأصير العليا وأبواب المال فلما خدم ممله توجه معه وخفّ على قلبه فتدرج من حال إلى حال حتى استعمله على هذه الأعمال كلها وفوضها إليه. وكان فيه سماحة نفس وخفّة مع إقدام وتهوّر استفادهما من الحال التي نشأ عليها.
واتفق على ممله اتفاق سيىء من علل اتصلت به وإعراض من معزّ الدولة عنه. فشرع أبو طاهر ابن بقية في ضمان أعماله وعنى به جماعة من الكتّاب لأجل ما كان يبذله لهم فعقدت الأعمال عليه إلّا أنّه لم ينفق على معزّ الدولة ولا وثق به على مطبخه فقلده غيره ووفى بمال ضمانه وأقبلت حاله تتزايد وصدره يتسع للبذل حتى غلب على الوزير أبي الفضل وقرب منه وتعلّق منه بعناية.
وتوفى معزّ الدولة فنفق على عزّ الدولة بختيار وبذل له مرفقا يوصله إليه مما ينظر فيه. فقبل بختيار منه ذلك وردّت إليه الوكالة وقلد المطبخ فبلّغ بالمرفق الذي بذله لبختيار عشرة آلاف درهم في كل شهر واشترط أن ينصره على الكتّاب وأصحاب الدواوين ومنعهم من الاستقصاء عليه ويشدّ على يده في استيفاء أموال تسبيباته من الوكالة، فوفى له وكان يحمل إليه هذا المرفق الذي ذكرته مشاهرة. ثم أنس به في خلواته ومجالس لهوه وانبسط إليه بأنواع من المزاح كان يستعملها في مجالسه مع ندمائه.
فلطف موقفه ودخل معه كلّ مدخل.
ثم صار يهاديه بالخيل والبغال والجوارح والألطاف والجواري والعبيد ودخل في جلالة العزّ فعرض جاهه عنده حتى صار يتوسط بينه وبين كل رافع ظلامة وطالب حاجة. فلمّا أفضت هذه الوزارة الثانية التي نحن في ذكرها إلى أبي الفضل كان ابن بقية قد استولى غاية الاستيلاء وصار في مثل منزلة شيرزاد اختصاصا ومنزلة وغلبة على أمره واحتاج الوزير أبو الفضل إليه ليحفظ غيبه وانحدرت الجماعة إلى واسط لحرب عمران.
واستدعى الوزير أبو الفضل أبا الفرج محمد بن العباس إلى واسط وكان معتقلا بالبصرة وأخذ خطه بمال عظيم لا ينهض به وأنفذه إلى بغداد ليصححه هناك وكذلك فعل بأخيه أبي محمد فجرى عليهما ببغداد أمر قبيح يجرى مجرى التشفي من غير ضرب ولا مكروه في الجسم بل بضروب من الاستخفاف والإهانة والإسماع فتم لهما الهرب واستترا عند بعض أسباب سبكتكين.
فعادت الوحشة بين أبي الفضل وبين سبكتكين واتهم بأنّه يسفر له في العود إلى الوزارة وألجأته الحال إلى مطالبة عزّ الدولة بختيار باليمين الغموس على ألّا يستوزره أبدا ولا يستعين به في شيء من الأعمال إن لم يظهر بعد شهر من تاريخ اليمين فحلف له عزّ الدولة بحضرة القوّاد والقضاة والشهود ووجوه الحاشية وكان في اليمين كل ما يكون في أيمان البيعة ولقّنه بنفسه حرفا حرفا وبقي الأمر كذلك وأبو الفرج مستتر، إلى أن عاد عزّ الدولة إلى بغداد بعد سنتين وأخذ له ولأخيه أمان فظهر بعناية سبكتكين.
وضعف أمر الوزير أبي الفضل وضعفت منّته وتأدّى أمره إلى النكبة التي هلك فيها ووفى بختيار باليمين وقلد أبا طاهر ابن بقيّة الوزارة فكفّ عن أبي الفرج لأنّه علم أنّه لا يستوزر ولا يشرع في شيء من فساد حاله، ونفى أخاه أبا محمد إلى واسط وأجرى عليه رزقا.
ثم إنّ أبا محمد أصعد إلى بغداد بغير أمره وذلك لإرجاف أرجف عنده بالقبض على ابن بقيّة فاغتاظ لذلك وقبض عليه ونفاه إلى البطيحة فحصل عند عمران مدة ثم أصعد سرّا واستتر ببغداد في عرض الفتن التي كانت تجرى ثم تمكن ابن بقية منه ومن أخيه وطالبهما ثم نفاه ونفى أبا الفرج إلى سرّ من رأى واعتقله بها.
ذكر ما انتهى إليه أمر أبي قرة بعد حصوله بواسط وقوة أمره وعناية سبكتكين وأصحابه به
لما أنس أهل واسط بقرب عزّ الدولة منهم وطال مقامه بينهم، تظلموا إليه سرّا ولقيه نفر منهم، فأعلموه أنّه قد أخرب بلادهم وأفقرهم وظلمهم وغشمهم وصادرهم وملك عليهم ضياعهم وأنّه استحلّ منهم ما حرّمه الله وصححوا عنه سعة حاله وكثرة ماله وجلالة ضياعه. فاستعظم بختيار ذلك وغاظه فعله وتمكّنه من النعم الكثيرة حتى أزالها واستبدّ بها، فصرفه عن واسط وتقدّم إلى ابن بقيّة أن ينظر فيها على سبيل الأمانة.
