فأمّا الخليفة الطائع لله فإنّه كان نافرا من بختيار للحروب التي جرت بينه وبينه ولأنّ انتصابه في الخلافة جرى على يد غيره في غير أيّامه وسكن إلى عضد الدولة وذمامه.
فلمّا اتصل به ما اختاره بختيار لنفسه من الخلع سكنت نفسه وهو حينئذ مع الأتراك وعند ألفتكين بتكريت فجرت بينه وبينهم مناظرات في الرجوع الى بغداد فسألوه الامتداد معهم إلى الشام فلم يمكن ذلك لأنّ القوم منهزمون وعلى حال اضطراب فوعدهم من نفسه إذا ثبتت أقدامهم وكان له قوة وفيهم منعة أن يحتال لهم ويعود إليهم أو يدبر لهم في الاجتماع معهم.
فاتفقوا على ذلك وانكفأ الطائع لله إلى داره ورحل الأتراك الى الشام.
عضد الدولة يأمر بعمارة دار الخلافة
وتقدم عضد الدولة بعمارة دار الخلافة وتطرئتها وتجديد فرشها وآلتها وترتيب أسباب الخدمة فيها والتزم في ذلك مالا جليلا وأخرج الجيش إليه متلقّين واستقبله بنفسه يوم الخميس لثمان خلون من رجب سنة أربع وستّين وكان أول اجتماعهما وانحدر معه في حديديّ كان أنفذه إليه ودخلا بغداد.
وكان طرح لعضد الدولة بين يديه كرسيّ وقد كان قبّل عضد الدولة الأرض له وجلس على الكرسيّ وأطافت بهما الزبازب والطيارات في الماء وسار الجيش على شاطئ دجلة ودخل الخليفة داره واستقرّ على سريره.
وأنفذ عضد الدولة إلى خزائنه مالا كثيرا وثيابا وفرشا جليلا من جميع الأصناف وعدة من الخيل والمراكب والرقيق والآلات وقرّر يده في ضياع الخدمة المرسومة بالخلفاء وقد كانت متشذبة قد تحيفها أسباب معز الدولة ثم أسباب بختيار فمنهم من تغلب على حدودها ومنهم من استقطع الخيلفة بعضها ومنهم من ضمن منها ما لم ينصفه من نفسه فيه ولم يسهل إخراج يده عنه فردّ عضد الدولة ذلك كله إلى حقّه.
فأمر الطائع لله بإنشاء الكتب عنه إلى النواحي باستقامة أحوال السلطان وتعفّى آثار الفتنة وتألف الشمل وكتبت وفرّقت في الممالك كلها.
خبر عصيان المرزبان ابن بختيار بالبصرة وعصيان ابن بقية بواسط
أما المرزبان فإنّ عضد الدولة سام بختيار أن يكاتبه بالاصعاد وكان متوليا البصرة ليرضى بما رضى به أبوه من خلوّ الذرع من تدبير الجند والرعية فكاتب وأنفذ كتابه على يد ثقة من ثقاته يعرف بعلي بن محمد الجوهري وكان صحبه من شيراز ووصّاه بموافقة محمد بن دربند وكان اسفهسلار جيش البصرة وهو قريب للحسين بن إبراهيم وهو متقدم في جيش عضد الدولة.
ولم يقع في نفس أحد أنّ المرزبان يمتنع ويحدث نفسه بالعصيان لصباه وصغر سنه ولأنّ جيشه من الديلم وهذا المدبر للجيش الذي ذكرناه يهوى هوى عضد الدولة ويرى رأيه.
فلقى علي بن محمد الجوهري في طريقه صاحب دواة لعز الدولة بختيار يقال له: عيسى بن الفضل الطبري، قد كان أصعد عن البصرة فعرّفه الصورة واستعمل في إخراج هذا الحديث إليه غير الحزم والصواب فثنى وجهه عائدا إليه إلى البصرة وسبق إلى المرزبان بالخبر فأشعره الوحشة وأعلمه أن أتاه مكرهة ولقّنه العصيان.
فلمّا ورد الجوهري على أثره البصرة بدأ بمحمد بن دربند وأوصل ما كان معه من الكتب إليه فصار به وبها إلى المرزبان وعندهما أنّه غافل فوجده مستعدا للخلاف وقبض عليهما جميعا وأظهر الخلاف وكاتب ركن الدولة بالبكاء والنوح وأعلمه ما جرى على أبيه بختيار وعمومته وأنّ جميع ما يكاتب من جهة عضد الدولة ووزيره أبي الفتح ابن العميد عن بختيار إنّما هو تمويه وأنّ الحيلة استمرت وتمت لهما على القبض على أبيه وأنّه امتنع ثقة بتداركه إياه ومعه وأنفذ قاصدين عدّة بكتب متوالية.
وكان لمحمد بن بقية خليفة بالأهواز من جنسه في الانسلاخ من صناعة الكتابة يقال له محمد بن عبدان الأهوازي. فلمّا بلغه ما جرى احتوى على ما قدر عليه من المال وأثبت عدة من الرجال وصار الى البصرة داخلا في سواد أهل العصبية فغلب على المرزبان وشحذ بصيرته في العصيان ودخل في وزارته ووعده الكفاية.
وأما محمد بن بقية فقد ذكرنا حاله في البعد من كل فضيلة وكان يتموّه أمره في أيام بختيار فأما في دولة عضد الدولة فما كان أبعده من أن يكون عريفا من عرفاء الرجالة ببابه فضلا عن أن يختلط بوزرائه وكتّابه. ولكن أظهر مساعدة كثيرة لعضد الدولة فيما كان يدبره وخدمة فيما كان يراه، وإنّما فعل ذلك حذرا على نفسه وخوفا أن يردّ الى مرتبته وعلما بأن بختيار إن عادت يده في التدبير قبض عليه وطمع فيه وعامله بما عامل به وزراءه الكفاة عند حاجته إلى المال وكره عضد الدولة أن يخلطه بوزرائه الكفاة مثل نصر بن هارون وكان معه في هذه الوقعة وهو شيخ الكتّاب قد سلّم له صناعة الحساب خاصة فينسبه الناس الى قلة المعرفة بالرجال ونقصان الرعاية لأهل السابقة والتقدم في الكفاية وكره أيضا أن يصرفه صرفا قاطعا فيكون قد خيّب ظنه وأكذب تأميله فاستوزره لابنه أبي الحسين ابن عضد الدولة وعرض عليه ما يشاء أن يتقلده من الأعمال فاختار واسطا وتكريت وعكبرا وأوانا وقاطع على هذه الأعمال ووفّر على ما كان العمال يدخلون فيه زيادة عظيمة، فأمر عضد الدولة أن يعقد عليه جميع ذلك.
واقترح ابن بقية إقرار اللقب والتكنية السلطانية ولباس القباء عليه.
فأجيب الى ذلك وخلع عليه خلعا نفيسة وحمل على دواب بمراكب ذهب وأقطع خمسمائة ألف درهم ورسم له حضور مجالس المؤانسة والمنادمة ولم ينقصه من جميع عاداته إلّا اسم الوزارة لأنّه بالحقيقة لم يكن يتولاها على رسوم الوزراء فيخاطب بها فأظهر سرورا عظيما وشكرا كثيرا ودعاء متصلا وكل ذلك على دخل وغلّ قد أضمره وانحدر الى واسط.
وقد كان عمران صاحب البطائح مستوحشا فأحبّ أن يتعلق مع تجدد ملك عضد الدولة بذمام، فأنفذ كاتبه يلتمس عهدا ومنشورا وعقدا وتقريرا، فأجيب إلى ذلك.
والتمس أبو تغلب ابن حمدان صاحب الموصل مثل ذلك وضمن حمل المال الذي كان يحمله قديما إلى بختيار فأجابه عضد الدولة الى ما سأل وأعفاه من حمل المال لمكاتبة قديمة كانت بينهما ومودة سالفة، وعقدت أعمال الأهواز على سهل بن بشر النصراني وخلع عليه فشخص إليها وكان محبوسا في يد بختيار وقد جازفه وصادره. وفرقت أعمال السواد على العمال ودبر الأمور كلّها أبو منصور نصر بن هارون.
