بختيار يصالح عمران ويعود إلى بغداد
وصالح بختيار عمران كما حكينا أمره فيما تقدم وطمع في مال الصلح واستضعفه. ورجع بختيار إلى بغداد وهي خراب بكثرة الفتن واستطالة العامة وحدوث الحروب فيها وإغارة بعضها على بعض وكثرة رؤسائهم الناجمين فيهم حتى حصل في كل محلة عدة رؤساء من العيّارين يحامون على محلتهم ويجبونهم الأموال ويحاربون من يليهم فهم لذلك متحاقدون يغزو بعضهم بعضا نهارا وليلا ويحرق بعضهم دور بعض ويغير كل قوم على إخوانهم وجيرانهم.
تسحب الأتراك
فأمّا الأتراك فمتسحّبون مقترحون ما لا يتمكّن منه متجاوزون حدود العامة في سفك الدماء والطمع في الأموال والفروج حتى قتلوا صاحب شرطة كان لبختيار يقال له خمار، لشيء حقير كان حقده على بعض أصاغر الأتراك فلقيهم راكبا في موكبه فحملوا عليه وألجئوه إلى الهرب والدخول إلى دار بختكين المعروف بجعدمويه وكان رئيسا معظما في الأتراك فهجموا عليه وأخرجوه وقتلوه قتلة الكلاب خفقا بالسيوف واللتوت ثم سلموا جثته إلى العامة ففصلوه آرابا حتى أخذ كبده بعض السفهاء وقلبه آخر وكل جارحة منه وجد في يد سفيه ثم أحرقوا باقى جثته بالنار.
وفتحوا السجون وأطلقوا أهل الدعارة منها وقلعوا أبوابها ونقضوا حيطانها وعجز بختيار عن تدبير أمرهم وخاف معرة الأتراك فاستدعى الديلم إلى داره فحضروه بالسلاح وتكلموا في أمر المقتول أعنى خمار وأنكروا تبسط الأتراك وتحركت الأحقاد بينهم وعمل الديلم على قصد دار سبكتكين الحاجب ومنازل الأتراك وأحسوا بهم فتحرزوا واستعدوا وتعصب العامة معهم فسكّن بختيار تلك الثورة وأغضى عن قتل صاحبه خمار.
تعصب سبكتكين للسنة على الشيعة
ثم عوّل على الحاجب سبكتكين في تسكين العامة لأن هيبته كانت في نفوسهم أكبر وقلّد سبكتكين الشرطة ببغداد حاجبا له فسكنت الفتنة مدة أيامه إلا أنّه تعصّب للطائفة المنتسبة إلى السنّة على الشيعة فثار أهل التشيع وعادت الحروب والفتن كأعظم ما كانت. فكانت الأموال تنتهب والقتل بين العامة يستمرّ في كل يوم حتى صار لا ينكر ولا يمكن حسمه، وظهر نقصان الهيبة وعجز السلطان.
وعطف بختيار على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين بمطالبة الأموال وإعطاء الرجال وإرضاء طبقات الجند وكان لا ينظر في دخل ولا خرج وإنّما يلزم وزيره تمشية الأمور من حيث لا يعينه ولا ينصره ولا يمنع أحدا من جنده شيئا يلتمسه ولا يقبض يده ولا لسانه عن كلّ ما يفسد حاله وشأنه ويحبّ أن تقضى أوقاته في الصيد والأكل والشرب والسماع واللهو واللعب بالنرد وتحريش الكلاب والديكة والقباج. فإذا وقفت أموره قبض على وزيره واستبدل به فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان.
فلمّا بلغ الأمر بوزيره أبي الفضل هذا المبلغ ولم تبق له حيلة في درهم يأخذه من وجهه عدل إلى طلب الأموال من الوجوه المذمومة التي تقبح الأحدوثة بها وتحرم ولا تحلّ في شيء من الأديان.
فبعث بختيار على مطالبة المطيع لله بمال يوهمه أنّه من وراء ثروة ومال وأنّه يحتاج إلى إخراجه في طريق الغزو وأنّ ذلك واجب على الإمام.
ذكر الرسائل والجوابات التي دارت بين المطيع وبين بختيار وما آل إليه أمر أبي الفضل من الهلاك
أجابه المطيع لله بانّ:
« الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي واليّ تدبير الأموال والرجال وأمّا الآن وليس لي منها إلّا القوت القاصر عن كفايتي وهي في أيديكم وأيدى أصحاب الأطراف فما يلزمني غزو ولا حجّ ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه وإنّما لكم مني هذا الاسم الذي يخطب به على منابركم تسكنون به رعاياكم. فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت عن هذا المقدار أيضا وتركتكم والأمر كلّه. » وتردّدت المخاطبات في ذلك والمراسلات حتى خرجت إلى طرف من أطراف الوعيد واضطر إلى التزام أربعمائة ألف درهم باع بها ثيابه وبعض أنقاض داره.
وشاع الخبر ببغداد بين الخاصّ والعام وعند من ورد من حاجّ خراسان وغيرهم من الواردين عن الأقطار:
« إنّ الخليفة صودر. » وكثرت الشناعات. وعوّل أبو الفضل الوزير فيما يحتاج إليه من مال الجند والإقامات التي تلزمه للأتباع والحاشية على مصادرات الرعية والتجار والتأويل عليهم بالمحال. وابتدأ بأهل الذمّة ثم ترقّى إلى أهل الملّة فأخذ أموال الشهود ووجوه البلد من أهل السّتر وبثّ السعاة والغمازين وسمّاهم العمال وأجرى عليهم الأرزاق وكثر الدعاء عليه في المساجد الجامعة وفي الكنائس والبيع وفي المحافل والمجالس وزادت العامة على ما ذكرت من حالها في الإغارة والإقدام على النهب والحرق وأسرفت في ذلك حتى بطلت الأسواق وانقطعت المعايش وتعذّر على أكثر الناس الوصول إلى ماء دجلة حتى شربوا ماء الآبار وحصلوا في شبه الحصار.
ورام الوزير أبو الفضل تسكينهم فتعذّر عليه حتى أركب إليهم طائفة من الجيش فواقعوهم وكسروهم ونقصت الهيبة أكثر مما كانت عليه وركب أبو الفضل بنفسه لقتال العيارين وواقعهم فلم يقدر عليهم.
وكان في حجابه رجل يعرف بصافى ذميم الأخلاق دنيّ النفس يتعصب لأهل السنة. فضرب محلة الكرخ وهي مجمع الشيعة ومعظم التجار بالنار فعظم الحريق وتلفت البضائع وصارت المضرّة على الرعية فيما دبّره سلطانها أعظم مما جناه سفهاؤها.
الوزير يصرف نقيب الطالبيين
وكان بين أبي أحمد الموسوي - وهو الحسين ابن موسى ويتولى نقابة الطالبيين - وبين أبي الفضل الوزير مناظرة فيما جرى على الشيعة فأظهر امتعاضا وخرج في المناظرة إلى المهاترة. فصرفه الوزير عن النقابة بأبي محمد بن الناصر وهو الحسن بن أحمد العلوي وحصل أبو أحمد الموسوي من أعداء أبي الفضل المكاشفين له المثربين عليه وحصل أبو الفضل فريدا لا ناصر له.
سبب عداوة سبكتكين للوزير أبي الفضل
أمّا سبكتكين فيطلب عنده ثأر أبي قرّة وفي نفسه عليه ما كان منه في استدعاء بختكين آزاذرويه من الأهواز إلى واسط ليقيم مقامه ويجعله ضدّا له، وشيء آخر كان عظيما عنده قبيحا وهو أنّ سبكتكين كان يختصّ غلاما تركيا من غلمانه، فغضب عليه وأمر ببيعه في السوق فنصب الوزير أبو الفضل من اشتراه له بضعف قيمته وتحظّاه ونزل عنده منزلة من كان في نفسه منه عشق ثم موّله وأعطاه شيئا كثيرا حتى صار أجلّ وأيسر من غلمان سبكتكين. فلحقت سبكتكين من ذلك غيرة شديدة وفسد عليه غلمانه الذين في داره بما وصل إليه هذا الغلام.
فهذه أسباب عداوة سبكتكين وقد حكينا عداوة الجرجرائي له، وعداوة أبي أحمد الموسوي النقيب له، ثم عداوة محمد بن بقية له. وكان ابن بقية قد ملك قيادة بختيار وكان سبب عداوته له أنّ أبا نصر المعروف بابن السراج - واسمه إبراهيم بن يوسف وهو من الأشرار المعروفين بالسعاية - قد جمع بالمكسب الخبيث مالا عظيما وأعتقد ضياعا جليلة فشعثها أبو الفضل تشعيثا يسيرا أخرجه به إلى عداوته والسعى على دمه وكان يجتمع مع المعروف بمحمد بن أحمد الجرجرائي كاتب شرمزن الذي قدمنا خبره وسبب عداوته لأبي الفضل، ويداخلان محمد بن بقية ويعرضانه للمكاسب الجليلة والفوائد العظيمة ولم يزالا به حتى غيّرا رأيه في الوزير أبي الفضل وأوهماه أنّه ساع عليه وأنّه لن يبعد أن يضمنه من بختيار بمال عظيم ثم تجاوزا ذلك إلى أن أشارا عليه بتقلّد الوزارة وأن يسبقه إلى القبض عليه والراحة منه.