فاتهم أبو قرّة الوزير أبا الفضل بأنّه عن رأيه ومساعدته ولم يكن كما ظن فكتب إلى سبكتكين الحاجب يعرفه ما جرى ويحرضه على أبي الفضل ويعلمه أنّه قد حنث في يمينه وعقوده التي بينهما وعاد إلى أسوأ فعله واعتقاده.
ثم عطف أبو قرة على أبي طاهر ابن بقية فخاطبه بكل ما كره وتوعده وهدده بالنكبة وطالبه بالحسبانات لما يجرى على يده دخلا وخرجا فاستطال عليه ابن بقيّة وانتصف منه ونصره بختيار فانخزل أبو قرّة.
واتصل بسهل بن بشر النصراني كاتب بختكين آزاذرويه وهو بالأهواز ما جرى على أبي قرة وضعف أمره وكانت بينهما عداوة قديمة فكتب إلى بختيار يضمنه بمال عظيم وساعده ابن بقيّة فقبض على أبي قرّة وأسبابه واستبيح ماله وقبضت ضياعه وغلّاته فسارع إلى التزام مصادرة ثقيلة عن نفسه وأسبابه وبذل بعد ذلك أموالا عظيمة يثيرها من محاسبات الضمناء، واستمال ابن بقية وعاهده على أن يكون كل واحد منهما ناصرا لصحابه.
ثم إنّ بختيار مال إلى ما بذله أبو قرة فأمر بأن يخلع عليه ولم يكره الوزير أبو الفضل ذلك لتزول التهمة التي سبقت إلى سبكتكين في أمره.
ذكر السبب في انتقاض أمر أبي قرة بعد تملكه وبعد إشرافه على الخلاص من النكبة
كانت الخلع أحضرت ليلبسها فكره المنجمون له الوقت وأشاروا عليه بالتوقف ليختار له يوم. فورد للوقت غلام لسهل بن بشر على البريد برسالة منه ومن بختكين آزاذرويه صاحبه يسألان تسليم أبي قرة إليه بزيادة بذلها وضمنه بها وصادف ذلك خوف الناس من عوده بعد سعايتهم به وأنّه عدوّ لهم يستأصلهم فسعوا إلى ابن بقية به حتى أشار على عزّ الدولة بتسليمه إلى سهل بن بشر وعرفه أنّه إنّما ضمن تلك الأموال حيلة في الخلاص والعود إلى التعزز عليه بسبكتكين. فسلّمه إلى رسل سهل بن بشر وحمل من ليلته إلى الأهواز وصودر هناك وتشفى منه وتلف في أنواع المكاره التي جرت عليه وقلّد ديوانه أبو أحمد ابن حفص.
ثم أفضت الوزارة إلى ابن بقية فضعفت يده وقلّ نظره لاستيلاء ابن بقية على المملكة فلم يبق من هذا الديوان إلّا الاسم.
وفي هذه السنة قتل حمدان أخاه أبا البركات
ذكر السبب في ذلك والاتفاق الحادث عن قصد وغير قصد
كنا ذكرنا ورود حمدان ورجوعه إلى الرحبة وتمام الصلح بينه وبين أخيه أبي تغلب ولم يلبث الأمر بينهما أن عاد إلى فساده فأنفذ أبو تغلب أخاه المكنى بأبي البركات إليه حتى دفعه عن الرحبة فسلك طريق البرية يريد دمشق وملك أبو البركات الرحبة فخلف بها طائفة من جيشه مع غلام من غلمانه وعامل من عماله ورحل منصرفا.
وانتهى حمدان إلى بعض طريق البرية ولحقه وأصحابه عطش ولم يمكنه الإتمام فرجع مخاطرا بنفسه ووصل إلى باب الرحبة ليلا والقوم الذين فيها غافلون نيام وتهيأ لنفر من غلمانه أن دخلوا البلد من ثلمة في السور غامضة كانوا يهتدون إليها وفتحوا له باب الرحبة فدخلها واستتر وراء السور وضرب بالبوق فبادر القوم إلى الباب متقطعين متفرقين وليس يعلمون بحصول حمدان من داخله فكان يوقع بهم أولا أولا وأسر عاملي الخراج والمعونة ووجد في أيديهم غلات قد وردت في السفن فغنمها وغنم سوادهم وآلاتهم وسلاحهم وكراعهم وصادرهم وأصعد على الفرات في الجانب الشامي إلى قرقيسيا.
واتصل خبره بأبي البركات وهو سائر إلى الموصل فعطف عليه وحاذاه من الجانب الجزري وتخاطبا وتراسلا فلم يتم بينهما صلح ولا اتفاق ولم يمكن أبا البركات المقام لضيق الميرة على عسكره، فرجع يريد الخابور.