ولم يبق في نفس عضد الدولة شيء يتعلق به نفسه إلّا انتزاع البصرة من يد المرزبان. فلمّا حصل ابن بقية بواسط خلع الطاعة وأظهر الخلاف وقبض على من ضم اليه من القواد وأظهر أنّه امتعض لصاحبه بختيار وكان هو المشير بجميع ما جرى متابعة لرأى عضد الدولة.
ثم كاتب عمران بن شاهين يستدعى منه المعاضدة ويحذّره تدابير عضد الدولة وأنّه ليس ممن يصبر له على محاورته بتلك الحال فأجابه عمران الى ما سأل.
وكاتب المرزبان ابن بختيار يلتمس منه أن يمدّه بالرجال والمال والسلاح فلم يجد عنده ما يحبّ، لتهمته بالانحراف عنه وعن أبيه وعلم أنّه يريد أن يقيم سوقا لنفسه وأحجم ابن بقية عن المصير إليه لتقلد الأهوازي وزارته فبنى أمره على أنّه متى وقع الطلب له هرب إلى عمران وقصد أعمال نهر الفضل فيتغلب عليها. وكتب إلى سهل بن بشر ما أغواه حتى استجاب له وسلك سبيل إرادته. وقد كان عضد الدولة عزم على إنفاذ عسكر الماء لفتح البصرة فلمّا عصى ابن بقية جعل همّه كله واسطا فأنفذ إليه عسكرا قويا فخرج إليه في آلات الماء فيمن أمدّه بهم عمران من رجاله.
ووردت كتب ركن الدولة على المرزبان بأن يتماسك بالبصرة وشجّعه على مقاومة عضد الدولة ووعده بالمصير إلى بغداد بنفسه لإزعاجه وتمكين بختيار وكذلك فعل في مكاتبة ابن بقية وأبي تغلب ابن حمدان فاضطربت هذه النواحي على عضد الدولة وضاق به الأمر وتجاسر عليه الأعداء من كل وجه وانقطعت عنه موادّ فارس والبحر ولم يبق في يده إلّا قصبة بغداد وتجاسرت العامة عليه وأشرف على صورة قبيحة.
فرأى أن ينفذ أبا الفتح ابن العميد إلى أبيه ركن الدولة متحملا رسالة عنه يصدقه فيها عما جرى ويعلمه فيه بعده عن ممالكه وتضييعه الأموال التي أنفقها، وأنّه قد خاطر مع ذلك بنفسه وجنده كما خاطر هو بوزيره وأكثر جنده، وأنّه قد هذّب مملكة العراق واستعاد الخلافة إلى ممالكه، وأنّ بختيار ليس ممن تستقر بنظره دولة ولا تعتدل على يده مملكة، وأنّه إن خرج عن العراق على تلك الصورة لم يبعد أن تضطرب الممالك كلها ثم لا يمكن تلافيها، ويسأله المدد والإمساك عن نصرة من تفسد على يده مملكته وممالكنا معا وقال لأبي الفتح ابن العميد:
« انظر فإن تيقظ للأمر ونجع فيه هذا القول وأشباهه فاقتصر عليه، وإن رأيته مقيما على رأيه فزد في الرسالة وقل له: إني أقاطعك على أعمال العراق وأحمل إليك عنها ثلاثين ألف ألف درهم وأنت فقير لا مال لك ولا عدة عندك لمثل هذه الحال إن عادت إليك وأنا أعجل لك من جملتها عشرة آلاف ألف درهم وأبعث بختيار وأخوته إليك لتجعلهم بالخيار فإن شاءوا أقاموا في أوساط ممالكك ومكّنتهم من أى البلدان اختاروه، وإن شاءوا أن يصيروا إلى فارس فيختاروا من أعمالها أى البلدان أحبوه إلى ذلك ووسعت عليهم في النفقات وأرغدت عيشهم في أوساط ممالكنا ولم تتركه في هذه الديار التي استضعفه أهلها وعرف جنده سيرته فيها وانّ الخلافة تخرج عن يده وأيدينا وهو يضعف عن سياسة جنده ويعتمد في التدبير على الجبايات والمصادرات وتمكين من يرتفع له في الوقت على يده مالا يقع موقعا من حاجته ثم يضطر إلى نكبته واعتماد غيره. على أنّ هذا الباب أيضا قد انسدّ ولم يبق فيه بقية مما عمله قديما وقد عرف ذلك من نفسه ولذلك استعفى من الأمر. وان أحببت أن تحضر بنفسك العراق لتلى التدبير وتكون سائس الخلافة وبيت الملك ووليت الأمر وتردّ بختيار الى الريّ فأنصرف الى فارس، كان ذلك وجها من الرأي صحيحا. » وقال لابن العميد:
« وينبغي أن تتبسط في هذا المعنى فإنّك تجد فيه مقالا واسعا فإن لان لك وعرف صواب قولك وإلّا فزد في الرسالة فصلا ثالثا تجبهه به وهو: إنّك أيّها الوالد السيد مقبول القول والرأي والحكم، ولكن لا سبيل الى إطلاق القوم بعد مكاشفتهم والقبض عليهم وإظهار العداوة لهم. فإنّهم لا يصلحون لي أبدا ولا تنقى جيوبهم ولا تصحّ نياتهم وسيقابلوننى بغاية ما يقدرون عليه فيضطرب الحبل وتنتشر كلمة أهل هذا البيت أبدا. وإن أبيت أن تقبل أحدى الخصال التي عددتها لك وخيرتك فيها وحكمت بانصرافي على هذه الجملة فإني سأضرب أعناق هؤلاء الثلاثة الأخوة - يعنى بختيار وأخويه - وأقبض على من أتهمه من حزبه وأخرج وأترك العراق شاغرة ليدبرها من اتفقت له. » فقال له أبو الفتح ابن العميد:
« هذه رسائل صعبة لا يمكنني أن أتلقى ركن الدولة بها وأنا صاحبه ومدبر أمره فإني أعرف نصرته لمن ينصره من الغرباء وتصميمه عليه وبلوغه غاية جهده فيه فكيف لبنى أخيه! ولكن الصواب أن يتقدمني إليه من يفرغ جميع ذلك في أذنه من جهتك ثم أتلوه شافعا له ومتمما ومشيرا. » فتقرر الأمر على ذلك ونفذ فيه من جهة عضد الدولة [ ونفذ فيه ] ومن جهة أبي الفتح ابن العميد أبو العباس ابن بندار وكان الأمير ركن الدولة يأنس به قديما فتوجهت الرسل وشخص ابن العميد على جمازات عددها مائة يتلوهما.
فلمّا بلغ الرسولان الأولان إلى ركن الدولة وشرعا في تأدية الرسالة وعرف الغرض الأخير منهما لم يمكنهما من إتمام الرسالة ووثب إلى الحربة التي تلى مجلسه فتناولها وهزّها وهرب الرسولان إحضارا من بين يديه.
فلمّا سكن غضبه استعادهما وقال:
« قولا لفلان - يعنى عضد الدولة وسمّاه بغير اسمه -: خرجت إلى نصرة ابن أخي أو الطمع في مملكته؟ أما عرفت أنى نصرت الحسن بن الفيروزان وهو غريب منى مرارا كثيرة أخرج فيها كلها عن ملكي وأخاطر بنفسي وأحارب وشمكير وصاحب خراسان حتى إذا ظفرت وتمكنت من البلاد سلّمتها إليه وعدت من غير أن أقبل منه ما قيمته درهم فما فوقه طلبا للذكر الجميل ومحافظة على الفتوّة؟ أتريد أن تمتنّ أنت عليّ بدرهمين انفقتهما عليّ وعلى أولاد أخي ثم تطمع في ممالكهم! » وخرج هؤلاء الرسل لا يملكون أرواحهم إشفاقا مما رأوا منه ومما ظهر من غيظه وغضبه.
