كان حمدان بن ناصر الدولة ببغداد عند حدوث هذه الفتنة. فدعاه سبكتكين إلى طاعته فأجابه وأخذ عليه العهود والمواثيق بالنصيحة والموالاة وإنّما سكن إليه للعداوة التي بينه وبين أبي تغلب ولأنّ أبا تغلب حافظ على مودة بختيار وواصله ونصره وظاهره فأنفذه سبكتكين على مقدمته.
فلمّا توفى سبكتكين كتب إليه ألفتكين يعرفه وفاته وانتصابه في موضعه ويستدعيه إليه ليستأنفا إيقاع التدبير ويتفقا على المسير.
فاعتقد حمدان حين وقف على هذا الكتاب أنّ أمر الأتراك قد اختلّ نظامه بوفاة سبكتكين وعزم على المصير إلى بختيار وكان عرف أيضا مسير عضد الدولة وخيول ركن الدولة. فأنفذ كتاب ألفتكين الوارد عليه إلى بختيار وأعلمه أنّه سيعود إلى ألفتكين ثم ينحدر إليه واشترط شروطا واقترح اقتراحات. فورد ذلك على بختيار وقد عبر إلى الجانب الغربي ولمّا اجتمع حمدان مع ألفتكين ردّه على مقدّمته كما كان في أيام سبكتكين.
فوافى بمن معه من غلمانه وأسبابه وعبر مستأمنا إلى بختيار فتلقّاه وأكرمه وحمل إليه مالا كثيرا وثيابا فاخرة وعدّة وافرة من الخيل والمراكب والبغال والجمال. وضعفت نفوس الأتراك فتوقفوا يوما ثم زحفوا بأسرهم ونزلوا على دون الفرسخ من واسط وعبروا على جسرهم وتقدموا إلى مصاف بختيار فكانوا يواقعونه بنوائب واتصل ذلك نحو خمسين يوما.
وتجاسر العوامّ من الجانبين على استعمال المشاتمة الفاحشة والمسابّة المقذعة. واتفق على حمدان أنّه حمل على الأتراك في بعض هذه الأيام فرموه ووقع بعض سهامهم في سماخ فرسه فرمى به ونهض ليركب غيره وعليه الحديد فلم يتمكن من ذلك وعرفه الأتراك فأكبوا عليه بالدبابيس حتى أثخنوه وكاد يتلف. ثم أخذوه أسيرا لا فضل فيه فعولج وبرأ إلّا أنّه لحقه عرج ظاهر من وركه الأيمن وبقي على ذلك بقية عمره ثم من عليه ألفتكين وأطلقه وأخذ منه رهينة وأعاده إلى حاله فشهد معه الحرب يوم ديالى إلى أن انهزم الأتراك وانحاز إلى عضد الدولة.
ولم تزل الحرب بين الديلم والأتراك متصلة بواسط والاستظهار للاتراك وأشرف الديلم على الانكسار والهرب دفعات وقتل من الديلم خلق كثير لنقصان جننهم واستظهار الأتراك عليهم بالاسلحة واشتد على بختيار الحصار وأحدق به وصار في مثل كفّة الحابل وأحاط به الأتراك من كل وجه وكانت صورته كما ذكرت فيما تقدم.
واتصلت كتبه إلى أبي تغلب يسأله الانحدار، وإلى عضد الدولة يسأله اللحاق ويعلمه أنّ مملكته قد خرجت من يده وأنّه أحق بها ممن غلب عليها حتى إنّه كتب إليه في بعض كتبه البيت الذي كتب به عثمان إلى أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق فأمّا أبو تغلب فسار بجميع عسكره بعد أن كان قدّم أخاه الحسين كما كتبنا خبره فيما تقدّم، وصار إلى مدينة السلام فألفاها مفتتنة بالعيارين فقمعهم وقتل جماعة منهم وحمل من بغداد إلى الموصل أشياء كثيرة ظفر بها من آلات فاخرة وأنقاض جليلة وذخائر وودائع.
وأمّا عضد الدولة فإنّه سار بعد ما ذكرته من التوقف والإبطاء، واجتمع مع أبي الفتح ابن العميد بالأهواز.
ذكر السبب في رجوع ألفتكين إلى بغداد وهرب أبي تغلب عنها إلى الموصل

لما سمع ألفتكين بخبر عضد الدولة وحصوله بالأهواز نخب قلبه ورأى أن يحصل ببغداد ويجعلها وراء ظهره وتكون حربه على ديالى.
قال صاحب هذا الكتاب:
كنت في جملة السائرين من الريّ في صحبة أبي الفتح ابن العميد وما كان إشفاقنا ولا حذرنا كلّه إلّا من سبق الأتراك إيانا إلى أسفل واسط إلى الموضع المعروف بباذبين وأن يجعلوا النهر وراءهم مع المدينة والميرة وأن يتركونا حتى نقطع إليهم مفازة بنج وبنج ونلقاهم على إعياء وكلال وليس وراءنا عمارة ولا نجد ما ننزل عليه فإن طاولونا أياما كان الهلاك وإن ناجزونا حين ورودنا كانوا جامّين مستريحين ونحن على حال تعب وضعف وكنّا من كثرة العدد على ما وصفت فيما تقدم.