فاتفق أن صار إلى حمدان مائتا فارس من بنى نمير مستأمنة وكانت عدته ثلاثمائة غلام فصار في خمسمائة فارس فتتبعت نفسه العبور في أثر أخيه والتصعلك على عسكره وكان فيه جرأة وإقدام. فخاطر وعبر في جريدة خيل وسار حتى أدركه بمنزل يقال له ماكسين وهو راحل مجتاز فنزل منه على فرسخين وبكّر في الغلس فزحف إليه فصادفه قد سبق بسواده وبعض جيشه وهو ماض على غير استعداد لأنّه لم يقع في ظنّه أنّ حمدان يقدم عليه مع التفاوت بين عدّتيهما.
فلمّا قيل له إنّه قد وافى، عطف إليه في طائفة من الرجال ليتلاحق به الباقون فبثّ حمدان أولئك العرب في الإغارة على سواده ومنع العسكر أن ينتظم شمله وحقق على أبي البركات في الحملة مع غلمانه فوجده متسرعا في أول الناس فاجتمعا متصادمين وعرف كل واحد منهما صاحبه فتضاربا بالسيوف ولم تكن على أبي البركات جنّة فضربه حمدان على رأسه فسقط إلى الأرض وأخذه أسيرا وبه رمق.
واستباح سواده واستأمن إليه جماعة من أصحابه وأسر جماعة وقتل بعض الأسارى واستبقى البعض وانكفأ إلى قرقيسيا ليعالج أخاه من ضربته وظنّ أنّه ينجو فتلف بعد ثلاث فأنفذه في تابوت إلى الموصل واستحكمت العداوة بينه وبين أخيه أبي تغلب.
واختلف باقى الإخوة وتخاذلوا وتنافسوا وكانوا متفرقين في أعمالهم. فبلغ أبا تغلب أنّ محمدا من بينهم المكنى أبا الفوارس وكان يتولى نصيبين قد كاتب حمدان وعمل على اللحاق به والاجتماع معه عليه فاحتال عليه واستدعاه وأطمعه في الإحسان والزيادة. فاغترّ محمد وصار إليه فقبض عليه واعتقله في قلعة أردمشت وضيّق عليه هناك وثقّله بالحديد حتى أطلقه عضد الدولة لمّا ملك تلك الديار.
وكنت مندوبا لنقل ما في تلك القلعة من الذخائر مأمونا على ما فيها فجرى ما سأذكره إذا انتهيت إليه.
واستوحش باقى إخوة أبي تغلب لما جرى على أخيهم محمد وأقبل أبو تغلب يستميلهم فخدعهم واحدا واحدا فصاروا إليه بعد أحوال تتقلب بهم سوى أبي طاهر إبراهيم فإنّه لم يسكن إليه ورحل إلى بغداد مستأمنا إلى عزّ الدولة بختيار على طريق دجلة.
وسار أبو تغلب إلى قرقيسيا وأنفذ منها أخاه أبا القاسم هبة الله سريّة في جيش كثيف إلى الرحبة تقديرا أن يكبس أخاه ويأخذه أسيرا فما أحس به حتى أطلّ عليه فخرج هاربا واتبعه ابنه وطائفة من غلمانه ولحقه هبة الله فابقى عليه حتى نجا.
ثم وقعت عليه سريّة للقرامطة كانت سائرة إلى الشام لقتال صاحب المغرب فأرادوا الإيقاع به فتعرف إليهم وكان متعلقا بينهم بذمام فكفّوا له وبذلوا له من نفوسهم ما أحبه فسألهم أن يسير معه نفر منهم إلى طريق عانة ففعلوا وعدل إلى مدينة السلام فاستقرّ الأخوان بها في ذي الحجة سنة ستّين وثلاثمائة وكتب بختيار إليهما بالانحدار إليه إلى واسط فانحدرا ووصلا إليه في صفر سنة إحدى وستّين وثلاثمائة وتلقاهما وأكرمهما وأمر بحمل أنزال كثيرة إليهما وردّهما إلى بغداد بعد أن حمل إلى كل واحد عند رحيلهما هدايا كثيرة من الثياب والورق والطيب والدواب والبغال والمراكب.
وسنذكر ما انتهت إليه أحوالهما بعد ذلك إن شاء الله.
ذكر تدبير دبره الوزير أبو الفضل على سبكتكين لما استوحش منه فانعكس عليه
قد قلنا انّ أبا الفضل اتهم سبكتكين بأنّه ستر أبا الفرج وأبا محمد وحامى عليهما وأنّه يريد أن يسعى لأبي الفرج في الوزارة وكان سبكتكين اتهم أبا الفضل بأنّه دبر على أبي قرّة حتى قتل بعد ذلك بالعذاب الطويل فشرع أبو الفضل في استصلاح سبكتكين بكل وجه وحيلة فلم يجد إلى ذلك سبيلا فصبر حينئذ على عداوته وأخذ في التدبير عليه.
فكان من ذلك أن أشار على بختيار بأن يستدعى آزاذرويه من الأهواز ويزيد في حاله ومحله ويقيمه كالضد لسبكتكين لينجذب الأتراك إلى هذا ويفلّهم عن ذلك فقبل بختيار بما أشار به عليه.
وورد بختكين واسطا فعظم أتم تعظيم وفخّم أمره أشد تفخيم وعقدت عليه واسط مضافة إلى الأهواز فلم يتم ما قدر من انفضاض الأتراك عن سبكتكين وذاك أنّهم تنبهوا على المقصد وعلموا أنّه إنّما دبر على تفريق شملهم وإيقاع التنافر بينهم وكانوا قد تحالفوا على المعاضدة وألّا يتفرقوا.