ابن العميد يحجب عن دار الإمارة
وبلغ ابن العميد الريّ وهو الوزير المقرب والأمين المتمكن وعند نفسه أنّ صورته كما كانت فحجب عن دار الامارة وردّ عنها أقبح ردّ وروسل به:
« إنّك خرجت من عندنا ناصرا لبختيار ومدبرا عسكرنا وعسكر فناخسره حتى يستقيم أمر أولاد أخي ثم تأتينى الآن في صورة فيج تتحمل رسالة فناخسره فيما يهواه حتى يكون مكان أخي وأولاده ويطمع مني في أن أرخص له في القبض عليهم وإزالة نعمهم ويتهددني بالعصيان! أمّا أنت فقد عرفت أنّك اخترته عليّ وسوّلت لك نفسك وزارة العراق ونزهة دجلة! ارجع اليه على حالك فو الله لأصلبن أمّك وأهلك على باب دارك ولأبيدنّ عشيرتك ومن يتصل بك عن وجه الأرض ولأتركنّك وذلك الفاعل (يعنى ابنه) تجتهدان ثم لا أخرج إليكم إلّا بنفسي في ثلاثمائة جمّازة لا يصحبنى إلّا من عليها من الرجال ثم اثبتوا لي إن شئتم. »
وحلف ركن الدولة محلوفة:
« إني إذا بلغت بعض طريقي في قصدي إياكم لا يبقى معكم رجل واحد إلّا تلقّانى وحصل عندي وإنّه لا يتقرب بك وبعضد الدولة إلّا أخص أوليائكما وأوثق عبيدكما في أنفسكما وإنّما أتركك الآن وأنت في يدي لتعود إلى موضعك وتعيد رسالتي وكلامي وتنتظر صحة وعدي ووعيدي. » وأمرّ من هذا الكلام ما هذا جملته وإن كان أكثر من هذا وأشنع.
وكان ركن الدولة قبل هذه الحال وعند سماع حال أولاد أخيه من القبض عليهم رمى بنفسه عن سريره وأقبل يتمرّغ ويزبد ويمتنع من الأكل والشرب أياما ومرض من ذلك مرضا لم يستقل منه باقى حياته وكان يقول:
« إني أرى أخي معز الدولة متمثلا إزائى يعضّ عليّ أنامله ويقول: يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في أهلى وولدي! ». » وكان ركن الدولة يعزّ أخاه عزّا شديدا فيراه بصورة الولد لأنّه ربّاه ومكّنه مما تمكّن منه.
وتوسط الناس بينه وبين أبي الفتح ابن العميد يشفعون له ويقولون:
« إنّه لم يرد فيما ظننته وإنما احتال في الخلاص من عضد الدولة بتحمل رسالته، وغرضه أن يجتمع معك لتدبير الأمر بما تراه و [ هو ] يضمن ضمانا يدخل في تبعته أنّه يقرر الأمر على رضاك بعد أن تسمع كلامه وتمضى له بما يعمل به في هواك. » فأذن له حينئذ وجرى بينهما خطاب طويل تقرر على أن يعود ويفرج عن بختيار وإخوته ويقرر الملك في أيديهم وينصرف كل واحد من عسكر الريّ وعسكر فارس إلى مركزه وموضعه على صورة جميلة وعلى أكثر مما يمكن أن يعمل من الحيلة في مثل هذه الحال.
فأذن له حينئذ ورجع إلى عند عضد الدولة بخلاف ما خرج وخلا به وعرّفه حقيقة الأمر وأنّه ليس ممن يطمع في إصلاحه من جهة ركن الدولة.
فلمّا رأى عضد الدولة انخراق الأمر عليه من كل وجه ونفد ما صحبه من الأموال ولم يصل إليه شيء من ممالكه اضطر إلى الخروج إلى فارس والإفراج عن بختيار وأخويه ففعل ذلك.
وتوسط ابن العميد بينه وبين بختيار وخرج من دار عضد الدولة بعد أن خلع عليه وقبل بساطه وشرط عليه أن يخلفه في تلك الأعمال ويخطب له وخلع على أبي إسحاق ابن معزّ الدولة على أن يلي أمر الجيش وذلك لما كان اعتقده الجند من ضعف بختيار وسوء تدبيره لهم وزوال هيبته مرة بعد أخرى عن قلوبهم. فلمّا خرجوا من داره وأصعدوا إلى منازلهم في طيّاره خلعوا الطاعة من غير انتظار ساعة.
واجتمع الى بختيار جيشه وعوامّ البلد والعيّارون وأثاروا الفتنة وارتفع عياطهم وصياحهم وقد كان عضد الدولة حفظ عليهم خزائنهم وجميع ما وجد لهم من الدواب والأثاث فما شذّ منها شيء حتى تسلموها كهيئتها يوم فارقوها.
وبرز عضد الدولة يوم الجمعة لخمس ليال خلون من شوال سنة أربع وستّين وثلاثمائة عن مدينة السلام قاصدا أعماله بفارس ووافق ابن العميد على المسير في أثره وألّا يقيم ببغداد بعده أكثر من ثلاثة أيام.
ذكر ما جناه أبو الفتح ابن العميد على نفسه وميله الى الهوى واللعب حتى تأدى أمره إلى الهلاك
لما خرج عضد الدولة إلى فارس طابت بغداد لأبي الفتح ابن العميد وأحب الخلاعة والدخول مع بختيار في أفانين لهوه ولعبه ووجد خلوّ ذرع من أشغاله وراحة من تدبير أمر صاحبه ركن الدولة مدة وحصلت له زبازب ودور على الشط وستّارات غناء محسنات وتمكن من اللذات.
وعرف بختيار له ما صنع من الجميل في بابه وأنّه خلصه من مخاليب السبع بعد أن افترسه وأن سعيه بين ركن الدولة وبينه هو الذي ردّ عليه روحه وملكه فبسطه وعرض عليه وزارته وتمكينه من ممالكه على رسمه وألّا يعارضه في شيء يدبره ويراه فلم يجبه إلى ذلك وقال:
« لي والدة وأهل وولد ونعمة قد ربّيت منذ خمسين سنة وهي كلها في يد ركن الدولة ولا أستطيع مفارقته ولا يحسن بي أن يتحدث عنى بمخالفته ولا يتم أيضا لك ذلك مع ما عاملك به من الجميل ولكنى أعاهدك إذا قضى الله على ركن الدولة ما هو قاض على جميع خلقه أن أصير إليك مع قطعة عظيمة من عسكره فإنّهم لا يخالفوننى وركن الدولة مع ذلك هامة اليوم أوغد وليس يتأخر أمره. » واستقر بينهما ذلك سرا لا يطّلع عليه إلّا محمد بن عمر العلوي فإنّه توسط بينهما وأخذ عهد كل واحد منهما على صاحبه ولم يظهر ذلك لأحد حتى حدثني به محمد بن عمر بعد هلاك أبي الفتح ابن العميد.
ولكن الغلط القبيح من أبي الفتح كان أنّه أقام مدة طويلة ببغداد وطمع في أملاك اقتناها هناك وإقطاعات حصّلها وأصول أصّلها على العود إليها. ثم التمس لقبا من السلطان وخلعا وأحوالا لا تشبه ما فارقه عليه عضد الدولة ثم استخلف ببغداد بعض أولاد التنّاء بشيراز يعرف بأبي الحسين ابن أبي شجاع الأرجانى من غير اختبار له ولا خلطة قديمة تكشف له أمره فلمّا خرج كانت تلك الأسرار التي بينه وبين بختيار والتراجم بينهما تدور كلها على يده ويتوسطها ويهدى إلى عضد الدولة جميعها ويتقرب إليه بها.