ذكر السبب في تقلد ابن بقية الوزارة
لم يكن ابن بقية يستقلّ ولا يكمل لحمل دواة بين يدي وزير ولا يطمع في شيء من هذه المراتب ولكنه تقدم عند بختيار وقت خلافته لصاحب المطبخ في توفير وفّره، وخدمة في جملتها تمسخر. وكان مستخرجا عسوفا شديد القسوة جاهلا وفيه مع ذلك سماحة وسعة صدر وهو في هذه السيرة متشبه بأهل الشطارة والفتاك والدعار وليس يسلك طريقة أهل الكرم والرياسة ولما أشار عليه هذان بالدخول في الوزارة والقبض على أبي الفضل قبل أن يسبقه إلى ذلك، دهش وعلم أنّه يعجز عمّا أشارا به عليه.
ذكر كلام سديد لابن بقية في تلك الحال
إنّه أجابهما بأن قال:
« لا صناعة لي ولا توجّه فيما تدعوانى إليه ولى عند صاحبي منزلة كبيرة تحتاج الوزراء إليّ معها وأخاف أن أدخل فيما ليس من عملي واتهجّن ويقدح في منزلتي وأحطّ عنها من غير أن أنتفع بالوزارة. » فشجّعاه وجسّراه، وضمن له محمد بن أحمد الجرجرائي أن يخلفه ويكفيه العمل كله ثم صارا إلى سبكتكين الحاجب وذكراه بأفعال الوزير أبي الفضل وحملاه على الشروع في صرف أبي الفضل ونكبته فقال لهما:
« إني لم أزل معتقدا لذلك وإنّما كان توقفى عنه طلبا لمن يقوم مقامه ويسدّ مسدّه. إذ كان محمد بن العباس قريب العهد بالصرف ولم يكن مرضيّا في وزارته ولا ناهضا بها وقد حفظت على الأمير بختيار أيمان البيعة بأن لا يقلّده وزارته. » فخاطباه في تقليد ابن بقيّة وضمنا عنه أن ينهض ويغنى ويكفى وأنّهما يعضدانه ويشدّان منه في التدبير والنظر في الأمور. فاستروح سبكتكين إلى ذلك وجمع به التشفي من أبي الفضل وفساد أمر بختيار، وتجشّم احتمال الغضاضة في توفية محمد بن بقية حقوق الوزارة بعد أن لم يكن ممن يجوز أن يعدّه من أصاغر خدمه ولا يطمع في دخول داره وإنّما تجرّع ذلك وطابت به نفسه لعظيم ما كان في قلبه من أبي الفضل. فراسل بختيار في ذلك وقد كان بختيار ساء رأيه في أبي الفضل جدّا فاستجاب إليه.
وقد كان أبو سهل ديزويه العارض مرموقا بمال عظيم ولم يتمكن منه لمصاهرة كانت بينه وبين شيرزاد بن سرخاب. فلما نفى شيرزاد احتيج إليه في تسكين الجند مديدة فتدافعت نكبته. ثم إنّ أبا الفضل همّ في هذا الوقت بالقبض عليه فأحبّ ابن بقية أن يتولى أبو الفضل القبض عليه ثم يتسلمه هو ويستخرج أمواله.
فجرى الأمر على ذلك فقبض أبو الفضل على أبي سهل ديزويه في يوم الخميس وقبض ابن بقية على أبي الفضل يوم الأحد. فكان بينهما ثلاثة أيام واستتمّ القبض على جميع كتّابهما ومن يتصل بهما من أسبابهما وكان ذلك في سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة.
الصلح والمصاهرة بين عضد الدولة وبين منصور بن نوح صاحب خراسان
وفي سنة إحدى وستّين وثلاثمائة وقع الصلح بين عضد الدولة وبين أبي صالح منصور بن نوح صاحب خراسان ووقعت المصاهرة فتزوج منصور بن نوح بابنة عضد الدولة ونفذ في ذلك عابد بن علي مع عشرة أنفس مختارين من الأشراف والقضاة والشيوخ المذكورين وتكلّف صاحب خراسان مؤونة عظيمة للرسل والشيوخ وحمل هدايا كثيرة لم تحمل مثلها قطّ إلى عضد الدولة وكتب بينهما كتاب اتفاق بين الجهتين وكتب فيه شهود العراق الحاضرون وشهود خراسان خطوطهم.
ابن معز الدولة يلقب عمدة الدولة
وفي سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة خلع المطيع لله على أبي إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة وكنّاه ولقبه عمدة الدولة.
ذكر وقعة بين الدمستق وبين هبة الله بن ناصر الدولة
وفي هذه السنة جرت وقعة بين الدّمستق وبين هبة الله بن ناصر الدولة بناحية ميّافارقين وكانت عدة الدمستق عظيمة كثيفة لكنه اتفق أن لقيه في مضيق لا تجول فيه العساكر وكان الدمستق في أول عسكره على غير أهبة تامّة فانهزم الروم وأخذ الدمستق أسيرا وتمكن المسلمون منهم وأعزّ الله دينه وكثر القتل والأسر حتى أنفذ إلى بغداد الرءوس والأيدى وكانت كثيرة فشهرت وكانت هذه الوقعة في آخر يوم شهر رمضان سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة وحبس أبو تغلب الدمستق إلى أن جرح به جراح عظيم فبطّ وتأدت الحال به إلى الموت بعد أن كان أحسن ضيافته واجتهد في علاجه وقدّر أن يبلغ به من ملك الروم ما يريد.
وزارة محمد بن بقية
وفي هذه السنة خلع ثاني يوم قبضه على أبي الفضل وهو يوم الاثنين السابع من ذي الحجة سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة على محمد بن بقيّة وكان إلى هذا اليوم يقدم الطعام إليه ويحمل الغضائر بيده ويتشح بمناديل الغمر ويذوق الألوان عند تقديمه ايّاها على رسم من يخدم في المطبخ خدمته.
فلما وزر عاد يريد الخدمة في ذلك فنهاه بختيار.
وتعجّب الناس من وزارته. كان دنيّا لا يقع عينه إلّا على من كان فوقه ولا يرى نفسه إلّا دون كلّ أحد فازدادت دولة بختيار به سقوطا وإخلاقا وتضاحك صغار الناس به قربا وبعدا.
واستخلف حين وزر محمد بن أحمد الجرجرائي وناط الأمور به وبالمعروف بأبي نصر السرّاج واستقصى على أبي الفضل في المطالبة بالمال حتى تقرر أمره على مائة ألف دينار. فلمّا صحّ أكثرها سلّم إلى أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي الكوفي على أن يخرجه إلى الكوفة ويحبسه عنده فتسلّمه وعاش عنده مديدة وتلف فلم يشكّ أحد أنّه مات مسموما.
وقبل ذلك توفّيت زينة بنت أبي محمد المهلّبي - رحمه الله - وقد كان أخوها أبو الغنائم تقدمها وأكثر أهلها وانقرضت الجماعة ثم تبعهم جميع من اشترك في دم أبي الفضل قتلا من غير أن طال بهم الأعمار وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله.
ذكر ما دبر به ابن بقية أمره حتى تماسك مديدة
إنّه جدّ في مطالبة أبي الفضل وأسبابه من خلفائه وحجّابه وغلمانه وكل من انتسب إليه وإلى ديزويه العارض حتى استصفى أموالهم واتسع بما وصل إليه مديدة ومشت الأمور بين يديه فتبجّح بذلك وادعى حسن الأثر وتوصل إلى أن كنّاه المطيع ولقّبه الناصح فخلع عليه الخلع السلطانية بأمر بختيار وإذنه. وكثر ذمّه لأبي الفضل والطعن عليه وادّعى العدل والإنصاف فلم تمض إلّا أيام حتى ارتكب من الظلم والغشم وإثارة الفتن ما صارت أيام أبي الفضل بالقياس إلى أيّامه جارية مجرى أيام العمرين وكل ذلك لسوء نظر بختيار وإهماله الأمور وإقباله على الشهوات واستثقاله مباشرة التدبير حتى سقطت الهيبة وانبسطت العامة وأغار بعضها على بعض وظهرت الأهواء المختلفة والنيّات المتعادية وفشا القتل حتى كان لا يعدم في كل يوم عدة قتلى لا يعرف قاتلوهم وان عرفوا لم يتمكّن منهم فانقطعت مواد الأموال وخربت النواحي المتباعدة بخراب دار المملكة وظهر في كل قرية رئيس منها مستول عليها وتباغوا بينهم وحصل السلطان صفر اليد والرعية هالكون والدور خراب والأقوات معدومة والجند متهارجون.
ذكر تدبير دبره الترك وأكابر الحاشية والجند حتى سكن أمرهم مديدة ثم عادت الحال كأسوأ ما كانت
شرع ابن بقيّة في إصلاح ما بين بختيار وسبكتكين وتوسّطه الوجوه والأكابر فتردّدت المراسلات ووجوه الكتّاب والقوّاد وأخذ لكل واحد منهما على صاحبه يمين مؤكدة على التصافي والتآلف.