واشفق بختكين آزاذرويه من أن يعتزلهم وينفرد عنهم فصار واحدا منهم فانعكس تدبير الوزير أبي الفضل واضطر إلى العود إلى بابه والنزول تحت حكمه وطلب سلمه بعد معاتبات ومراسلات.
ولمّا عاد بختيار إلى بغداد زاد في منزله سبكتكين وأمر بأن يخاطب بالاسفهسلّار وتموهت الوحشة واندرجت على غير وثيقة. ولما عزم بختيار والوزير على الإصعاد عن واسط قدّما أبا طاهر ابن بقية إلى سبكتكين ليصلح ما تشعث بينه وبين الوزير أبي الفضل ويستعيد له جميل رأيه. فجرى الأمر ايضا في ذلك على نفاق ووحشة في السر واندمل الجرح على فساد إلى أن تم على الوزير الصّرف والنكبة واتصل بقتله وإبادته.
هلاك أبي طاهر عامل البصرة وكل من اتصل به
وفي هذه السنة هلك أبو طاهر الحسين بن الحسن عامل البصرة وكل من اتصل به وعفت آثارهم وزالت نعمهم ولم يبق منهم على وجه الأرض نافخ ضرمة.
ذكر السبب في اجتياح الزمان له ولهم
كان هذا الرجل فيه شهامة وكفاية وتهور مع ذلك ومخاطرة، ولما حصل بختيار بواسط أكثر الناس من حديثه وما وصل إليه من الأموال حتى اتسعت فيه الظنون.
وكان الوزير أبو الفضل يعلم أنّ ذلك باطل وليس يجب أن يفسد نظام أمور البصرة بصرفه والطمع في يسير ماله وكانت البصرة معتدلة الحال مستقيمة الأمور. فأغرى بختيار بالمصير إلى البصرة وأقيم في نفسه أنّه يصل منها إلى مال كثير ولم يكن وراءها.
فسار إليها ولم يجد بها ما كان مولعا به من المتصيدات ولا تمكنت البزاة والجوارح من الصيد لكثرة نخلها وشجرها ولاطفه هذا العامل بالهدايا والتحف وواقفه على مرفق يرفقه به ومشاهرة يقيمها له وتجاوز ذلك إلى أن ضمن له إثارة مال من البصرة على طريق التأويلات على التجار والمعاملين وأراد بذلك الدفع عن نفسه.
ووافى الوزير أبو الفضل البصرة بعد أن رتّب عساكره على طفوف البطيحة لأنّ المد وافى وكثر فلم يمكن طلب عمران بن شاهين واحتيج إلى الانتظار إلى وقت النقصان فأمره بختيار بالخلع على أبي طاهر العامل وتقبّل ما بذله له. ولم يستطب البصرة لعدم الصيد الذي ذكرته فعاد إلى واسط ووصى الوزير بتقوية يد العامل والزيادة في بسطه والرفع منه. فاضطرّ الوزير إلى امتثال ما رسم له وهو لا يختاره ولا يستصوبه.
فبسط أبو طاهر العامل يده في القبض على التجار والعوامّ وتأول عليهم بالمحال واستخرج منهم أموالا كثيرة وظنّ أنّه قد تمسك من بختيار بعهد يثق به وأنّه ممن يعتمد على قوله وذمامه وحدّث نفسه بمنزلة أبي قرّة وأن يرتقى منها إلى منزلة الوزارة.
فساء رأى الوزير أبي الفضل فيه وأخذ في التدبير عليه والسعى على دمه فكتب إلى بختيار يعرفه أنّه قد أخرب البصرة وأفسد نيّات أهلها وأنّهم عرب لا يحملون ما يحمله غيرهم ويزعم أنّ أموالهم الآن قد حصلت والصواب يقتضى إرضاءهم بالقبض على هذا العامل والاستبدال به ومصادرته على مال ينضاف إلى مصادرتهم. ثم دس إلى عزّ الدولة من يغريه به ويعظّم عليه جناياته ويطمعه في ماله إلى أن أمر بالقبض عليه فقبض الوزير عليه وعلى أخيه والمتصلين به حتى زوجته وعياله وأقاربه وأسبابه كلّهم.
عقد البصرة على رأس أبي القاسم المشرف
وعقد البصرة على عليّ بن الحسين المعروف بأبي القاسم المشرف وسلّمه إليه لعداوة كان يعرفه بينهما، وأخذ خطه بأن يستخرج منه ومن أسبابه مالا عظيما وأصعد عن البصرة لاستتمام منازلة عمران بن شاهين.
وكان هذا العامل - أعنى أبا طاهر - من أهل الشر فكثر خصماؤه وطلاب الطوائل عنده فعسفه عليّ بن الحسين وسلّمه إلى مستخرج كان قد وتره، فنالته منه مكاره عظيمة خاف معها أن يسلم فيكون بواره على يده.
فأتى على نفسه ثم ألحق به أخاه وأقاربه وزوجته فأتلف الجماعة بأسرها وعفى آثارها.