فلمّا عرف عضد الدولة حقيقة الأمر ومخالفة أبي الفتح ابن العميد له ودخوله مع بختيار فيما دخل فيه مع اللقب السلطاني الذي حصّله وهو ذو الكفايتين ولبسه الخلع وركوبه ببغداد مع ابن بقية في هذه الخلع عرف مكاشفته إياه بالعداوة وكتم ذلك في نفسه إلى أن تمكن منه فأهلكه كما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
كر ما جرى عليه أمر ابن بقية
كان محمد ابن بقية مستوحشا من بختيار لما يعرف من سوء معتقده له، فتوقف بواسط وترددت بينهما كتب ورسائل على يد أبي الحسن محمد ابن عمر العلوي وأبي نصر ابن السراج. فاستحلفا كل واحد منهما لصاحبه فأصعد حينئذ وامتنّ على بختيار بأنّه إنّما استعصى على عضد الدولة بسببه ومن أجله. فقبل منه وزاد في إكرامه وتجددت بين ابن بقية وبين أبي الفتح ابن العميد مودة ومعاهدة.
ألقاب جديدة
وفي هذه السنة لقّب أبو الحسن علي بن ركن الدولة: فخر الدولة، ولقب المرزبان بن بختيار: إعزاز الدولة، ولقب عمران بن شاهين: معين الدولة، ولقب محمد بن بقية: نصير الدولة، مضافا إلى لقبه الأول ولقب أبو الفتح ابن العميد: ذا الكفايتين وخلع على من حضر من هؤلاء من جهة أمير المؤمنين وأنفذت الخلع إلى من غاب.
وبنى محمد بن بقية أمره على تمكين الوحشة وتوكيد العداوة بين بختيار وبين ابن عمه عضد الدولة وأكثر من التسوّق والتنفّق والبذخ والتبجح، وأطلق لسانه إطلاق من لا يترك للصلح موضعا، وثارت الفتن بين العامة وزالت السياسة التي أسسها عضد الدولة من قمع العيارين وظفر ابن بقية بالمعروف بابن [ أبى ] عقيل صاحب الشرطة الذي كان من قبل سبكتكين وكان من أهل السنة وقد قتل طائفة من أهل الشيعة، فأمر بقتله فقتل في وسط الكرخ بين العامة، فزادت ضراوة العيارين وعاد الفساد وخاف التجار على أنفسهم وأموالهم. وأخذ ابن بقية في خدمة الطائع لله ومناصحته وعقد مصاهرة بينه وبين بختيار.
وتجددت لبختيار نية في الخروج إلى الكوفة على أن الظاهر فيه زيارة المشهد بالغريّ والباطن التصيد، فشخص إليها وصحبه الحسين بن موسى النقيب ومحمد بن عمر العلوي وأقام محمد بن بقية ببغداد وقد كان تنكّر لمحمد بن عمر وقبض عليه لينكبه فلم يطلق ذلك بختيار ولم يتركه في يده إلّا ساعة من النهار حتى انتزعه منه. فلمّا دخل الكوفة نزل على محمد بن عمر وفي ضيافته فخدمه ولاطفه وجرت بينهما مؤانسات وخلوات واتصل ذلك بمحمد بن بقية وقيل له:
« قد سعى بك ووافق بختيار على نكبتك ».
فاستوحش ابن بقية واستعدّ للانحدار إلى واسط على سبيل المقاطعة والمخالفة وساعده على ذلك بعض الجند فشرعت والدة بختيار في إصلاح الحال وكوتب بختيار بالصورة فثنى وجهه مبادرا إلى بغداد وقدم أمامه كتبه ورسائله مع الحسين بن موسى الموسوي بالتلافى وإنكار كل شيء بلغه عنه وأخذ لكل واحد منهما على صاحبه يمينا على التصافي والتراضي فخرج حينئذ محمد بن بقية متلقيا له عائدا إلى طاعته.
واتصل بمحمد بن بقية وبختيار أنّ عضد الدولة يريد العود إلى العراق فخرج ابن بقية إلى واسط لجمع المال وإعداد زاد وعتاد واستعمل ضروبا من القبيح في الكلام والهجر ومنع شذاءات كانت هناك من الاجتياز وواطأ عمران على منع إجازتها وغير ذلك من ضروب الجهل وذلك للحين المتاح له والشقاء المصبوب عليه حتى تأدى أمره إلى أقبح صورة في الهلاك بأنواع العذاب والمثلة كما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
تجدد الوحشة بين ابن بقية وبين بختيار
وتجددت بينه وبين بختيار وحشة أخرى بعد عوده إلى بغداد واقتضت الحال القبض على سهل بن بشر النصراني ضامن الأهواز ونكبته التي تأدت إلى القتل.
ذكر السبب في ذلك
كان ابن بقية لا يثق ببختيار على تصرف كل حال ولا يدع التحرز منه ونصب العيون عليه وأشدّ ما يكون نفورا منه إذا حلف ووثق له فانهمك في استمالة الجند ومتابعة الخلع عليهم والصلات لهم ونصب الموائد وعمل الدعوات وأمر أن يحمل المال إلى خزائنه.
ووافق بختيار على شيء يقيمه له وصار كالحاجر عليه فمتى طالبه بزيادة على ذلك بعث الجند على مطالبته وأحالهم عليه. فضاق ذرع بختيار به وخاطب جماعة من حاشيته وشيوخ قواده في تدبير يوقعه عليه حتى يتمكن من نكبته ويستكتب سهل بن بشر وسهل يومئذ في عمله بالأهواز فأخرج إليه جماعة من كبار قوّاده فيهم الحسن بن أحمد بن بختيار والحسن بن فيلسار وتكيدار الجيلي وجماعة مثلهم وراسله على أيديهم بإيقاع الحيلة عليه.
فلمّا وصل إليه هؤلاء القواد برسائل بختيار وعلاماته تقرر الرأي على أن يفلّ الجيش عنه الذين ببغداد ويظهر سهل ومن معه بالأهواز الشغب عليه وترك الرضا به.
وورد الخبر بذلك إلى بغداد وقد ضعف بختيار عن إمضاء تلك العزيمة وقد استصلح ابن بقية الجند وملك الأمر فأظهر حينئذ ما في نفسه وعاتب بختيار ووبخه وذكّره الأيمان التي لا زال يحلفها ثم يعود ناقضا لها وتغاضب عليه وتثاقل عنه فرّق بختيار في يده وأنكر أن يكون ما أجرى إليه الأهوازيون بأمره وعلمه فقال:
« فأطلق يدي فيهم. » فأجابه إلى ذلك وأمضى حكمه عليهم فألزمه أن يقبض على سهل بن بشر ويسلمه إليه وأن ينفى القواد الذين أظهروا ما أظهروه ففعله وأنفذ إبراهيم ابن إسماعيل الحاجب إلى الأهواز وأمره أن يحتال على سهل بن بشر حتى يقبض عليه ويبادر به إلى الحضرة فمضى مسرعا ووصل إلى الأهواز واحتال حتى حضر سهل بن بشر في منزل أحد القواد فقبض عليه وعرّفه فساد جميع الأمر الذي كان خائضا فيه وحمله للوقت فسلمه إلى ابن بقية.
وقد كان الحسن بن فيلسار سبق إلى مدينة السلام فتلافى محمد بن بقية واستصلح نيته وأما الحسن بن أحمد بن بختيار وتكيدار فإنّه استدعاهما، فلمّا قربا من بغداد طردا ونفيا عن العسكر، فعاد الحسن إلى بلده ولحق تكيدار بعضد الدولة. وجد محمد بن بقية في مطالبة سهل بن بشر بالأموال وبسط عليه المكاره واستخرج منه كل ما أمكنه ثم قتله بالعذاب مع جماعة من الناس سنذكرهم.
وفي أثر القبض على سهل بن بشر قلّد بختيار أخاه أبا إسحاق أعمال الأهواز وأنفذه إليها مع طائفة من الجيش وذلك بسفارة محمد بن بقية لأنّه كان استعان بأبي إسحاق ووالدته على بختيار فأعاناه وبلّغاه ما أحب فقضى حقهما بهذا التقليد.