فلمّا تمّ الاتفاق بينهما ركب سبكتكين إلى بختيار مع جماعة من الأتراك فلقيه وسلّم عليه وانصرف، ولم يعد إليه ولا اجتمعا إلّا في الموكب وعلى سبيلهما الأولى في التحرز ونشأت بينهما ظنون سيئة وبلاغات منكرة ووجد الأعداء والمتسوقون طريقا سهلا في الشر فسلكوه فعادا إلى التنافر.
ذكر سبب قوي في عودهما إلى الحال الأولى من العداوة
اجتاز ديلمى من سقط الجند سكران في فناء دار سبكتكين الحاجب فيما يلي دجلة وهو نائم فرمى الديلمي أحد صوالجة الروشن بزوبين كان معه فأثبته فيه على سبيل العبث فظنّ سبكتكين أنّه مدسوس عليه ليرميه فتقدم بأخذه فأخذ وسئل واستقصى عليه فلم يكن لذلك الظنّ أصل فأمر بإنفاذه إلى بختيار وتعريفه ما كان منه فلمّا حصل بحضرته أمر بقتله فقتل، وتحرك الديلم وأنكروه واستشنعوا فعله وشغبوا وحملوا السلاح ولزموا موضع الشغب ثلاثة أيام ثم استعطفوا فرجعوا إلى منازلهم والقلوب نافرة.
ودخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة
خروج بختيار إلى الموصل
وفيها خرج بختيار إلى الموصل طمعا في تناول بعض ما في تلك الأعمال والاتّساع به وحرصا على التصيّد في طريقه.
شرح هذه الأسباب وذكرها على التفصيل
قد كان أبو الفضل قبل صرفه عن الوزارة الأخيرة أطمع بختيار في الموصل وقدّر أنّ خروجه إليها يشغله عن نفسه وقصده ويدفعه عن نكبته وليتغلّل بما يتناوله من تلك الأعمال غلّة وما لا يستعين بها في القضيم والأقوات. فلمّا تقلد محمد بن بقية الوزارة سلك هذه السبل في بعثه على الخروج، وحرص ابن بقية على الموصل.
ذكر سبب ذلك
وردت كتب أبي تغلب على ابن بقيّة مع عليّ بن عمرو كاتب أبي تغلب ووزيره بمخاطبة دون ما كانت تكاتب به الوزراء قبل ذلك لانحطاط منزلته في نفوس الناس وأبت نفس أبي تغلب أن يوفيه جميع ذلك الحق فاغتاظ ابن بقيّة من ذلك وذكر عليّ بن عمرو وصاحبه أبا تغلب بالقبيح وتوعّدهما بالمسير، فتلافاه بالمكاتبة المستوفاة فلم ينصرف ابن بقيّة عن عزيمته.
وأحب بختيار الخروج إلى الموصل للأمور التي ذكرناها وقد كان أبو المظفر حمدان وأبو طاهر إبراهيم ابنا ناصر الدولة حصلا ببغداد وطمع أبو تغلب في استصلاح أخيه إبراهيم ولم يطمع في حمدان لوكيد العداوة بينهما فكاتب إبراهيم وأرغبه ليقطعه عن مضامّة حمدان وصادف ذلك تقصيرا من بختيار.
ونظر إبراهيم فإذا أحوال أخوته الذين أقاموا مع أبي تغلب مستقيمة منتظمة وكاتبه: « يأتى صائر إليك » واستدعى منه نفرا من الفرسان والأعراب ليصحبوه فأنفذهم إلى قرب بغداد على سمت البرية فهرب إليهم وأخذ معه أخاه المسمى ذا القرنين وكان رهينة في يد معزّ الدولة ثم في يد بختيار وهرب من محبسه ليلا وخرج مع أخيه. فلمّا كان الصبح عرف بختيار الخبر فلم يكن له فيه حيلة وجعل ذلك سببا ظاهرا للخروج إلى الموصل والباطن ما تقدّم ذكره.
وكان حمدان ابن ناصر الدولة من أشد الناس بعثا له على الشخوص إلى تلك البلاد وطمعا في التشفّى من أبي تغلب. فاستحلفه بختيار بغموس الأيمان بعد هرب إبراهيم على الثبات معه والنصيحة له وتمّت العزيمة.
فخرج بختيار وسبكتكين الحاجب ومحمد بن بقيّة الوزير وذلك في شهر ربيع الأول من سنة ثلاث.
ذكر الحال في هذه الخرجة وما آل إليه الأمر
وقع التدبير على أن يخرج سبكتكين في الجانب الشرقي على المقدمة ويتلوه بختيار سائرا على أثره وبينهما مرحلة واحدة فإذا صاروا بإزاء تكريت عبر بختيار وسار في الجانب الغربي واستمرّ سبكتكين سائرا في الشرقي ففعلا ذلك وسبق بختيار إلى الموصل وقد رحل عنها أبو تغلب إلى سنجار بعسكره كلّه وأخلاها من كل ميرة وكل كاتب ومتصرّف، ثم توجه من سنجار إلى مدينة السلام وهو من الجانب الغربي.
وتأخر سبكتكين بالحديثة وأظهر التشاغل بعبور السفن فاتصل خبر أبي تغلب وخروجه إلى بغداد ببختيار فكتب إلى سبكتكين يرسم له العبور إلى الجانب الغربي والمسير في أثر أبي تغلب وأنفذ إليه شطر عسكره وحمدان بن ناصر الدولة وجمهور العسكر وأنفذ محمد ابن بقية في الطيارات والزبازب راجعا إلى بغداد بعد أن استخلف بحضرته محمد بن أحمد الجرجرائي.
فسبق أبو تغلب وانتهى إلى قرية تعرف بالفارسية على نهر الدجيل بينها وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ فعسكر بها وعامل من اجتاز به من أهل السواد بالجميل ولم يأخذ منهم شيئا إلّا بالثمن الوافر وأظهر العدل والإنصاف.
وصارت طلائعه ترد إلى بغداد وخرج إليه جماعة من عوامّ الناس وأوباشهم مستقبلين له مظهرين السرور بمقدمه وبرز أبو إسحاق ابن معز الدولة وكان يخلف أخاه بختيار إلى باب الشماسية وانتقل المطيع لله ووالدة بختيار وجماعة الحرم والأولاد إلى القصر الذي بناه معزّ الدولة بباب الشماسية على طريق التحصن وعقد أبو إسحاق جسرا في هذا الموضع على دجلة وعبر بطائفة من الجيش الذي كان معه وأظهر أنّه يريد الحرب والمدافعة من غير عزيمة صحيحة وإنّما أراد التماسك إلى أن يصل سبكتكين الحاجب.
فتعجّل وصول محمد بن بقية سابقا في آلات الماء فشد من أبي إسحاق وافتتن الجانب الغربي وعاد العوام إلى حمل السلاح والحرب وطلب الطوائل واستتر التجار وتعطلت الأسواق وعبر أهل النباهة من الغربي إلى الشرقي ونزل سبكتكين بأوانا بإزاء عكبرا.
فعدل أبو تغلب من موضعه راجعا إليه فنزل في قرية بينهما نحو نصف فرسخ وتصافّ العسكران ووقع الطراد بين سرعان الخيل وطوائف من الاعراب ثم تكافّا وجنحا إلى الصلح.
ذكر مكيدة جرت في هذه الحرب واجتماع من سبكتكين وأبي تغلب على بختيار وحيلة بينهما لم يتممها سبكتكين وضيع فرصته فيها
كانت الموافقة في السرّ تجرى بين أبي تغلب وسبكتكين على الموادعة واظهار الخلاف إلى أن يتمكّن سبكتكين من القبض على الخليفة ووالدة بختيار وحرمه ومحمد بن بقيّة وإظهار العصيان عند ذلك ثم يعود إلى بغداد ويعود أبو تغلب إلى الموصل قاصدا بختيار وهو في عدد قليل فيتمكن منه ويقلب دولته سريعا. ففكّر سبكتكين في سوء السمعة ولم يقدم على حرم مولاه وعلى الخليفة وخاف عاقبة ذلك.
وبادر محمد بن بقية من بغداد إلى سبكتكين فاجتمع معه وحضرهما رسل أبي تغلب وتقرر الصلح على المبلغ الاول وزيادة ألف كرّ من الحنطة في كل سنة وعلى أن يطلق أبو تغلب لبختيار ثلاثة آلاف كرّ حنطة عوضا عن مؤونة سفره.
وانكفأ أبو تغلب إلى الموصل قاصدا بختيار وهو في خفّ من عسكره فأيقن الناس أنّ أبا تغلب لم يقدم على القرب من سبكتكين إلّا على ثقة من أنّه لا يحاربه وأنّ ذاك الطراد الذي وقع بين أوائل العسكرين إنّما كان تمويها.
ودخل سبكتكين وجميع العسكر بغداد وأسلم بختيار وقامت القيامة على محمد بن بقية من ذلك وطالب سبكتكين بمعاودة المسير واللحاق بصاحبه بختيار فتثاقل عن ذلك واحتجّ بأنّ الرجال لا يستجيبون للعود ثم فكر في العواقب فانكفأ على مضض ورحل وقد ظهر للناس ما كان همّ به الا أنّه ما فعل ولو همّ وفعل لكانت فرصة عجيبة وكان لا يمتنع عليه شيء من التدبير الذي ذكرناه.