فلم يوفّق الأتراك لذلك وانصرفوا إلى بغداد ورأوا من الصواب لهم أن يملكوا بغداد ويجعلوها وراء ظهورهم وتكون حربهم على ديالى فكانت الخيرة لنا فيه ودخلنا واسطا بغير مانع. وقد كان بختيار وأخواه ومحمد بن بقيّة تلقّوا عضد الدولة لما انصرف الأتراك عنهم وترجّلوا له وأعظموه كما يستحق وسار عضد الدولة في الجانب الشرقي وتقدم إلى بختيار أن يسير بإزائه من الغربي ممتدين إلى بغداد.
فأمّا ألفتكين فإنّه لما توسط في مسيره إلى بغداد أنفذ سرية في أربعمائة غلام من الأتراك لكبس أبي تغلب فأرهقوه وشغب مع ذلك جنده عليه فهرب إلى الموصل هربا قبيحا وتقطع عسكره. وحصل ألفتكين ببغداد في حصار شديد قد أحدقت به الخيول من كل وجه وذاك أن بختيار كاتب ضبّة بن محمد الأسدي وهو رجل من أهل عين التمر كثير العشائر وقد جرت عادته بالتبسط بأن يشنّ الغارات على أطراف بغداد ويمنع من جلب الميرة إليها ففعل ووجد الطريق إلى بغيته فنهب السواد وقطع السبل.
ثم أنفذ في الجانب الشرقي ابن أخ لمحمد بن بقية وزيره يعرف بأبي الحمراء وهو لقب غلب عليه، مع طائفة من بنى شيبان ليتطرف بغداد ويحاصرها من ذلك الوجه وكانت خيول عضد الدولة والريّ وبختيار متوجهين إليه سائرين لحروبه وكان أبو تغلب من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ إليه سراياه ورجاله. فاشتد الحصار به وعزّت الميرة وانحسمت موادّها وثارت الرعية فنهبت الموجود في المدينة وامتنع الناس بالفتنة أن يتسوقوا أو يتعيشوا وأعيت ألفتكين الحيلة في التماس ما يحتاج إليه وصار يتتبع المواطن التي يظن فيها قوتا أو بذرا أو عدة يتناول ذلك حتى انتهى به الأمر إلى أن ركب بنفسه إلى منزل بعض الأشراف فكبسه وأخذ ما فيه.
وسار عضد الدولة كما حكينا في الجانب الشرقي وبختيار بازائه في الغربي فلما صار بدير العاقول عبّى عسكره تعبئة اللقاء وجعل موكب خاصته في القلب وفي ميمنته أبا الفتح ابن العميد وجيش الري وفي ميسرته أبا إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة ومحمد بن بقية وطائفة من عسكر بختيار ونزل المدائن على هذه الحالة من الترتيب. وورد خبر الفتكين بأنه برز إلى ديالى ونزل عليه مستعدا للحرب وعقد عليه جسورا ليعبر عليها واعتقد أن يلقى العساكر في فضاء بين ديالى والمدائن وظن أنّه يتمكن بالجولان فيه مما يريده وذلك في سنة أربع وستين وثلاثمائة.
وعبر ألفتكين تلك الجسور ولم يقع في الظن أنّه يعبر ديالى ولا أنّه يترك التحصن به والقتال من ورائه فسار عضد الدولة على تعبئة وهيئة حتى انتهى إلى قرية هناك وتراءت مواكب ألفتكين وقد عبّاها كراديس واعترض نهر صغير في هذه القرية فوقع التشاغل به إلى أن عبرته العساكر وصاروا مع تلك الكراديس في أرض واحدة.
ذكر عجلة وقعت وحرص ظهر من جيش بختيار الذين كانوا في ميسرة عضد الدولة فكانوا يكسرون العسكر

تقدم الجيش البختيارى المرتب في الميسرة مع أبي إسحاق وابن بقية زحفا بغير أمر وفارق المصافّ وخرج عن النظام حرصا على إظهار فضل وغناء، وتشوّقا إلى اللقاء فراسلهم عضد الدولة ونهاهم فلم ينتهوا على ما اعتادوه من الاستبداد حتى لحّجوا واستجرّهم الأتراك حتى صاروا بالبعد من العسكر فعطف الأتراك عليهم وقتلوا خلقا منهم وتابعوا الحملات عليهم وأكثروا النكاية فيهم فحينئذ عرفوا الخطأ الذي ركبوه وأنفذ عضد الدولة طائفة من الرجال إليهم فلم يغنوا عنهم وحصلوا في مثل حالهم.
فلمّا رأى ذلك زحف على نظامه وهيأته حتى اتصلوا بهم بعد أن أشرفوا على الهلاك. فلمّا قرب من جمرة القوم ومجتمعهم حمل عليهم فلم يثبتوا واستأمن بعضهم وحكم السيف في الباقي فقتل خلق منهم وألجأتهم الهزيمة إلى تلك الجسور التي عقدوها على ديالى فازدحموا عليها وأرهقهم الأمر فهلك منهم ومن العيّارين الذين وازروهم بالقتل والغرق خلق كثير وركب عسكر عضد الدولة أكتافهم وعبروا تلك الجسور على آثارهم فاستباحوا عسكرهم وسوادهم وألقوا النار في خيمهم وخركاهاتهم وأدركهم الليل فبات هؤلاء وهرب أولئك لا يلوى أحدهم على صاحبه.