وقبض ابن بقية على صاحبه أبي نصر السرّاج وعذّبه حتى قتله
ذكر السبب في ذلك
هجمت على ابن بقية علة من حرارة ففصد منها في اليوم الثاني فما أمسى إلّا ذاهب العقل مسجّى يخور خوار الثور ولا يسيغ طعاما ولا شرابا ولا يسمع كلاما ولا يحير جوابا وظهرت في فمه رغوة واختلج وجهه وعلا نفسه ولحقه الفواق الشديد واجتمعت فيه أعراض الموت التي لا رجاء معها.
وقد كانت لأبي نصر السراج نعمة فاتسعت في أيامه وعظمت بالدخول في الأمور المنكرة وضروب الشر والسعايات وأعداؤه كثيرون.
وكان ابن بقية اصطنع رجلا يقال له: الحسن بن بشر الراعي، وكان في الأصل نصرانيا من رأس عين، فصحب بنى حمدان بالموصل فدخل في الإسلام لشيء ظهر منه وخاف فأسلم ثم خاف خوفا ثانيا فهرب إلى بغداد واتصل بمحمد بن بقية وحظى عنده فقرب منه ورفعه من حال إلى حال حتى قلّده واسطا. ثم استدعاه إلى بغداد فقلّده خلافته، وتولدت بينه وبين أبي نصر السرّاج منافسة ومضاغنة. فلمّا وقع اليأس من محمد بن بقية استتر ابن الراعي وبادر أبو نصر ابن السراج إلى بختيار فضمن له من جهة أسباب ابن بقية أموالا عظيمة وكتب أسماء أقاربه وأصحابه وكتّابه وسائر أسبابه، فركب بختيار إلى ابن بقية حتى شاهده في علّته.
ذكر اتفاق طريف في سلامة ابن بقية من علته ثم من قبض بختيار عليه
إنّ بختيار أدركته رقّة شديدة له مع اجتهاده كان في هلاكه وتبرمه به لاستبداده بالأموال والعساكر. فأشار عليه ابن السرّاج بالقبض على الجماعة قبل أن يستتروا فتوقف عن ذلك وألحّ عليه إلحاحا شديدا فلم ينفعه ذلك وأحسّ عيال ابن بقية وأسبابه بما فعله ابن السرّاج فحذروا منه. ثم تماسك محمد بن بقية في اليوم الرابع من علته بعد أن تردد إليه بختيار دفعتين في كل يوم في مدة الحذر عليه وسكنت أطرافه ورجى رجاء ضعيفا وتزايد ذلك الرجاء إلى أن أفاق وهو ساكت ومضت أيام يسيرة فنهض وتراجع إلى عاداته.
وظهر ابن الراعي صاحبه واجتمع أسبابه المتحققون به فصدقوه عن فعل ابن السرّاج وضمنه ابن الراعي منه بمائة ألف دينار فقبض عليه فصح من أمواله وودائعه وأثمان غلاته والمأخوذ من أسبابه أكثر مما ضمنه ابن الراعي ثم بسطت عليه المكاره وأصناف العذاب وحبس في صندوق ومنع الطعام حتى مات أقبح ميتة.
وفي هذه السنة اضطربت كرمان على عضد الدولة
ذكر السبب في ذلك
كان في أعمال كرمان خلق من الرجالة الجرومية لهم بأس شديد وهم متمسكون بالطاعة وأحد وجوههم رجل يقال له: طاهر بن الصمّة، وكان واسع الحال والمعاملة، فدخل في ضمانات ضمنها وثمار ابتاعها فحصلت عليه أموال طمع فيها وشره إلى كسرها.
وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق للإيقاع بالأتراك وخرج وزيره أبو القاسم المطهر بن عبد الله إلى عمان فلم يبق بفارس من العساكر إلّا شيء يسير فخلع طاهر بن الصمّة الطاعة وجمع إلى نفسه هؤلاء الرجالة بالاسلحة التامة واستكثر من عددهم.
واتفق أن كان في نواحي خراسان أمير وجيه من أمراء الأتراك السامانية يقال له يوزتمرّ عظيم المنظر جبار البنية معروف بالبأس والشدة وقد استوحش من محمد بن إبراهيم بن سمجور صاحب جيش خراسان ونفر منه فكاتبه طاهر ابن الصمّة وأطمعه في أعمال كرمان فسار إليه وصار يدا واحدة في الاستيلاء إلّا أنّ الإمارة ليوزتمر.
فبعد مدة شغب الرجال الجرومية فاتهم طاهر أنّه بعثهم على الهيج ففسدت الحال بينهما وزاد الفساد حتى اقتتلا قتالا شديدا فظفر به يوزتمر وأخذه أسيرا وقتل خلقا من رجاله. واتصل ذلك ببعض أولاد الياس وهو الحسين بن محمد بن الياس وهو في بعض أعمال خراسان وطمع في الاستيلاء على كرمان وجمع جمعا وصار إليها وانضمّ هؤلاء الرجال الجرومية إليه وأمثالهم من كل ضرب من الدعّار.
وقد كان المطهر بلغ من إصلاح عمان ما أراد وفتح جبالها وأوقع بالشراة وانكفأ راجعا إلى أرجان عاملا على المسير إلى حضرة عضد الدولة بالعراق فورد عليه الأمر بالمسير إلى كرمان ليتلافى تلك الحادثة فعاد إلى شيراز وبرز عنها لتسع ليال بقين من رجب سنة أربع وستّين وسار لطيّته مسير السرايا لا يلوى ولا ينثني فأوقع بكل من وجد في طريقه من أهل التهمة وقتل وصلب وسمل العيون ومثل بكلّ مثلة وبالغ في القسوة إقامة للهيبة وأسرع المسير حتى انقضّ على يوزتمر فلم يعرف خبره إلّا مع وصوله فبرز إليه وواقعه فانهزم إلى البلدة وهو ببمّ وتحصّن في قلعة وسطها حصينة فحاصره فيها مطهّر إلى أن أعطى بيده واستأمن وأحضر معه طاهر بن الصمة أسيرا فتسلمه المطهر ثم أمر به فشهر ونودى عليه ثم ضرب عنقه وأعناق جماعة يجرون مجراه وأنفذ يوزتمر إلى بعض القلاع فاعتقله بها وكان آخر العهد به.
ثم خرج المطهر في طلب الحسين بن محمد بن الياس وكان قد جمع عشرة آلاف رجل في أسلحة تامة مستعدين للقتال فلمّا أشرف عليهم استكثر عدّتهم وهاله أمرهم ولم يجد من الحرب بدا. فناصبهم الحرب على باب جيرفت فحملوا عليه حملة ثبت لها ثم حملت ميمنته فأثرت فيهم وألجأتهم الى سور المدينة واختل نظامهم فأكب العسكر عليهم بالنشاب ولم يجدوا مهربا فقتلوا بأسرهم وهرب الحسين وطلب فجيء به أسيرا ولم يعرف خبره بعد ذلك وتطهرت كرمان منه.
ودخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة
قد ذكرنا مرض ركن الدولة وسبب ذلك وحكينا انصراف عضد الدولة من بغداد على الحال التي وصفناها واستيحاشه من أبيه لما كان منه في مكاشفته ونصرة بنى أخيه ورأى تجاسر الأعداء عليه واختلال هيبته في صدور أوليائه ولم يأمن أن يموت ركن الدولة على تلك الحال فينتشر ملكه ولا يجتمع له ما يحب.
فراسل أبا الفتح ابن العميد وكان قطع مكاتبة أبيه استيحاشا منه وتجنّيا عليه وسأله أن يتوسط بينه وبين أبيه حتى يعود له كما كان وتلطف مع ذلك في أن يجتمعا ويعهد إليه ويشهر ذلك في ممالكه وبين وجوه الديلم والجند.