ثم جدّ سبكتكين وابن بقيّة وسائر الجند في المسير مصعدين وقد كان بختيار حين عرف خبر رجوع أبي تغلب إليه جمع إليه أطرافه وردّ قواده من النواحي التي كان فرّقهم فيها وخاف خوفا شديدا وعبّى مصافّه في الموضع المعروف بالدير الأعلى من ظاهر الموصل وقرب أبو تغلب ونزل أسفل الحصباء على حالة الأهبة والتعبئة ولم يبق بينهما في المسافة إلّا طول قصبة الموصل فقط وأحجم كل واحد عن صاحبه وعن المناجزة الّا أنّ أبا تغلب كان الأظهر لكثرة عدده وتعصّب أهل الموصل له.
وخاض الناس بينهما في حقن الدماء وتتميم الصلح الذي تقدم ذكره فاشتطّ أبو تغلب في الحكم والتمس النقصان والحطيطة وطالب بتسليم زوجته بنت بختيار إليه وأن يلقّب لقبا سلطانيا. فأجابه بختيار إلى ذلك كلّه تفاديا من اللقاء.
وجرى كلام في معنى حمدان وأن يفرج عن ضياعه وأملاكه بغلّاتها وعن القلعة المفردة له المسماة وهي قلعة ماردين. وكانت هذه القلعة مسماة لحمدان ومفردة له منذ أيام أبيه وقد رتّب أخاه من أمّه مع ثقات له فيها فاحتال أبو تغلب على هذا الأخ حتى رغب في مال يتعجله وخان أخاه وسلّمها.
فامتنع أبو تغلب من ذلك كله ولم يدخل في شرائط الصلح شيئا منه وكان غائبا عن هذا الأمر وحاصلا ببغداد مع سبكتكين الحاجب. فضعف بختيار عن الاستيفاء وكان غرضه المفالتة وان يفرج له أبو تغلب فخرج الى موضع يقال له: قرن الآئل، على خمسة فراسخ من معسكره في عرض الموصل بعد ان حلف كل واحد منهما لصاحبه يمينا أخذها عليهما أبو أحمد الموسوي وجماعة من السفراء وانحدر بختيار الى الحديثة وأهل الموصل يتبعونه باللعن والدعاء عليه ويتبعون أصحابه ويتوثبون عليهم. وذاك أن محمد بن أحمد الجرجرائي خليفة ابن بقيّة ظلمهم وعسفهم فكان انصراف بختيار عن هزيمة ظاهرة. فلمّا تحرّك من موضعه وانحدر دخل أبو تغلب الموصل وظفر بجماعة كانوا مالوا إلى بختيار من أصحابه وأهل الموصل فسمل عيونهم.
ووجد رجلا عقيليا يعرف بابن العجّاج كان استأمن من عسكره إلى بختيار ولم يخرج عن البلد تعويلا على ما جرى من الصلح فضرب رقبته.
ولما وصل سبكتكين ومحمد بن بقيّة وحمدان والجيش واجتمعوا مع بختيار اضطرب حمدان من خروجه عن الصلح وأنف محمد بن بقيّة من الحال التي انصرف عليها بختيار واتفقوا على أن يجعلوا ضرب رقبة هذا العقيلي وسمل العمال ووثوب أهل الموصل على حاشية بختيار وأتباعه عذرا في الرجوع وحجّة على أبي تغلب في الفسخ. فعطفت الجماعة بجميع العسكر إلى الموصل. فهرب أبو تغلب عنها الى ناحية يقال لها: تلّ أعفر، وردّ كاتبه المعروف بأبي الحسن علي بن عمرو بن ميمون برسالته إلى بختيار يعاتبه فيها على النقض وينسبه إلى الغدر فقبض محمد بن بقيّة عليه واعتقله وامتهنه واحتجّ عليه بما ذكرنا فجحد أن يكون ما جرى من القتل والسمل بأمر أبي تغلب وأحال فيه على بعض غلمانه.
ثم تقرّر الأمر بعد خطوب جرت على إتمام الصلح وقوّمت الغلة وردّت إلى الورق ووضع عنه ما استخرجه بختيار من الموصل وأعمالها ونجم الباقي على تعجيل وتأجيل وشرط الإفراج عن ضياع حمدان خاصّة دون قلعة ماردين ودون ما أخذ منها ومن ارتفاع الضياع وأن يسلّم القوم الذين قتلوا العقيلي وسملوا العمال لينفذ فيهم بختيار حكمه، فأنفذهم أبو تغلب اليه على ثقة بأنه لا يسيء إليهم لعلمهم جميعا أنهم مأمورون فعفا عنهم بختيار - وعلى أن يلقّب أبو تغلب ويزفّ إليه زوجته وجدّدت الأيمان والعهود على الفريقين وانصرف بختيار وتشاغل في طريقه بالتصيّد وكان وروده مدينة السلام لعشر خلون من رجب من هذه السنة وورد كاتب أبي تغلب فأنجز له بختيار المواعيد وسأل المطيع لله في تقليبه فلقّب عدّة الدولة، وأنفذ اليه خلع سلطانية ونقلت اليه زوجته ووقع البدار به ليصح المال.
وفي هذه السنة هلك محمّد بن أحمد الجرجرائي وتلف في المصادرة
ذكر السبب في ذلك
كان ابن بقيّة لا يبقى على أحد يتّهمه أو يسبق إلى قلبه منه شيء بل يعاجله قبل التأمّل ويقتله من غير تثبّت. وكان أهلك قوما من أهل الكفاية والكتابة بالظنّ والتهمة وأنهم سيصلحون لمكانه. ولما أفضت إليه الوزارة وكان المتولى للبصرة علي بن الحسين الشيرازي المعروف بأبي القاسم المشرف وكان يعاديه ويعتقد أنه ذو كفاية فأراد القبض عليه واستصفاء ماله وإتلافه فتدافع ذلك إلى أن عاد من الموصل فعمل على أن ينفذ محمد بن أحمد الجرجرائي في ذلك طلبا لإبعاده عن الحضرة ولأن حاله كانت تمهدت عند بختيار لتقدّمه على ابن بقية في الكتابة ولأنه عقد بينه وبين قهرمانة بختيار التي يقال لها: تحفة، فكانت تحامى عليه وتتعصب له وكان مع ذلك يتكلّم بالفارسية، وابن بقيّة لا يعرف منها شيأ، فتطاول بهذه الأشياء على ابن بقية واستهان ببعض ما كان يأمره به، ثم بلغه أنّه مهد لنفسه حالا عند بختيار أيام تفرّده بخدمته بالموصل.
فلما اجتمعت عليه هذه الأشياء أراد إبعاده عن الحضرة وإخراجه في القبض على علي بن الحسين والنظر فيما كان ينظر فيه. فلما خاطبه في ذلك نفر منه وأحس بتغيّر نيّته له واجتهد في أن يعفيه فلم يفعل فانحدر وقد نبا كلّ واحد منهما عن صاحبه. ولو صبر على أن يكون عامل البصرة لما خرج به ابن بقيّة إلى ما خرج ولكنّه لما رءاه يأبى إلا التشبّث بالحضرة والتمسك بما كان ناظرا فيه دون ما سواه اتهمه وازداد شكّا فيه.
وكان ابن بقية قدّم كتّابه إلى صاحب له ينوب عنه بالبصرة يقال له:
عبد العزيز بن محمد الكراعى، وهو من الأوغاد الأصاغر الذين ارتفعوا بارتفاعه وأمره يعرّفه نيّته في علي بن الحسين ويأمره بالقبض عليه. فانحدر الجرجرائي على أن يصادره وينصب مكانه ضامنا له أو عاملا غيره ويعود فلما استقر بالبصرة وافق علي بن الحسين على مال التزمه وأضافه إلى أصل ضمان البصرة وجدد إيقاع العهد عليه وردّه إلى عمله من غير استئذان لمحمد بن بقيّة وكتب إليه بأنّ الصواب أوجب ذلك عنده وأنه مصعد إلى الحضرة فاغتاظ من فعله ورآه بصورة من يستهين به ويؤثر المقام بالحضرة فكتب الى عبد العزيز بن محمد الكراعى بالقبض عليه وعلى عليّ بن الحسين ففعل ذلك.
فأما عليّ بن الحسين فإنّه قرّر أمره على بعض المقاربة وردّه إلى العمل بعد خطوب جرت فيه. وأمّا الجرجرائي فإنّه أخذ خطّه بمال ثقيل فصحّ له بالبصرة شيء يسير واشترط لنفسه أن يحمل إلى بغداد ليصحّ المال إذ كان وطنه بها وفيها نعمته وإنّما كان غرضه بالقهرمانة التي كانت تعزّه.
فسابقه محمد بن بقيّة إليها فاشتراه بخمسين ألف درهم منها فأسلمته وخلّت بينه وبينه. وكتب بحمله وتقدّم إلى عامله بواسط وهو محمد بن أحمد المكنى أبا غالب الصريفيني، بأن يتسلّمه حتى يصل إليه ويتولّى من أمره ما الله مسائله عنه. فتسلّمه أبو غالب ومكث في يده أياما وأظهر أنّه اعتلّ ومات وحساب الجماعة على الله الحكم العدل.