ثم عطف عليّ بن الحسين على معامليه ومخالطيه وقوم تأول عليهم فصادرهم لصحة المال الذي ضمنه فما صحّ له من جميع الجهات إلّا البعض وانكسر الباقي وانمحت آثار أبي طاهر من الأرض فلم يبق له بقيّة.
ذكر سوء تدبير بختيار لأمر عمران منذ انحدر من بغداد إلى أن خرج عائدا إليها وما تمّ لعمران من الطمع فيه والاستظهار عليه
كان بختيار لما خرج عن بغداد لمحاربة عمران أظهر أنّه يريد الخروج إلى التصيّد بناحية النعمانية مغالطة لعمران وظنّ أنّه يرهقه عن التحرز منه والاستعداد له.
وقد تفعل الملوك مثل هذا ولكن مع إتمام العزائم والصبر على مطاولة العدو بالمكايد التي تشبه هذا الابتداء، لا بأن يكون مبدأ التدبير صوابا يشبه الآراء الوثيقة ثم يتبعه باللعب والاشتغال عنه بالعبث وبترك الاستظهار وإهمال الجند حتى تخرق الهيبة وتزول الحشمة ويظهر للعدو عصيان الجند وقلة النظر في الحرب والتعويل على الجدّ دون الجدّ حتى يطلع على الحيرة والتبلّد ومكان العورة والضرورة الداعية إلى مقاربته في طلب الصلح منه والجنوح إلى السلم بعد النزاع إلى الحرب. فإنّ بختيار عمل في المبدء ذلك العمل الواحد ثم أتبعه بجميع ما ذكرته وذلك أنّه استطاب التصيد الذي أظهره مكيدة لعدوّه وأقام بالنعمانية شهرا مع عساكره التي علم معها عمران أنّ قصده بهم إيّاه لا غير.
ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة وطفوف البطيحة وبنى أمره معه على أن يسدّ أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة ويعدل بها إلى غيره وأن يبنى مسنّاة عظيمة يمكن سلوك الديلم عليها مشيا إلى معقله وهذا ضد ما بنى عليه أمره في الابتداء ولا يشبه الحيلة التي تؤدى إلى إرهاق العدوّ ومنعه من الفكر. فإنّ الهجوم والكبس والبيات يتم بالمعاجلة والركض إلى الغاية دون التمهل والأخذ والتدابير البعيدة والأعمال الطويلة.
فلما طالت المدة في عمل هذه السدود وجرت في أضعافها وقائع لحقت المدود وغلب الماء والسيل علاج السكور فاحتيج إلى الإمساك عنها والانصراف عن إتمامها إلى حفظ ما عمل منها بالرجال حتى لا يفسدها العدو، لا سيما وعمران متدرب بذلك قد اعتاد في جميع حروبه أن يمسك عن عدوه حتى ينفق ماله ويكذ رجاله فإذا أحسّ بالمد ومجيء السيول احتال في تخريب ما يبنى له من السكور وإنّما يكفيه إيقاع ثلمة يسيرة في أحد نواحي السد ثم يحمل الماء فيتولى كفايته في الهدم والتخريب. فربما أفسد في ساعة من الليل أو النهار تعب سنة أو نحوها.
وذلك أنّ هذه السدود تكون من قصب وتراب يقام في وجوه المياه الجاريه عند ضعف جريانها وغاية نقصانها فإذا وردت المياه القوية ومنعت من حدورها كفى منها اليسير من المعونة حتى تنبعث ويدفع بعضها بعضا وربما كان سبب انبثاق الماء نقب فأرة ثم يوسعه الماء وينتهى فيه إلى حيث لا حيلة في سده. ولما عمل بختيار ووزيره ما ذكرته من السدود وأتى المد كان قصاراهما حفظ ما عمل بالرجال حتى لا يتم لعمران حيلة في هدمه فعدل عمران عن هدم سكوره إلى الانتقال إلى معقل آخر من معاقل البطيحة ونقل غلّاته وزواريقه وجميع أمتعته إلى هناك. فلما انحسر الماء وجاءت ايام الجفاف من السنة الثانية وجد مكان عمران خاليا منه ولم تكن له آلة يطلبه بها فطلب غلّاته فلم يجد فيها شيئا فانصرف خائبا.
وضجر العسكر من المقام على الشقاء ولم يصبروا على أذيّة البقّ وحرّ الهواء وانقطاع المواد التي ألفوها فشغبوا عليه وتناولوا الوزير بألسنتهم وهموا بالإيقاع به وتحالف الديلم والأتراك على التعصب واتفاق الكلمة وأبوا أن يقيموا أكثر مما أقاموا. فاضطر بختيار إلى طلب مصالحته على مال يلتمسه منه - وقد كان هابه في أول الأمر فبذل له خمسة آلاف ألف درهم - فلمّا طلب هذا المال بعد اضطراب الجند وطول المقام وانقطاع الحيلة امتنع عليه منها وبذل ألفي ألف درهم بوساطة سهل بن بشر كاتب بختكين آزاذرويه وكانت بينه وبين عمران صداقة فنجّم عليه هذا المبلغ ثم تماسك عمران وامتنع من التوثقة بما وافق عليه واقتصر منه على اليمين أيضا فاضطرّ الوسائط إلى أن يقولوا لبختيار أنّه قد حلف وما حلف. وانصرف بختيار عنه مع عسكره خائبين عليهم الزلّة.