وكان أبو الفتح ابن العميد متمكنا من ركن الدولة ومن الجند أيضا فكان يحبّ أن يتلافى قلب عضد الدولة لما كان منه إليه وهو مع ذلك لا يأمنه ويخشى بادرته ومكايده، فخاطب ركن الدولة وأعلمه ما يخشى من اضطراب الحبل وفساد ما بين أهل بيته باستيحاش عضد الدولة وحذّره من ترك هذه الصورة حتى تستمر وتتمكن من النيات والقلوب ولم يزل به حتى رقّ ولان وعرف صلاح حال أولاده وممالكه وممالك بنى أخيه فيما دعاه إليه.
ثم أشار عليه بأن يأذن له في الورود عليه حتى يجتمع معه ويراه فقد كان فارقه صبيا ويشاهده الجند بحضرته ويزول ما خامر قلبه وقلوب الناس من اعتراض الوحشة ويجعله وليّ عهده إذ كان أكبر أولاده وأنجبهم وأوسعهم مملكة وأكثرهم مالا وعدة ورجالا.
فأجابه ركن الدولة: بأنّ هذا رأي صواب ولكن ليس في خزائنه ما يتسع لعضد الدولة ومن يرد معه من الخيل والقواد والغلمان وإن لم يلاطف الجماعة بإقامة الأنزال واتخاذ الدعوات وإفاضة الخلع والحملانات والهدايا على الجماعة افتضح وتهجّن. فقال له أبو الفتح:
« فتسير أنت إليه لتجدد النظر في تلك الممالك التي طال عهدك بها وتشاهد أولئك العسكر الذين رتّبتهم قديما وحديثا فيها ويلتزم عضد الدولة لك ولجندك وجميع حاشيتك ما أشفقت من التزامه لهم وتقيم السياسة التي لا بدّ لك من إقامتها بين أولادك وممالك. » فقال له:
« هذا يقبح في الأحدوثة وعند ملوك الأطراف وفيمن يأتى بعدنا من الأمم أن يتحدث الناس أنّ فلانا أوحش ابنه في أمر رأى إيحاشه وتأديبه فيه ثم قصده يترضّاه. » فكوتب عضد الدولة بجميع هذه الفصول فكتب:
« إنّ هاهنا خلّة أخرى يسلم فيها من جميع هذه الأشياء التي ينكرها وهو أن يقصد أصبهان فإنّها من أعماله وأنهض أنا من فارس فأقصده لخدمته وعيادته من مرضه ويلزمني حينئذ تفقد أسبابه وحاشيته ولا يلزمه لي ولا لأحد ممن يصحبنى شيء ولا يتحدث بأنّه قصدني أو زارني. » فتقرر الرأي على ذلك وتشمّر أبو الفتح ابن العميد له حتى تمّت العزيمة ونهض ركن الدولة مع ضعفه ومرضه وحضر أصبهان واستدعى الأمير فخر الدولة وهو ابنه عليّ وكان مؤيد الدولة في ولايته مقيما بأصبهان وهو ابنه بويه وحضر عضد الدولة وخرج ركن الدولة في تلقّيه.
فلمّا قرب من البلد وقف على نشز من الأرض حتى ترجّل له عضد الدولة ابنه وقبّل الأرض مرات ثم تقدم إليه فقبل يده ثم تتابع القواد والأمراء وكبار الحاشية بتقبيل الأرض والخضوع له. فرأي لنفسه منظرا يسر مثله الآباء في أولادهم. ثم سار حتى نزل ونزل كل واحد حيث رسم له ونزل عضد الدولة معه في دار الامارة في الابنية التي كان استحدثها مؤيد الدولة.
ثم دعا أبو الفتح ابن العميد دعوة جمع فيها ركن الدولة وجميع أولاده ووجوه الأمراء والقواد والحاشية وخاطبهم ركن الدولة بأن عضد الدولة وليّ عهده وخليفته على ممالكه وأنّ مؤيد الدولة وفخر الدولة خلفاؤه في الأعمال التي رتبهم فيها.
ولزمت أبا الفتح مؤونة عظيمة وحمل إلى كل واحد من ركن الدولة والأمراء من أولاده وقوّاده وحاشيته ما يليق به وكان في جملة ما خلع على الخواص من الديلم ومن يجرى مجراهم ألف قباء وألف كساء.
تقرر الرئاسة على عضد الدولة
وانصرف القوم وقد تقررت الرئاسة من بين أولاد ركن الدولة على عضد الدولة، واعترف له مؤيد الدولة وفخر الدولة به وخدماه بالريحان على الرسم المعروف لهم، وخدمه بعدهما كل أمير وقائد ممن حضر، وكتب بذلك عهد قرئ وكتب فيه القوم خطوطهم.
وكان بختيار سيىء الظن شديد الحذر مما تقدم له ولجنده من مكاشفة عضد الدولة فهو يحب أن يصلح أمره معه فتتابع كتبه إلى ركن الدولة ويسأله أن يعصمه من الحال التي خافها وأنفذ إليه عيسى بن الفضل صاحب دواته ووافق ذلك هذا الوقت الذي كنا في ذكره من اجتماع الجماعة بأصبهان فتكلم ركن الدولة في ذلك وأظهر عضد الدولة في الحال الإغضاء عنه وشرط عليه أن يقلع عما يوحشه من بعد ولا يعاود شيئا مما ذمّه منه فعلا وقولا.
وكان بختيار سكن قليلا إلى ذلك إلّا انّ محمد بن بقية مقيم على خوفه وحذره ويحمل بختيار على مكاتبة سهلان بن مسافر وكان وجه عسكر فخر الدولة وحسنويه بن الحسين البرزيكانى وكان مجاورا لأعماله ومصاهرا له ويحمله أيضا على استمالة فخر الدولة حتى يدخل في منابذة أخيه عضد الدولة. فترددت الرسل بينهم فتأكدت العهود بينهم واستعدوا جميعا للمعاونة واتفقوا على التعاضد والتوازر إن نابت أحدا منهم نائبة.
وحضر كتّاب لهم وجرت موافقة في أمور مشهورة ظهر منها تقليد كل واحد من فخر الدولة وسهلان بن مسافر ما في أيديهما من الأعمال رئاسة من قبل السلطان وكتب لهما العهد ولقب سهلان: عصمة الدولة وكنّى وأنفذت الخلع الى الجهتين ووعد حسنويه بمثل ذلك إذا سار. فلمّا وردت عليهم هذه الخلع أحجموا عن لبسها وتوقفوا عن إظهار المنابذة لعضد الدولة فمكثت الخلع على الرسل مطّرحا لا يلبس ولا يتلقّب سهلان ولا يتكّنى وجرى الأمر على غاية الأخلوقة والفضيحة.
وواصل بختيار وابن بقية عدّة الدولة أبا تغلب ابن حمدان ومعين الدولة عمران بن شاهين وقطعت الخطبة ببغداد وجميع منابر العراق عن اسم عضد الدولة وزعم بختيار أنّ الرئاسة له بعد ركن الدولة.
وشرع ابن بقية في تلقيب ثان مضاف إلى لقبه الأول وأن ينشأ كتاب عن الخليفة بالزيادة في المقاطعة والمكاشفة وأشيع ذلك على المنابر وأطلق للناس الكلام القبيح وعظم بختيار وأنزل منزل ركن الدولة بالعراق والممالك المجاورة له وزعم أنّه يلتمس تلك المنزلة من عضد الدولة ومن دونه وتلاه ابن بقية في هذه المراتب ووجد من جهال الجند مساعدة له ورغبة في حطام يتناولونه منه ويأكلون عنده واسرارا للبراءة منه وإسلامه.
وكان يظن أنّه، عنده إن بلغ ما يحبّ بالتدبير الذي دبّره، فقد فاز وإن انعكس عليه كان بختيار الهالك وهو الناجي فيظن ظنّا خطأ لأنّ من سلك مسلكه لم ينج ولم يخل من ورطة يقع فيها تكون سبب هلاكه.