وفي هذه السنة بدأت فتنة الأتراك بالأهواز ثم عمّت جميع العراق
ذكر السبب في هذه الفتنة كيف نشأت
قد كانت الإضاقة في المال والتسحّب من الرجال زاد على بختيار حتى نبت به الديار وتعذّر عليه الاستقرار. فكان وزراؤه وكتّابه يحتالون له فلا يجدون طريقا لمصلحة ولا يتّجه لهم وجه الصواب. وكلما أمّلوا أملا خابوا، أو قصدوا عدوّا نكبوا ونكصوا. لأنّ الأبنية كانت توضع على أصول غير مستقرّة وقواعد غير قويّة فلا يبعد أن يتقوّض فيعتاص عليهم المذاهب.
فاعتقد بختيار ومحمد بن بقية عند منصرفهم من الموصل بالخيبة أن يخرجا الى الأهواز فيستقصيا على بختكين آزاذرويه ويصرفاه عن البلد ويعملا له أعمالا ويطالباه بمال ويمرّا عليه النكبة ثم يفرّقا الأتراك عن سبكتكين ويخفّفا عدد من يبقى منهم ببغداد ويحتالا عليه من البعد ليستريحا منه ويحصّلا أمواله واقطاعه ونعمته ويتّسعا بذلك.
فانحدرا إلى الأهواز في شعبان سنة ثلاث وستّين. فلما صارا بواسط أنفذ إليهما بختكين ثلاثمائة ألف درهم ثم نزلا الأهواز فحمل إليهما ما يحمل إلى الأصحاب وخدمهما وبذل من نفسه الطاعة في المحاسبة والموافقة. فلم تمض على ذلك أيام حتى ثارت فتنة بين الأتراك والديلم في سبب صغير قد كان يجوز أن يستدرك قبل أن يستفحل ويستصعب. فاغتنماه وجعلاه ذريعة إلى إتمام ما كانا همّا به، وأجرياه على تخليط وفساد من غير تحرّز ولا احتياط.
ذكر الخطأ الفاحش والتخليط الذي استعمل في التدبير حتى انعكس وعاد وبالا
إنّ بختيار خلف ببغداد والدته وإخوته وأولاده وحرمه وخزائنه وأكثر سلاحه وقطعة من خيله في قبضة سبكتكين عدوّه الذي هو في طريق التدبير عليه ومكاشفته بالعداوة. ثم أخذ يتطلّب عورة الأتراك الذين معه وينتهز الفرصة الضعيفة فيهم ليفسدهم على نفسه وينبّه سبكتكين على تدبيره عليه.
فكان مبدأ هذا الفساد أنّ غلاما من الأتراك نزل بسوق الأهواز دارا تجاور بعض الديلم وكان على بابها لبن مشرّج فأراد أن يبنى به معلفا لدوابّه. واحتاج ذلك الديلمي أيضا إلى شيء منه فوجّه غلامه ليأخذه فمنعه غلام التركي فلم يمتنع وخرجا إلى التنازع والتهاتر فخرج التركيّ من داره لينصر صاحبه ويمنع صاحب الديلمي. وخرج ايضا الديلميّ لنصرة غلامه فأربى على التركي واستطال عليه فركب في الوقت واستنهض الأتراك.
فثاروا بالديلم وتبادر الديلم وحملوا السلاح واجتمعوا على باب بختيار وبالباب ساحة واسعة قد ضرب فيها وجه من وجوه الأتراك مضاربه وذلك لعزة المنازل فأحاطوا به وهو سكران وسمع الصياح فنهض وركب وعمل على أن يلحق برفقائه فعارضه أحد الديلم وشتمه فثنّى عنانه إليه وهو بغير جبّة فرماه الديلمي فقتله فاستحكمت حينئذ الفتنة وطالبت الأتراك بثأر صاحبهم هذا ورموا الديلم بنشّاب كثير حتى قتلوا رجلا وجرحوا عدّة، وبرزوا بأسرهم عن البلد إلى الصحراء وتبعهم غلمانهم وأتباعهم وقعد عنهم القوّاد والأكابر في منازلهم على طريق التوقف عن الفتنة والتمسك بالطاعة.
واجتهد بختيار في تسكين النائرة فلم يمكنه ذلك بعد التهابها فاستدعى قوّاد الديلم وشاورهم وقد كانوا يعرفون اعتقاده في سبكتكين الحاجب والأتراك فقالوا:
« هذا أمر قد انتشر وفي نفك منه ما فيها والصواب أن تقبض على رؤساء الأتراك المقيمين وتستولى على هذه البلاد التي كانت في يد بختكين وتنهض إلى بغداد لتقلع عنها سبكتكين وتستريح منه ومن الأتراك. » وكانت عادة بختيار أن يسمع من كل مخاطب ويتحدّث مع كل كاذب.
فتسرّع إلى قبول ما رأوه ووجّه إلى بختكين آزاذرويه وسهل بن بشر كاتبه وسباشى الخوارزمي وبكتيجور وكان حما لسبكتكين الحاجب فأحضرهم من منازلهم وقبض عليهم وقيّدهم وأدخل يده في إقطاعات سبكتكين بالأهواز وصرف أسبابه عنها وكتب إلى البصرة بالنداء في الأتراك والإيقاع بهم فنودي فيهم ونهبت منازلهم وهربوا عنها.
ذكر حيلة احتالها بختيار فلم تتم له
كان بين بختيار وبين والدته اتفاق على أن تظهر عند بعده عن بغداد إلى الأهواز وخفّة الأتراك المقيمين بحضرة سبكتكين أنّ بختيار قد توفى ليصير سبكتكين إليه معزّيا ومشاركا في المصيبة ووافق أخاه أيضا على مثل ذلك، فإذا حضر أوقعا به وقبضا عليه. فكتب إليهما ساعة قبض على رؤساء الأتراك على الأطيار بالعمل على ذلك الاتفاق. فأشاعا ورود نعيه وظنّا أنّ سبكتكين لا يتأخر عنهما وكان أرزن وأرجح من أن يصير إليهما ولو صار إليهما لما حضر إلّا على نهاية الاستظهار. فإنّ غلمان داره المماليك أربعمائة سوى أتباعهم وسوى الديلم برسمه وسوى حجّابه ومن في جملتهم. وكان هذا الرأي من بختيار بعيدا من الصواب خليقا بالانتفاض. فاقتصر سبكتكين على مراسلتهم بالمسألة عن الخبر ومن أين صحّ، وتوقّف عن الركوب إلى أن وردت رسل أصحابه وكتبهم بشرح ما جرى على حقيقته.
فجمع حينئذ الأتراك المقيمين ببغداد وأعلمهم ما عومل به رفقاؤهم وأنّ الستر قد انخرق وانهتك وأنّ دماءهم قد أحلّت وأبيحت. فدعوه إلى أن يتأمّر عليهم ليطيعوه، فتوقف عن ذلك وراسل أبا إسحاق ابن معزّ الدولة يعلمه أنّ الحال بينه وبين بختيار أخيه منفرجة انفراجا لا التئام له وأنّ أكثر الجيش نافر عنه وأنّه ليس يستحسن أن يعدل عن طاعة مواليه وإنّ عقّوه وباينوه وأنّه يعقد الأمر له ويجمع الأتراك على متابعته وينقل الديلم عن بختيار إليه ويتكفل له بالأمر حتى يستقرّ عليه.
ذكر انتقاض هذا التدبير بعد استمراره حتى ثارت الفتنة العظمى
لما قبل أبو إسحاق ابن معزّ الدولة هذا الرأي ودخل تحته، علم أنّ بختيار إمّا أن يصير جالسا في بيته مزاح العلل فيما يحتاج إليه أو يصير إلى حضرة عمه ركن الدولة. فذهب إلى والدته وقصّ عليها القصة فمنعته من هذه الحال وأشفقت من أن يؤول إلى هلاك أحد ولديها. وصار إليها من كان مقيما بمدينة السلام من الديلم فأطمعوها في الاستقلال بمحاربة سبكتكين ومن معه من الأتراك، فجمعتهم إلى دارها بالسلاح وأصبح سبكتكين وقد نقض عليه إبراهيم ذلك الاتفاق.
فركب في يوم الجمعة لثمان خلون من ذي القعدة من سنة ثلث مع جميع الأتراك قاصدا الحرب وناصبا، لها فبقى يومين يحاربهم تباعا، فلمّا كان في الثالث أحرق جوانب الدار بعد أن حاصرها ونفد زاد من كان فيها واستسلم إبراهيم ووالدته وكذلك أبو طاهر ومن كان معه وسألوه أن يفرج لهم عن الطريق لينحدروا إلى واسط ولا يفضح حرم مولاه وأولاده فاستحيا وتذمّم فاجتمعوا جميعا في حديديّ وانحدروا وتفرّق الديلم هاربين في مرقعات إلى بختيار وأقامت منهم شرذمة في طاعة سبكتكين.
وكان المطيع لله أعدّ لنفسه حديديا استظهر به عند حدوث الفتنة فانحدر مع المنحدرين فأنفذ سبكتكين عدّة من الزبازب حتى ردّوه إلى داره ووكل به فيها توكيلا جميلا. واستولى على ما كان لبختيار بمدينة السلام من السلاح والدوابّ والآلات والمنازل فنزل الأتراك في دور الديلم وتتبعوا حرمهم وودائعهم وسائر أسبابهم.