وحدث للعسكر زيادة على المعهود من سوء الخدمة وقلّة الطاعة والاستطالة حتى وثبوا على سهل بن بشر مرّة لأجل مال كان حمله معه فأحسوا به وطمعوا فيه ونهبوه واجتهد بختيار في ارتجاع شيء منه، فما أمكنه ذلك.
ذكر الوثوب على الجرجرائي
ثم وثبوا أيضا على محمد بن أحمد الجرجرائي - وكان ينظر في أمورهم ويخلف الوزير عليهم - لأشياء كانوا نقموها عليه وأبوا أن يكون متوليا عليهم فأرضاهم الوزير بصرفه عنهم ووجد السبيل إلى مصادرته فاستخرج منه عشرة آلاف دينار كانت سبب حقده حتى صار في جملة من سعى به ودبر في هلاكه.
عضد الدولة يندب كوركير لمحاربة سليمان بن محمد بن إلياس
وقد كان قبل هذه السنة ندب عضد الدولة كوركير بن جستان لمحاربة سليمان بن محمد بن الياس وكان سليمان هذا بخراسان وأطمع صاحبها في كرمان والقفص والبلوص في طاعته. فضم إليه صاحب خراسان جيشا وجاء إلى كرمان فاستغوى هاتين الطائفتين وغيرهم من الأمم المفارقة لطاعة السلطان الأكبر فصارت هذه الطوائف يدا واحدة في شقّ العصا.
فلقيه كوركير بين جيرفت وبمّ وجرت بينهما حرب أجلت عن قتل سليمان وبكر والحسين ابني اليسع أخيه وعدد كثير من قواد خراسان والرجال المضمومين إليه وحملت رؤسهم إلى شيراز وأنفذها عضد الدولة إلى حضرة أبيه ركن الدولة.
واجتمعت المنوجانيّة وسائر القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد البلوصى وأولاده وغيرهم من الرؤساء على كلمة واحدة في الخلاف وتحالفوا على الثبات والاجتهاد فضمّ عضد الدولة إلى كوركير عابد بن عليّ فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر فوقعت الوقعة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من صفر سنة ستّين وثلاثمائة وأجلت عن هزيمتهم وقتل خمسة آلاف رجل من أشدائهم ووجوههم وقتل ابنان لأبي سعيد البلوصى وحصل المعروف بأبي الفوارس المنوجانى في الأسر وابن أخيه أبو الليث وجماعة يجرون مجراهم.
ثم صمد عابد بن عليّ لقصّ آثارهم والتولج إلى مكانهم ليبيد غضراءهم.
فتابع الإيقاع بهم والإثخان فيهم وانتهى إلى هرموز فملكها واستولى على بلاد التيز ومكران وحصل في يده بعد من هلك في الحروب ألفا أسير من رجالهم ونسائهم وذراريّهم. فلاذوا بطلب الأمان وبذلوا تسليم المعاقل والجبال على أن يدخلوا في السلم وينزعوا شعار الحرب ويقتنعوا بالأقوات التي تحل وتطيب ويتحلّوا بسيماء المسلمين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويتمسكوا بسائر شروط الإيمان. فعقدوا على أنفسهم بذلك عقدا وثيقا.
عدول عابد بن علي إلى الخرمية والجاسكية
ثم عدل عابد بن عليّ إلى طوائف أخر من الأمم المخالفة في حال تصاقبهم يعرفون بالخرّمية والجاشكية يخيفون السبل في البر والبحر وكانوا ضاموا سليمان بن محمد بن الياس فأوقع بهم وقتل كثيرا منهم وحصل في يده رئيسهم أبو علي بن كلاب فضرب عنقه وقبض على خلق منهم فأنفذهم إلى شيراز فتوطأت تلك الأعمال وصلحت مدّة من الزمان.
عضد الدولة يصير بنفسه إلى كرمان
ثم لم يلبث البلوص وكانوا أشد هذه الطوائف بأسا وأوعدهم جانبا وأشدهم كفرا أن اشتاقوا إلى عاداتهم من إخافة السبل وسفك الدماء الحرام ونقض ما كانوا تمسكوا به من تلك العهود. فلمّا فعلوا ذلك اعتقد عضد الدولة ألّا حيلة في صلاحهم ويئس منهم فرأى ألّا يبقى عليهم وعزم على المسير بنفسه إلى كرمان فسار في ذي القعدة سنة ستّين وثلاثمائة.
فلمّا انتهى إلى السيرجان وجد البلوص قد تبسطوا في الأعمال وسعوا فيها بالفساد ونصبوا للرئاسة عليهم عليّ بن محمد البارزى ولقي الناس منهم عنتا شديدا في جميع طرقات كرمان وسجستان وخراسان فجرّد عابد بن عليّ في عسكر كثيف من الديلم والجيل والأتراك والأعراب والأكراد والزطّ والرجال السّيفية وأنفذه إليهم فلمّا أحسّوا بإطلاله عليهم أوغلوا في الهرب وسلكوا طرقا ضيقة شاقة ظنّوا أنّ العسكر لا يمكنه سلوكها ولا اتباعهم فيها.