ودخلت سنة ست وستين وثلاثمائة
تحرك عضد الدولة نحو العراق من فارس
وفي هذه السنة تحرك عضد الدولة نحو العراق ورحل من فارس فجد محمد بن بقية وبختيار في مكاتبة الجماعة المذكورة.
وكان حسنويه بن الحسين الكردي خاصة يغرّ بختيار من نفسه ويطمعه في أنّه سائر إليه لمعاونته بنفسه وأهل بيته ومن يطيعه من الأكراد وكان يحب أن يشتت الألفة ويفرق الكلمة، لأنّ نظام أمره كان في انتشار أمر هؤلاء الملوك.
وكان بروز بختيار وابن بقية يوم الاثنين لليلة بقيت من جمادى الأولى يريدان الزيارة والتصيد ثم الانقلاب إلى واسط قاصدين الأهواز على نية المحاربة. فانتهيا إلى واسط في انسلاخ جمادى الآخرة ووقعت بينهما وبين عمران بن شاهين مصاهرات وتزوج بختيار بابنة عمران بن شاهين وتزوج الحسن بن عمران بابنة بختيار.
وفي هذا الوقت أهلك ابن الراعي بأمر ابن بقية خلقا ممن كان يتهمهم فيهم المعروف بابن عروة وهو ابن أخت أبي قرّة وكان من وجوه العمال وفيهم عليّ بن محمد الزُّطّى وكان إليه شرطة بغداد ومنهم المعروف بابن العروقى وكان أيضا إليه الشرطة بواسط وجماعة يجرون مجراهم وهمّ بقتل صاعد بن ثابت وكان قبض عليه ونكبه ولكنه سلم من القتل.
وراسل بختيار من واسط الطائع لله وراسله ابن بقية يسئلانه الانحدار إليهما والمسير معهما فامتنع من ذلك وترددت المكاتبات في ذلك إلى أن قرر عنده أنّه إنّما يسأل تجشم العناء للصلح والألفة فحينئذ انحدر إلى واسط وسارت الجماعة عنها إلى الأهواز والمكاتبات تتردد في خلال ذلك بين القوم وبين حسنويه بن الحسين وهو يعد بالمسير. فبينا هم كذلك إذ ورد خبر عضد الدولة في نزوله أرجان في جميع عساكره فاضطربت القلوب وكتب عن الخليفة كتاب في معنى الدعاء إلى السلم والكفّ عن الحرب وأنفذ الكتاب مع خادم من خدم بختيار على أنّه من خدم الخليفة. وكان الطمع في الصلح في هذا الوقت محالا.
فاستقرّ الرأي بعد مناظرات بين بختيار وأصحابه على أن تكون الوقعة بالأهواز [ شاطئ شوراب ] والتحصن بالنهر المعروف بسوراب والقتال من ورائه فبرزوا وضربوا مضاربهم على شاطئ سوراب ونفذ أبو إسحاق ابن معزّ الدولة في طائفة من الجيش إلى عسكر مكرم لضبطها وحفظت المعابر على المسرقان وجردت العساكر من الأعراب والأكراد وغيرهم إلى رامهرمز وذلك أن المقيم كان بها والضامن لها وهو الحسن بن يوسف استأمن إلى عضد الدولة.
إفضاء الحال إلى الحرب بين عضد الدولة وبختيار
ولما رأى الطائع لله أنّ الحال أفضت إلى الحرب امتنع من المقام وبرز متوجها إلى بغداد. فاجتهد بختيار وابن بقية الجهد كله في أن يقيم فأبى ذلك وسار إلى دجلة البصرة وأصعد فيها إلى مدينة السلام مجتازا في أعمال البطيحة.
ثم ورد خبر نزول عضد الدولة رامهرمز وهزيمة ذلك العسكر الذي نفذ إليها فزاد قلوب القوم ضعفا وانتقض عليهم رأيهم في لزوم شاطئ نهر سوراب فرجعوا منهزمين إلى أفنية سوق الأهواز وقطعوا قنطرة اربق وكوتب إبراهيم بن معزّ الدولة بالعود من عسكر مكرم فعاد واجتمع جيشهم.
واتصل ببختيار أن سلار بن با عبد الله سرخ هو مع جماعة من وجوه قوّاده وجماعة أخرى عاملون على أن يستأمنوا ويفضّوا عسكره وأشير عليه بالقبض عليهم وتقيدهم وحمله إلى واسط فضعفت نفسه عن ذلك وخشي اضطراب باقى عسكره وضعف عن المحاربة بالأهواز وعمل على أن يرجع إلى واسط موفورا فيجعل الحرب فيها، فمنعه ابن بقية وجميع القوّاد عليه وألزموه المقام. وطالبه العسكر بالمال فظهرت خلته وفاقته وابتدأ ابن بقية بمصادرة أهل البلد وكسر بختيار أوانى الذهب والفضة من الحلي والمراكب وضربت عينا وورقا فضعفت آمال جنده. وعقد على دجيل جسرا ضيقا ضعيفا في أسفل البلد وعلى طريق لا يصلح للعساكر عدّة للهرب.
ووردت أخبار عضد الدولة باستظهار شديد ومال كثير وكراع وسلاح وجمال موقرة بالأزواد والآلات وعدة فيول مقاتلة وكان على ثقة من استئمان جماعة من البختيارية إليه منهم سلار سرخ الذي ذكرناه وذلك أنّ كتبه وصلاته كانت متصلة إليهم.
وقدم عضد الدولة أمامه أبا الوفاء طاهر بن محمد بن إبراهيم وضم إليه جماعة فيهم المعروف بالكاروى الأهواز مع جيش من رجاله القفص وغيرهم فوردوا الباسيان وجمعوا السفن وصاروا بها إلى الناحية المعروفة... فعقدوا جسرا.
وورد عضد الدولة فعبر عليه وجميع عساكره والأخبار ترد مع ذلك على بختيار وابن بقية فلا يكون فيهما فضل للممانعة عن العبور ويثبتان ثبات التحيين وذلك أنّ من عجز عن ردّ بعض العساكر عن العبور والزحف في المواضع التي يمكن فيها الممانعة كيف يثبت لجميع العساكر في الفضاء! وتمسك عضد الدولة بالماء فنزل على شاطئ النهر لأنّ الوقت كان مدخل تموز فنزل من القوم على نحو الفرسخ وبكر يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ستّ وستّين وثلاثمائة على تعبئة ونظام وعدّة واستظهار واحتياط وصافّه بختيار مصافّة مضطربة وجعل الفرسان أمام الرجالة وهذا شيء ما فعله أحد قطّ ولا تجهله عوام الناس حتى لعّاب الشطرنج! فاستأمن سلار سرخ والحسن بن خرامذ ونيباك بن شيرك وهو من أشد الديلم وشجعانهم وعدد كثير من الخواص وكان دبيس بن عفيف رئيس بادية بنى أسد في ميسرة بختيار فاستأمن وانهزم جيش بختيار وتبعتهم الأعراب والأكراد بالنهب والسلب والقتل والأسر واستأمن تحت السيف خلق وانهزم الفلّ يطلبون الجسر الذي وصفناه فغرق أكثرهم بالمضايقة والمزاحمة.
إفلات بختيار وأخيه
وأفلت بختيار وأخوه أبو إسحاق ووزيره ابن بقية وعبروا دجيلا واختلفت بهم المذاهب فلم يعرف بعضهم خبر بعض حتى التقوا بمطارا وكان بختيار ألقى سلاحه عن نفسه وتلثم وفيه عدة طعنات بالزوبينات فأمّا أخوه وابن بقية وجماعة من كبار قوّاده فإنّهم وردوا الحويزة نصف الليل في نحو خمسمائة رجل وباتوا فلحق بهم تمام الألف على صورة قبيحة من الاختلاف ولما أمسوا ساروا نحو نهر الأمير ومن هناك إلى مطارا واجتمعوا مع بختيار.