وثارت العامّة من أهل السنة ناصرة لسبكتكين فقوّد من رؤسائهم القوّاد وعرّف العرفاء ونقّب النقباء وخلع عليهم وحملهم على الدواب واستصحبهم وبسطهم وصار له منهم جند.
خلافة الطائع لله
ذكر خلع المطيع وتسليم الأمر إلى ولده
كان المطيع لله بعقب علّة من الفالج يسترها وقد ثقل لسانه وتعذّرت الحركة عليه فانكشف حاله لسبكتكين فدعاه إلى تسليم الأمر إلى ولده الطائع لله ففعل وعهد إليه فبرئ من الخلافة وخلعها وأشهد على نفسه سنة ثلاث وستّين يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة.
ذكر اسباب الفتن الهائجة بين العامة حتى أدت إلى بوار بغداد
لما انبسطت العامة الذين ذكرنا حالهم مع سبكتكين وهم الفرقة المعروفة بالسنة استضاموا الشيعة وناصبوهم لحرب وتحزّب الفريقان وكانت عدة الشيعة قليلا فتحصّنوا في أرباض الكرخ من الجانب الغربي واتصلت الحروب حتى سفكت الدماء واستبيحت المحارم وأحرق الكرخ حريقا ثانيا بعد الحريق الأول في وزارة أبي الفضل.
فافتقر التجار وغلبهم العيارون على أموالهم وبضائعهم وحرمهم ومنازلهم واحتاجوا أن يتخفّروا منهم وأى فريق كان الخفارة له قصد الفريق الآخر.
وانتثر النظام وانخزل السلطان وصارت العصبية بين هذين الصنفين في أمر الدين والدنيا بعد أن كانت في أمر الدين خاصة وذلك أنّ الشيعة ثاروا بشعار بختيار والديلم وأهل السنة ثاروا بشعار سبكتكين والأتراك.
شرح الحال فيما تأدى إليه أمر بختيار بالأهواز وما دبر به أمره
أدخل يده في إقطاعات جماعة الأتراك وظفر بذخيرة كانت لبختكين آزاذرويه بجنديسابور واجتمع الأتراك المشغّبون بسواد الأهواز ثم صار بعضهم الى سبكتكين وتلافى بختيار بعضهم.
ذكر السبب في ضرورة بختيار إلى استصلاح الأتراك بعد استفسادهم
استوحش غلمان دار بختيار منه واضطربوا عليه وقصده الأتراك الذين هربوا من البصرة وعاتبوه على ما ارتكب منهم من غير ذنب وقال له الديلم:
« إنّه لا بدّ لنا في الحرب من فرسان وأتراك. » فاضطرب بختيار في الرأي وترجح فيه ثم قرّره على أن أطلق بختيار آزاذرويه وجعله في موضع سبكتكين وسمّاه حاجب الحجاب وقدّر أنّ الأتراك يأنسون به ويعدلون عن سبكتكين إليه وكتب إلى البصرة بإيقاع النداء بأنهم آمنون وألّا يعرض لهم وان يردّ ما أخذ منهم، وأطلق سباشى الخوارزمي وأقرّ بكتيجور على حمله الاعتقال لمصاهرته سبكتكين. وبلغه خبر والدته واخوته وعياله في انحدارهم إلى واسط فسار إليها.
وكتب إلى الحضرتين بفارس والريّ يشكو ما نزل به ويسئل أن يكشف عنه وتابع المكاتبات وزاد في تأكيدها بحسب تزايد الفتنة وكتب إلى أبي تغلب ابن حمدان فسأله إنجاده بنفسه وعسكره وعمل على أن يعتصم بعمران بن شاهين فانفذ إليه خلعا وفرسا بمركب ذهب وتوقيعا بإسقاط ما بقي عليه من مال الصلح الذي كان صالحه عليه وخطب إليه احدى بناته وسأله أن ينفذ إليه عسكرا في الماء يستعين به على حرب الأتراك وترسّل إليه في ذلك حاجب له يعرف بإبراهيم بن إسماعيل. فلما أدّى اليه الرسالة قال له:
« يا هذا قد جئتنا في أمور غير متوجهة عندنا ولا لائقة بأحوالنا. »
جواب عمران بن شاهين عن رسالته وإتباعه إياه بكلام وافق قدرا فجرى كما قال وقدر
« أما هذا الدين المتروك فالتحمد علينا به مع علمنا بأنّه ساقط باطل لا يحسن لكنّا نقبل ذلك.
« وأما الوصلة فأنا رجل لا أواصل أحدا من خلق الله إلّا أن يكون الذكر من عندي والأنثى من عنده وقد خطب إليّ الطالبيون مع أنّهم موال فما أجبت أحدا منهم الى ذلك لأنّ نفسي لا تسمح له وهؤلاء أولاد أخي هم أكفاء بناتي ما واصلت أحدا منهم ولكن إن شاء أن نتصاهر على السبيل الأخرى فعلت.
« وأما الخلعة والفرس فلست ممن يلبس لباسكم ولا أركب الخيل لأنّ دوابّي هذه السفن لكن أبا محمد ابني يقبل ذلك ولا يردّه.
« وأما عسكري وإنفاذه فليس تسكن رجالي الى مخالطتكم لكثرة من قتلوا من رجالكم على مرّ السنين والوقائع. » ثم قال للرسول:
« قل له: ينبغي أن تتوقّر وتترزّن ولا تستعمل هذه الخفة والنزق فقد قصدتني محاربا لي فرجعت عنى منهزما وقصدت الأهواز فرجعت منهزما على هذه الحال والصورة من الفتنة وأنا أعلم أنّ أمرك سيتأدّى الى أن تجيئني وتلوذ بي وتحصل عندي وسأذكّرك هذا وتعلم حينئذ أنّى أعاملك بالجميل وبخلاف ما عاملتنى به أنت وأبوك قبلك. » فتعجّب الناس من موافقة كلام عمران هذا المقدور الكائن فإنّ الحال ببختيار آلت إلى المصير اليه والحصول عنده مستجيرا به ومستذمّا على ما سنذكره إن شاء الله.
جواب ركن الدولة عن رسالته إليه
فأمّا ركن الدولة فإنّه أجاب بجواب صدر عن نيّة صحيحة وشفقة عليه وهو أن قال:
« إنّ الفتق الذي انفتق عليه عظيم يحتاج إلى رجال ومال وسلاح وتدبير وهيبة وطاعة وإنّه قد شاخ وثقلت عليه الحركة وإنّه بإزاء أشغال عائقة وأمور قاطعة ولكنه قد عول في هذه الحال على ابنه عضد الدولة إذ كانت تلك الأدوات التي عددتها مجتمعة له وحاصلة عنده وإنّه سائر من فارس إليه مع جيش كثيف ويخرج إلى نصرته من عنده الوزير أبو الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد.
وإنّما بنى ركن الدولة هذه الرسالة على ما كان يكاتبه به ابنه عضد الدولة فإنّه كان يعرف أخبار العراق يوما يوما ويطمع أن يملكها لما يرى من سوء تدبير بختيار لها ولاضطراب الأمور هناك بسوء تأتّى الوزراء وسقوط الهيبة وانتشار الحيل وفساد الرعية وكان مع ذلك فاسد الرأي في بختيار مضطغنا أشياء كان تقدّم بينهما من مناقشة جرت في وقت ومنافسة في مرتبة ومنع مما كان يلتمسه عضد الدولة منه خاصة من دفاتر عزيزة وكان يضنّ بها بختيار وجوار صوانع محسنات كان لا يسمح بها ومن خيل عراب كان يمنع من شرائها له ويحبّ أن يستبدّ بها من البادية وكانت هذه الأشياء مجتمعة في نفس عضد الدولة فهو يحبّ أن تستحكم الفتن ويستشرى البلاء حتى يزول أمر بختيار ثم يقصد بنفسه وخيله وأمواله ويدبّر أمر تلك الممالك لنفسه ويضمّها إلى ممالكه.
فراسل أباه ركن الدولة: « بأنّك قد كبرت عن لقاء الحروب ولا مال عندك. وعندي منه كيت وكيت في القلاع والخزائن ». وعظّم عليه ما جمعه.
ولعمري لقد كانت عظيمة وكانت له مع ذلك هيبة في أصحابه وتدابير مصيبة ولكنه أحبّ أن يبذلها في خاصة نفسه لا في معاونة ابن عمه الذي يتصوره بصورة التخلّف وتضييع الأمور وإهمالها وتفويض الوزارة وتدابير المملكة إلى من لا يرجع منه إلى رؤيّة صادقة ولا تدبير صائب ولا صناعة قوية ولا ذكر بين الناس جميل وهو مع ذلك يظهر له المنافسة ويمنعه من مطالبه ويغضّ من أقدار أصحابه الواردين عليه في مهمّاته.
وكان يكاتب أباه ركن الدولة بمثل ذلك الظاهر الجميل الذي يجمع الشفقة عليه والمحاماة عنه وتفديته بنفسه ورجاله في نصرة ابن أخيه الذي هو ابن عمه وباطن رأيه إنّ ذلك الأمر سيضطرب اضطرابا لا تبقى معه بقية إلا باستصلاحه لنفسه دون غيره.