ثم إنّ عابدا أنفذ أخاه في سريّة قوية خلفهم وسار هو في باقى الجيش من طريق آخر إلى بلادهم التي يأوونها إلى جبال البارز ففتحها عنوة واستنزل عنها محمد بن عليّ البارزى وظفر بصهره أبي دارم وقد كانوا أنفذوا طلائع لهم وعيونا ليأتيهم بالأخبار فنذر بهم وقبض على جماعتهم فلم يرجع إليهم مخبر منهم.
فكانوا ساكنين غارّين إلى أن أطلّ الجيش في الموضع الذي ظنّوا أنّهم آمنون فيه فلم يجدوا مهربا ولا معدلا عن المجاهدة، فثبتوا سحابة يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستّين وثلاثمائة، منذ طلوع الشمس إلى غروبها. ثم انجلت الوقعة عن قتل الرجال المقاتلة إلّا القليل وعن الاحاطة بحرمهم وذراريّهم وأملاكهم ونجا في الوقت رئيسهم المعروف بابن أبي الرجال البلوصى مع جماعة من الوجوه ثم ظفر بهم من بعد فقتلوا جميعا ودخل نفر يسير ممن بقي تحت الأمان وتشبثوا بالعهد والذمام فنقلوا عن تلك الجبال. وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة المزارعين والمستورين من أجناس الرعية حتى طبّقوا تلك المواضع بالعمارات وطهرت تلك الجبال من معرّة أولئك المفسدين.
ثم عاد عابد بن عليّ إلى الامة المعروفة بالجاشكية ومن يجرى مجراها من الدعّار وكانوا وراء جبال القفص مما يلي التيز ومكران والسواحل إلى حدود عمان ولهم معرّة شديدة وفساد كثير وجنايات عظيمة على الناس وأنفذ عابد أخاه في عسكر قوى من الديلم والأتراك والعرب وغيرهم وحمل معه الزاد على الجمازات في البرّ وعلى الشذاآت والمراكب في البحر من سيراف إلى مكلّى هرموز وسواحل كرمان فقطع عدّة مضايق حتى وصل إليهم وهم غافلون لا يظنّون أنّ أحدا يصل إليهم. فأوقع بهم وقتل وأسر واصطلم ولم يبق من طبقات الدعّار في تلك النواحي أحدا.
وفي هذه السفرة تنكّر عضد الدولة لكوركير فقبض عليه وردّه إلى سيراف واعتقله اعتقالا جميلا فيه بقية للصلح.
ودخلت سنة احدى وستين وثلاثمائة
وزارة أبي الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد
وفيها تمكن الأستاذ الجليل أبو الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد رحمهما الله من الوزارة بعد أبيه وفوض إليه ركن الدولة تدبير ممالكه ومكّنه من أعنة الخيل فصار وزيرا وصاحب جيش على رسم والده، إلّا أنّ والده باشر هذه الأمور في كمال من أدواته وتمام من آلاته على ما شرحناه فيما تقدم، وكان لوفور عقله يدارى أمره مع صاحبه ومع عسكره ثم يسوس رعيّته والممالك التي يراعيها ويدبر الجميع تدبيرا ملائما لوقته موافقا لزمانه فلا يظهر من الزينة وأبّهة الوزارة إلّا بمقدار ما يقيم به مرتبته ولا يجاوز ذلك إلى ما يحسد عليه وينافس، ثم يتواضع تواضعا لا يخرج به إلى غضاضة تلحقه في جاهه أو تحطّه عن المنزلة العالية التي يرقى إليها وكانت سلامته طول مدته على أصناف الناس وطبقاتهم وقيام هيبته وتمام سياسته متصلة تزيد على الأيام ثناء وثباتا.
ذكر خصائص أبي الفتح في خلقه وسياسته
فأما ابنه أبو الفتح فكان فيه مع رجاحته وفضله في أدب الكتابة وتيقّظه وفراسته نزق الحداثة وسكر الشباب وجرأة القدرة، فتطلعت نفسه إلى اظهار الزينة الكثيرة واستخدام الديلم والأتراك والاحتشاد في المواكب التي يركب فيها واتخاذ الدعوات لصاحبه وسائر عسكره التي يلتزم فيها الخلع والحملان على الدواب والمراكب والإسراف في الصلات والنفقات تشبّها بوزراء عزّ الدولة بختيار الذين لا خبرة لهم بعواقب الأمور ولا نظر لهم في مصالح الملك وإنّما همة أحدهم في تناول شهواته والوصول إلى لذّاته وإثارة غيظ حسّادهم بإظهار الزينة التي فوق طاقته.
وليس يعلم أنّ أول من ينكر ذلك في نفسه وإن لم يبده له صاحبه فهو يحسده على مساواته له وعلى تمكنه مما يتمكن هو منه ثم مزاحمته له في الاستظهار والجمع وتبذير الأموال التي يرى أنّه أحق بها منه ثم خوفه من ميل الجند إليه وإجماعهم على جوده وسخائه واعتدادهم بما يصل إليهم له دون صاحبهم ووليّ نعمهم.