وأنفذ عضد الدولة في ساعة الفتح بشيرا إلى بختيار وذلك يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى سنة أربع وستّين وثلاثمائة وأقام على ظاهر المدينة إلى أن عرف خبر الأتراك ثم دخل المدينة في أحسن زيّ وعدّة وطواه متجاوزا إلى باب الشماسية وبختيار يسير بإزائه ويعسكر بحياله وأقام بموضعه إلى أن بعد الأتراك وورد عليه خبرهم من تكريت وأنّهم وصلوا إليها على حال قبيحة من التقطع والتمزق واختلاف الكلمة فحينئذ انثنى الى النزول في داره. واشتغل قلبه بالطائع لله وحصوله مع الأتراك وتصرّفه على ما يحبون والتنقل معهم فبث إليه رسله وقد كان راسله قبل ذلك ولم يزل معه بالتلطف والرفق حتى ردّه إلى دار الخلافة ومواطن الائمة.
ذكر ما جرى بين بختيار وبين جيشه وما كان من اعتزاله إياهم وما كان من إنكار ركن الدولة لذلك وما تمّ من الحيلة عليه من انتقاضه وعوده إلى منزلته وحالته

لما تمّ هذا الفتح لعضد الدولة لم يشكّ أحد ممن دنا وبعد في أنّه يستولى على هذه المملكة ويضيفها الى مملكته لضعف بختيار عنها واشتغاله بضروب اللهو واللعب وتجاسر الديلم والأتراك عليه. ففكّر في حديث الناس وعلم أنّ أباه ركن الدولة لا يصبر على ذلك ولا يحتمله له. فاتخذ دعوة دعا إليها بختيار وإخوته ومحمد بن بقية وسائر عسكر بغداد وخلع عليهم ضروب الخلع على مقدار مراتبهم وجعل ذلك كالوداع وأظهر الرحيل إلى فارس وأمر بإعداد الميرة في المنازل.
ووافق في السر رؤساء الجند أن يثوروا ببختيار ويشغبوا عليه ويطالبوه بأن يطلق أموالهم ويغير أحوالهم ويحسن مجازاتهم عن صبرهم عليه وثباتهم معه وبذلهم الأنفس في محاربة الأتراك دونه. ففعلوا ذلك وبالغوا في الشغب والاقتراحات وبختيار صفر اليد لا يملك ذخيرة ولا تصل يده مع خراب النواحي واتصال الفتن إلى درهم واحد.
فراسله عضد الدولة سرّا وواقفه على مقابلتهم بالتشدد والغلظة والصدق عن الحال وانّه لا يعدهم بما لا يقدر عليه وأن يفصح لهم بالاستعفاء عن الرئاسة وأنّه قد برئ إليهم منها ووعده أن يتوسط حينئذ بينهم ويقرره على ما يحب.
فلم يجد بختيار عدولا عن ذلك ولا عرف وجه حيلة سوى ما أشار به عليه فبادر إليه واستعفاهم من رئاسته وأغلق أبوابه وصرف كتّابه وأسبابه وراسله في الظاهر بمقاربة القوم وتدبيرهم فأجابه: بأنّى لست أميرا عليهم ولا معاملة بيني وبينهم فلينظروا لأنفسهم وليعقدوا لمن شاءوا.
واتصلت هذه الرسائل ثلاثة أيام والشغب يزيد إلى أن أعلنوا بالقبيح وكادوا يزحفون إليه ويأتون عليه فاستعاذ بعضد الدولة وطلب منه ما كان وعده به من التوسط فراسلهم عضد الدولة بما سكن منهم وأمرهم بالتفرق ووعدهم بالنظر في أمرهم.
ثم استدعى بختيار إلى داره وقد كان خائفا مرعوبا واستدعى أخويه على طريق الإشفاق عليهم والحذر من أن ينصبوا أحدهما علما للفتنة فيفتحوا به بابا إلى الفرقة وراسلهما بختيار أيضا بمثل ذلك حتى حضرا جميعا.
ثم جمع الرجال وجماعة الجند وأعلمهم أنّ استيفاء بختيار من النظر واعتزاله إيّاهم وافق محبة منه للنظر في أمورهم وضمهم إلى نفسه وأنّه يخلطهم بعسكره ويشملهم بإحسانه وأنّه المتولى للأمر وأنّ بختيار إنّما كان خليفة له ولركن الدولة وأنّه الآن قد استعفى فاعفى وبرئ فأبرى. فسكنوا وتفرقوا ووثقوا بوفائه وأنّه من وراء ذلك. وأمر باستظهار على بختيار وأخويه ووكل بهم ثقاته وذلك يوم الجمعة لأربع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وستّين وثلاثمائة وجمع بينهم وبين الوالدة.