جواب عضد الدولة عن رسالته إليه
قد كان حبس أباه ركن الدولة عن الحركة بنفسه وأطمعه في النيابة عنه وكفايته هذا الشغل فأجاب بختيار يشير عليه بأن يقف حيث انتهى وإلّا يزيد الأمر فسادا ولا يبرح من واسط حتى يلحقه ويدبّر نواحيه وأقبل يماطله بالمسير وزحف إليه الأتراك ومن انحاز إليهم من سائر أنواع الجند فحوصر وبلغ منه كل جهد.
ولعمري لقد صبر لهم وطاولهم ولكن مصابرة من يحتشمه عدوّه ويبقى عليه وذلك أنّه لما اشتدّ به الحصار وكان نازلا بين النخيل لا مجال لخيل الأتراك فيه وأصحابه ديلم ورجاله يستندون إلى النخيل ويراوغون فيه ولا يخلو في خلال ذلك من مواقف يصل إليه فيها التركي المداخل المصالت فإذا علم أنّه قد تمكن منه عدوّه يذكّره بالله وبالنعمة وأنّه صنيعته وصنيعة أبيه ويخاطبه بما يرقّ له القلب وتستحي منه العين فينصرف عنه التركي بعد التمكن منه ويحبّ أن يجرى قتله على يد غيره.
فلم تزل هذه حاله من الصبر على الجوع والعرى ونفاد السلاح والخوف من إقدام من لا يقبله ولا يحتشمه عليه ويكاتب عمه وابن عمه، وعضد الدولة يتوقف ويعده بالمسير مدافعة المماطل المنتظر به الهلاك وركن الدولة يضجّ من ذلك ويبعث ابنه ويستبطئه إلى أن لم يجد عضد الدولة من المسير بدّا، فسار من فارس وسار أبو الفتح ابن العميد من الريّ وكانت عدّة أبي الفتح الوزير التي استصحبها يسيرة بالإضافة إلى ما استظهر به عضد الدولة كثرة وقوة ومددا وذلك أنّه بالغ جدّا ولم تبق بقية في الاحتشاد ولم تكن صورته في ذلك صورة من ينصر ابن عمه على طريق المعاونة والإنجاد ثم الانصراف، بل صورة من يجاهد ويدافع ويقيم بعد الظفر.
ولم تخف على الناس هذه الحال منه لكثرة ما استصحبه من آلات خيم المقيم التي يريد أن يستقرّ بها ويتمكن في كل بلد بالآلات المعدّة لها من الفرش الكثير والزينة التامّة التي لا يستعملها المتوجّه الى معاونة المنصرف بعد الفراغ من نصرة من توجه لنصرته.
جواب أبي تغلب
فأمّا جواب أبي تغلب ابن حمدان عن رسالته فإنّه أجاب بالمسارعة والإنعام وأنفذ أخاه أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة إلى تكريت في جمع من جيشه فأقام بها مدة طويلة انتظارا بما يكون من انحدار الأتراك عن بغداد إلى محاربة بختيار فيردّها. ولمّا تمادى الأمر وانحدر بعد ذلك سبكتكين كما سنحكيه، سار أبو تغلب بجميع جيشه إلى مدينة السلام ليوجب على بختيار الحجة فيما بذل له خطّه من إبطال ما تقرر بالموصل وعمل ببغداد ما سنصفه إن شاء الله.
ذكر الرسائل التي ترددت بين سبكتكين وبختيار
كان حمدان بن ناصر الدولة ببغداد عند حدوث هذه الفتنة. فدعاه سبكتكين إلى طاعته فأجابه وأخذ عليه العهود والمواثيق بالنصيحة والموالاة وإنّما سكن إليه للعداوة التي بينه وبين أبي تغلب ولأنّ أبا تغلب حافظ على مودة بختيار وواصله ونصره وظاهره فأنفذه سبكتكين على مقدمته.
فلمّا توفى سبكتكين كتب إليه ألفتكين يعرفه وفاته وانتصابه في موضعه ويستدعيه إليه ليستأنفا إيقاع التدبير ويتفقا على المسير.
فاعتقد حمدان حين وقف على هذا الكتاب أنّ أمر الأتراك قد اختلّ نظامه بوفاة سبكتكين وعزم على المصير إلى بختيار وكان عرف أيضا مسير عضد الدولة وخيول ركن الدولة. فأنفذ كتاب ألفتكين الوارد عليه إلى بختيار وأعلمه أنّه سيعود إلى ألفتكين ثم ينحدر إليه واشترط شروطا واقترح اقتراحات. فورد ذلك على بختيار وقد عبر إلى الجانب الغربي ولمّا اجتمع حمدان مع ألفتكين ردّه على مقدّمته كما كان في أيام سبكتكين.
فوافى بمن معه من غلمانه وأسبابه وعبر مستأمنا إلى بختيار فتلقّاه وأكرمه وحمل إليه مالا كثيرا وثيابا فاخرة وعدّة وافرة من الخيل والمراكب والبغال والجمال. وضعفت نفوس الأتراك فتوقفوا يوما ثم زحفوا بأسرهم ونزلوا على دون الفرسخ من واسط وعبروا على جسرهم وتقدموا إلى مصاف بختيار فكانوا يواقعونه بنوائب واتصل ذلك نحو خمسين يوما.
وتجاسر العوامّ من الجانبين على استعمال المشاتمة الفاحشة والمسابّة المقذعة. واتفق على حمدان أنّه حمل على الأتراك في بعض هذه الأيام فرموه ووقع بعض سهامهم في سماخ فرسه فرمى به ونهض ليركب غيره وعليه الحديد فلم يتمكن من ذلك وعرفه الأتراك فأكبوا عليه بالدبابيس حتى أثخنوه وكاد يتلف. ثم أخذوه أسيرا لا فضل فيه فعولج وبرأ إلّا أنّه لحقه عرج ظاهر من وركه الأيمن وبقي على ذلك بقية عمره ثم من عليه ألفتكين وأطلقه وأخذ منه رهينة وأعاده إلى حاله فشهد معه الحرب يوم ديالى إلى أن انهزم الأتراك وانحاز إلى عضد الدولة.
ولم تزل الحرب بين الديلم والأتراك متصلة بواسط والاستظهار للاتراك وأشرف الديلم على الانكسار والهرب دفعات وقتل من الديلم خلق كثير لنقصان جننهم واستظهار الأتراك عليهم بالاسلحة واشتد على بختيار الحصار وأحدق به وصار في مثل كفّة الحابل وأحاط به الأتراك من كل وجه وكانت صورته كما ذكرت فيما تقدم.
واتصلت كتبه إلى أبي تغلب يسأله الانحدار، وإلى عضد الدولة يسأله اللحاق ويعلمه أنّ مملكته قد خرجت من يده وأنّه أحق بها ممن غلب عليها حتى إنّه كتب إليه في بعض كتبه البيت الذي كتب به عثمان إلى أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق فأمّا أبو تغلب فسار بجميع عسكره بعد أن كان قدّم أخاه الحسين كما كتبنا خبره فيما تقدّم، وصار إلى مدينة السلام فألفاها مفتتنة بالعيارين فقمعهم وقتل جماعة منهم وحمل من بغداد إلى الموصل أشياء كثيرة ظفر بها من آلات فاخرة وأنقاض جليلة وذخائر وودائع.
وأمّا عضد الدولة فإنّه سار بعد ما ذكرته من التوقف والإبطاء، واجتمع مع أبي الفتح ابن العميد بالأهواز.
ذكر السبب في رجوع ألفتكين إلى بغداد وهرب أبي تغلب عنها إلى الموصل
لما سمع ألفتكين بخبر عضد الدولة وحصوله بالأهواز نخب قلبه ورأى أن يحصل ببغداد ويجعلها وراء ظهره وتكون حربه على ديالى.
قال صاحب هذا الكتاب:
كنت في جملة السائرين من الريّ في صحبة أبي الفتح ابن العميد وما كان إشفاقنا ولا حذرنا كلّه إلّا من سبق الأتراك إيانا إلى أسفل واسط إلى الموضع المعروف بباذبين وأن يجعلوا النهر وراءهم مع المدينة والميرة وأن يتركونا حتى نقطع إليهم مفازة بنج وبنج ونلقاهم على إعياء وكلال وليس وراءنا عمارة ولا نجد ما ننزل عليه فإن طاولونا أياما كان الهلاك وإن ناجزونا حين ورودنا كانوا جامّين مستريحين ونحن على حال تعب وضعف وكنّا من كثرة العدد على ما وصفت فيما تقدم.
فلم يوفّق الأتراك لذلك وانصرفوا إلى بغداد ورأوا من الصواب لهم أن يملكوا بغداد ويجعلوها وراء ظهورهم وتكون حربهم على ديالى فكانت الخيرة لنا فيه ودخلنا واسطا بغير مانع. وقد كان بختيار وأخواه ومحمد بن بقيّة تلقّوا عضد الدولة لما انصرف الأتراك عنهم وترجّلوا له وأعظموه كما يستحق وسار عضد الدولة في الجانب الشرقي وتقدم إلى بختيار أن يسير بإزائه من الغربي ممتدين إلى بغداد.