فكان أبو الفتح ابن العميد يسرف في ركوب هذه الأهواء ويحب أن يبلغ غاية ما يقدر عليه منها فجلب عليه ذلك ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام فكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند وأحب الراحة والدعة ففوض إليه الأمور ورآه شابّا قد استقبل الدنيا استقبالا فهو يحب التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم ملّه ويستلذّ فيه الانتصاب للأمر والنهى ومخالطة الجند والركوب إلى الصيد ومشى خواص الديلم وكبار الجند بين يديه ثم مشاربتهم ومؤانستهم والإحسان إليهم بالخلع والحملان.
فأول من أنكر عليه هذا الفعل عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة وكتّابهم ثم سائر مشايخ الدولة ورأوه يركب في موكب عظيم ويغشى الدار والديوان فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الامارة حتى لا يوجد فيها إلّا المستخدمون من الاتباع والحاشية فقط.
ثم ترقّى أمره في قيادة الجيش والتحقق بها إلى أن ندب للخروج إلى العراق في جيش كثيف من الريّ والإجماع مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة في الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه كما سنشرحه فيما بعد بإذن الله. فأقام هناك ونظم أمور بختيار وتلقّب بذي الكفايتين من جهة الطائع لله وأخذ الخلع وواطأ بختيار على أمور خالف فيها عضد الدولة وأوحشه وتأدّى أمره إلى الهلاك.
وإنّما ذكرنا هاهنا جملة من سوء تدبيره لنفسه ونحن نشرحها مفصلة في الأمور التي حدثت في سنة خمس وستّين وثلاثمائة ليعتبر بها المعتبرون ويجرى مجرى تجارب الأمم التي يتكرر مثلها فيتحرّز منها.
فأمّا الآن فإنّا نشرع في الأمور التي حدثت في هذا الزمان الذي نحن في ذكره ونستقصى أخبار بختيار وما عمله في عوده من البصرة إلى واسط ليتصل حديثه ولا ينقطع بدخول حديث غيره فيه.
ذكر السبب في تجاسر العامة على السلطان والفتن الثائرة بهم حتى خربت بغداد
وذاك أنّ الكتب وردت عليه بأنّ الروم غزوا نصيبين فملكوها وأحرقوها وقتلوا الرجال وسبوا الذراري ثم ورد خلق من ديار ربيعة وديار بكر مدينة السلام واستنفروا المسلمين في المساجد الجامعة والأسواق وحكوا انفتاح الطريق للروم وأنّه لا مانع لهم من تورّد ديارهم وهي متصلة بالعراق.
محاولة الهجوم على دار المطيع لله وإسماعه ما يقبح ذكره
فلمّا تجمّع معهم خلق من أهل بغداد صاروا إلى دار المطيع لله وحاولوا الهجوم عليها وقلعوا البعض من شبابيكها فأغلقت الأبواب دونهم بعد أن كانوا يصلون إليه ويأتون عليه فأسمعوه ما كره ونسبوه إلى العجز عمّا أوجب الله على الائمة وتجاوزوا ذلك إلى ما يقبح ذكره.
وكان بختيار في هذا الوقت بالكوفة مظهرا زيارة المشهد وغرضه التصيّد فخرج إليه وجوه أهل بغداد منكرين عليه اشتغاله عن مصالح المسلمين وانصرافه عن تدبيرهم إلى مجاهدة عمران وهو من أهل القبلة، وإمهاله الروم وهم أعداء الملة، ثم تشاغله بالصيد واللهو عن جميع مهمّات المملكة. ووعدهم بالعود إلى واسط ومصالحة عمران والانكفاء إلى الثغور فسكنوا وانصرفوا.
فلمّا عاد كاتب أبا تغلب وهو صاحب الموصل، يعلمه فيه أنّه عامل على الغزو ويلزمه أن يعدّ له من الزاد والعلوفة ما يسعه وجنده في الطريق وأنفذ في ذلك بعض خواصه فقضى ابن حمدان حقّه وردّه بالإنعام والمسارعة إلى ما سأل وهو يعلم أنّه لا يفي بوعد ولا وعيد وأنّه يقول ولا يفعل.
ثم أنفذ محمد بن بقيّة برسالته إلى سبكتكين الحاجب وهو ببغداد يستصلحه لوزيره العباس بن الحسين ويستنهضه للغزو معه ويأمره بأن يستنفر من يرغب في الجهاد. فتقبّل سبكتكين ذلك تقبل المنافق ثم ركب ببغداد في الجيش واستنفر المسلمين فثار من العامة عدد كثير بأصناف السلاح والسيوف والرماح والقسيّ حتى استعظم ما شاهده منهم ولم يوفق لتربيتهم وضمهم إلى رئيس يقوم بهم بل جعلهم كالعدة لنفسه فصاروا وبالا عظيما وضروا على المحارمات بينهم وأظهروا ضروب العصبية وأثاروا الفتن وأقدم بعضهم على بعض بالقتل واستباحة الأموال والهجوم على الحرم والفروج وتفاقم الأمر بينهم وبلغ كل المبلغ في الشر وعجز السلطان عن إصلاحهم وإطفاء ما أثاره من نائرتهم حتى صار ذلك سببا لخراب بغداد.
وسنذكر شرح هذه الأحوال عند دخول سنة ستّ بعون الله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 10 (0 من الأعضاء و 10 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)