فأمّا ألفتكين فإنّه لما توسط في مسيره إلى بغداد أنفذ سرية في أربعمائة غلام من الأتراك لكبس أبي تغلب فأرهقوه وشغب مع ذلك جنده عليه فهرب إلى الموصل هربا قبيحا وتقطع عسكره. وحصل ألفتكين ببغداد في حصار شديد قد أحدقت به الخيول من كل وجه وذاك أن بختيار كاتب ضبّة بن محمد الأسدي وهو رجل من أهل عين التمر كثير العشائر وقد جرت عادته بالتبسط بأن يشنّ الغارات على أطراف بغداد ويمنع من جلب الميرة إليها ففعل ووجد الطريق إلى بغيته فنهب السواد وقطع السبل.
ثم أنفذ في الجانب الشرقي ابن أخ لمحمد بن بقية وزيره يعرف بأبي الحمراء وهو لقب غلب عليه، مع طائفة من بنى شيبان ليتطرف بغداد ويحاصرها من ذلك الوجه وكانت خيول عضد الدولة والريّ وبختيار متوجهين إليه سائرين لحروبه وكان أبو تغلب من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ إليه سراياه ورجاله. فاشتد الحصار به وعزّت الميرة وانحسمت موادّها وثارت الرعية فنهبت الموجود في المدينة وامتنع الناس بالفتنة أن يتسوقوا أو يتعيشوا وأعيت ألفتكين الحيلة في التماس ما يحتاج إليه وصار يتتبع المواطن التي يظن فيها قوتا أو بذرا أو عدة يتناول ذلك حتى انتهى به الأمر إلى أن ركب بنفسه إلى منزل بعض الأشراف فكبسه وأخذ ما فيه.
وسار عضد الدولة كما حكينا في الجانب الشرقي وبختيار بازائه في الغربي فلما صار بدير العاقول عبّى عسكره تعبئة اللقاء وجعل موكب خاصته في القلب وفي ميمنته أبا الفتح ابن العميد وجيش الري وفي ميسرته أبا إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة ومحمد بن بقية وطائفة من عسكر بختيار ونزل المدائن على هذه الحالة من الترتيب. وورد خبر الفتكين بأنه برز إلى ديالى ونزل عليه مستعدا للحرب وعقد عليه جسورا ليعبر عليها واعتقد أن يلقى العساكر في فضاء بين ديالى والمدائن وظن أنّه يتمكن بالجولان فيه مما يريده وذلك في سنة أربع وستين وثلاثمائة.
وعبر ألفتكين تلك الجسور ولم يقع في الظن أنّه يعبر ديالى ولا أنّه يترك التحصن به والقتال من ورائه فسار عضد الدولة على تعبئة وهيئة حتى انتهى إلى قرية هناك وتراءت مواكب ألفتكين وقد عبّاها كراديس واعترض نهر صغير في هذه القرية فوقع التشاغل به إلى أن عبرته العساكر وصاروا مع تلك الكراديس في أرض واحدة.
ذكر عجلة وقعت وحرص ظهر من جيش بختيار الذين كانوا في ميسرة عضد الدولة فكانوا يكسرون العسكر
تقدم الجيش البختيارى المرتب في الميسرة مع أبي إسحاق وابن بقية زحفا بغير أمر وفارق المصافّ وخرج عن النظام حرصا على إظهار فضل وغناء، وتشوّقا إلى اللقاء فراسلهم عضد الدولة ونهاهم فلم ينتهوا على ما اعتادوه من الاستبداد حتى لحّجوا واستجرّهم الأتراك حتى صاروا بالبعد من العسكر فعطف الأتراك عليهم وقتلوا خلقا منهم وتابعوا الحملات عليهم وأكثروا النكاية فيهم فحينئذ عرفوا الخطأ الذي ركبوه وأنفذ عضد الدولة طائفة من الرجال إليهم فلم يغنوا عنهم وحصلوا في مثل حالهم.
فلمّا رأى ذلك زحف على نظامه وهيأته حتى اتصلوا بهم بعد أن أشرفوا على الهلاك. فلمّا قرب من جمرة القوم ومجتمعهم حمل عليهم فلم يثبتوا واستأمن بعضهم وحكم السيف في الباقي فقتل خلق منهم وألجأتهم الهزيمة إلى تلك الجسور التي عقدوها على ديالى فازدحموا عليها وأرهقهم الأمر فهلك منهم ومن العيّارين الذين وازروهم بالقتل والغرق خلق كثير وركب عسكر عضد الدولة أكتافهم وعبروا تلك الجسور على آثارهم فاستباحوا عسكرهم وسوادهم وألقوا النار في خيمهم وخركاهاتهم وأدركهم الليل فبات هؤلاء وهرب أولئك لا يلوى أحدهم على صاحبه.
وأنفذ عضد الدولة في ساعة الفتح بشيرا إلى بختيار وذلك يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى سنة أربع وستّين وثلاثمائة وأقام على ظاهر المدينة إلى أن عرف خبر الأتراك ثم دخل المدينة في أحسن زيّ وعدّة وطواه متجاوزا إلى باب الشماسية وبختيار يسير بإزائه ويعسكر بحياله وأقام بموضعه إلى أن بعد الأتراك وورد عليه خبرهم من تكريت وأنّهم وصلوا إليها على حال قبيحة من التقطع والتمزق واختلاف الكلمة فحينئذ انثنى الى النزول في داره. واشتغل قلبه بالطائع لله وحصوله مع الأتراك وتصرّفه على ما يحبون والتنقل معهم فبث إليه رسله وقد كان راسله قبل ذلك ولم يزل معه بالتلطف والرفق حتى ردّه إلى دار الخلافة ومواطن الائمة.
ذكر ما جرى بين بختيار وبين جيشه وما كان من اعتزاله إياهم وما كان من إنكار ركن الدولة لذلك وما تمّ من الحيلة عليه من انتقاضه وعوده إلى منزلته وحالته
لما تمّ هذا الفتح لعضد الدولة لم يشكّ أحد ممن دنا وبعد في أنّه يستولى على هذه المملكة ويضيفها الى مملكته لضعف بختيار عنها واشتغاله بضروب اللهو واللعب وتجاسر الديلم والأتراك عليه. ففكّر في حديث الناس وعلم أنّ أباه ركن الدولة لا يصبر على ذلك ولا يحتمله له. فاتخذ دعوة دعا إليها بختيار وإخوته ومحمد بن بقية وسائر عسكر بغداد وخلع عليهم ضروب الخلع على مقدار مراتبهم وجعل ذلك كالوداع وأظهر الرحيل إلى فارس وأمر بإعداد الميرة في المنازل.
ووافق في السر رؤساء الجند أن يثوروا ببختيار ويشغبوا عليه ويطالبوه بأن يطلق أموالهم ويغير أحوالهم ويحسن مجازاتهم عن صبرهم عليه وثباتهم معه وبذلهم الأنفس في محاربة الأتراك دونه. ففعلوا ذلك وبالغوا في الشغب والاقتراحات وبختيار صفر اليد لا يملك ذخيرة ولا تصل يده مع خراب النواحي واتصال الفتن إلى درهم واحد.
فراسله عضد الدولة سرّا وواقفه على مقابلتهم بالتشدد والغلظة والصدق عن الحال وانّه لا يعدهم بما لا يقدر عليه وأن يفصح لهم بالاستعفاء عن الرئاسة وأنّه قد برئ إليهم منها ووعده أن يتوسط حينئذ بينهم ويقرره على ما يحب.
فلم يجد بختيار عدولا عن ذلك ولا عرف وجه حيلة سوى ما أشار به عليه فبادر إليه واستعفاهم من رئاسته وأغلق أبوابه وصرف كتّابه وأسبابه وراسله في الظاهر بمقاربة القوم وتدبيرهم فأجابه: بأنّى لست أميرا عليهم ولا معاملة بيني وبينهم فلينظروا لأنفسهم وليعقدوا لمن شاءوا.
واتصلت هذه الرسائل ثلاثة أيام والشغب يزيد إلى أن أعلنوا بالقبيح وكادوا يزحفون إليه ويأتون عليه فاستعاذ بعضد الدولة وطلب منه ما كان وعده به من التوسط فراسلهم عضد الدولة بما سكن منهم وأمرهم بالتفرق ووعدهم بالنظر في أمرهم.
ثم استدعى بختيار إلى داره وقد كان خائفا مرعوبا واستدعى أخويه على طريق الإشفاق عليهم والحذر من أن ينصبوا أحدهما علما للفتنة فيفتحوا به بابا إلى الفرقة وراسلهما بختيار أيضا بمثل ذلك حتى حضرا جميعا.
ثم جمع الرجال وجماعة الجند وأعلمهم أنّ استيفاء بختيار من النظر واعتزاله إيّاهم وافق محبة منه للنظر في أمورهم وضمهم إلى نفسه وأنّه يخلطهم بعسكره ويشملهم بإحسانه وأنّه المتولى للأمر وأنّ بختيار إنّما كان خليفة له ولركن الدولة وأنّه الآن قد استعفى فاعفى وبرئ فأبرى. فسكنوا وتفرقوا ووثقوا بوفائه وأنّه من وراء ذلك. وأمر باستظهار على بختيار وأخويه ووكل بهم ثقاته وذلك يوم الجمعة لأربع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وستّين وثلاثمائة وجمع بينهم وبين الوالدة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)