وقد كان ابن بقية عبر بصاحبه ابن الراعي مع خزانته وخزانة بختيار وعدّة كانت معه إلى المأمونية التي بإزاء سوق الأهواز وعوّل في حفظه على بعض بنى أسد فنهب جميعه.
فأنفذ عمران بن شاهين ابنه الحسن وكاتبه وقوّاده في عدّة زواريق وآلات إلى بختيار وحمل إليه وإلى ابن بقية مالا وثيابا وحمل المرزبان بن بختيار إلى أبيه من الأبلّة وقد كان برز إليها مالا وثيابا وصارت الجماعة إلى الأبلّة في الماء بعد أن تأثثوا وتزوّدوا إلى واسط.
وصادف بختيار وابن بقية البصرة مفتتنة بالحروب بين ربيعة ومضر فإنّ مضر كانت داخلة في طاعة عضد الدولة بتدبيرات دبرها وأصول قدمها وأما ربيعة فأقامت على طاعة بختيار ولا لرغبة فيها ولكن مضاغنة لخصومهم من مضر فاتصلت الفتن ودامت الثورة وأحرقت المحالّ وانتهبت البضائع ودخل ابن بقية إلى البصرة لتسكين هذه الفتنة فزادها اشتعالا وفسادا وأحرق بعض خطط المضريين وانصرف والشرّ باق.
وأشفقت الجماعة من أن يسير عضد الدولة إلى واسط فيحصل بها فيفوتهم الهرب إن أرادوه فأصعدوا في الماء واخترقوا البطائح فتلقاهم عمران بن شاهين في عسكره وآلاته وقبّل يد بختيار وتطاول بختيار له وعطف به إلى دار ابنه الأكبر وهو أبو محمد الحسن فأنزله فيها للوصلة بينهما ولأنّها كانت أحسن دار بالبطيحة وأنزل محمد بن بقية عليه فأقاموا عنده أضيافا ثلاثة أيام فعجب الناس من موافقة ذلك ما كان عمران سبق إليه بالحكم كما حكيناه فيما تقدم. ثم رحلوا ورحل الحسن بن عمران معهم إلى واسط.
هرب المرزبان بن بختيار
وفي هذه الحال هرب المرزبان بن بختيار من البصرة إلى واسط لاحقا بأبيه في الشذاآت والزبازب والسفن بكليته وحرمه وأسبابه.
ذكر السبب في ذلك
من عجائب ما اتفق على بختيار في تلك الحال أنّه كان أسر له في الوقعة بالأهواز غلام تركي يعرف ببايتكين لم يكن من قبل يميل إليه ولا تظهر منه محبة له فجنّ عليه جنونا وتسلى عن كل شيء خرج عن يده إلّا عنه وحدث له من الحزن عليه ما لم يسمع بمثله فامتنع من الطعام والشراب والقرار والسكون وانقطع إلى النحيب والشهيق والعويل واحتجب عن الناس إخلادا إلى البكاء وتضجّر بالجيش وتبرّم بحضورهم واطّرح التدبير وزعم أنّ فجيعته بهذا الغلام فوق فجيعته بالمملكة والانسلاخ منها ومن النعمة. ثم إذا كان وصل إليه وزيره وكتّابه وقوّاده وخواصه في المهمّ قطعهم عن ذلك بالشكوى بما حلّ به والبوح بما في نفسه ونقصت أوقاته ومجالسه بهذا الخطب الجليل عنده دون ما سواه وامتنع من الجلوس في الدست ومن استعمال التمهد بالمخادّ وما أشبه ذلك فخفّ ميزانه عند الناس وسقط من عيونهم فلم يبال بذلك. وصار القوّاد يجتمعون إلى ابن بقية ويقولون:
« دبّر أنت أمورنا فإنّا معك ومطيعون. » فاستهان به ابن بقيّة واستعجزه وجاهر بذلك بعد أن كان يستره وعدل إلى الأخذ بالحزم لنفسه.
وأمّا بختيار فإنّه أسقط التجمل في أمر هذا الغلام عند كل أحد حتى كتب إلى عضد الدولة والحرب قائمة بينهما وهو يطلب ملكه ونفسه يسأله ردّ هذا الغلام عليه وكتب إلى جماعة خواصه المطيفين به وبخدمته يسألهم معاونته فيما رغب فيه إليه.
فاستزاد بذلك فضيحة في العساكر والأمصار وعاتبه الأقارب والأباعد فما ارعوى، بل تمادى. وأنفذ أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي رسولا إليه في هذا الباب وبذل له على يده في فدية الغلام جاريتين عوّادتين محسنتين كانتا عنده ولم يكن لهما نظير في الحذق والبراعة وقد كان أبو تغلب ابن حمدان بذل بإحديهما مائة ألف درهم فأبى أن يبيعها. وقال له:
« إن وقف عليه الأمر في هذا الفداء فزد أبدا ولا تفكر في شيء مما بيني وبينه فقد رضيت أن آخذه وأمضى إلى أقصى الأرض وأسلّم إليه ما في يدي. » فشخص وأدّى الرسالة وقد وجد ذلك الغلام قد اختلط مع غيره من رفقائه المأسورين يوم الوقعة ولم ير له فضل ولا ميّز من بينهم. وأنفذوا إلى شيرزاد هدية للأمير أبي الفوارس ابن عضد الدولة. فلمّا أديت الرسالة وعرف الملك ما عند بختيار من الفجيعة به عجب كل العجب وأمر بردّ الغلام إلى حضرته فردّ. ثم أعاد أبا أحمد الموسوي بجواب الرسالة وضم إليه أبا سعد بهرام بن أردشير الكاتب رسولا وأعلمه أنّه مجيب له إلى ما سأل وأرشده مع ذلك إلى بعثه على الطاعة وحمّله رسائل أخر أمرهما أن يؤديها إلى بختيار سرّا عن ابن بقية وعلى غير مشهد منه ولا من أحد.
فلمّا وردا امتثلا الأمر وطويا عنه ما حضرا فيه وأدّياه إلى بختيار وحده على انفراد به فاستوحش ابن بقية استيحاشا شديدا واتهم أنّه التمس القبض عليه وتسليمه إليه عوضا عن الغلام وأنّ بختيار يفعل ذلك لشغفه به فهمّ بالقبض على الرسولين جميعا ومكاشفة بختيار وأن يظهر العصيان.
وكان نازلا من واسط في الجانب الغربي ومعه المال والسلاح والثياب والآمال متعلقة به وبختيار في الجانب الشرقي خال من ذلك كلّه وإنّما كان ابن بقية يجرى عليه قوته ويعوله كما يعال من لا أمر له وعمل على أن يراسله باعتزال التدبير وأن يصعد إلى بغداد ويخلّى بينه وبين الحرب فإن فعل وإلّا جاهر وطرده وكان ذلك ممكنا منه لو أمضاه. فعدل بختيار إلى تلافيه والرفق به وأظهره على الرسالة المطوية عنه وسكّن نفسه وطيّب قلبه وأراه أنّه راجع إلى رأيه ومتدبر بتدبيره وغير خارج عن إرادته إلى أن تمّ له القبض عليه.
ذكر السبب في قبض بختيار على ابن بقية
كان إبراهيم بن إسماعيل صاحب بختيار تمكن منه ووثق به صاحبه وكان نقيبا خاملا فتقدم عنده إلى أن استحجبه وذلك بعد رحيل عضد الدولة إلى فارس. ولما اطّلع على الحال التي عليها ابن بقية من التنكر أعلم بختيار أنّه على خطر من وثبة يثبها عليه إشفاقا على نفسه وانتهازا لفرصته مع تمكنه من الجند والمال فقال له بختيار:
« إني أخاف شغب الجند وأن يستنقذوه من يدي ويطالبونى بالأموال. » فتضمن له ألّا يجرى شيء من ذلك وإن جرى كان عليه أن يسكنهم ويرضيهم بما يوجد من أموال ابن بقية وأسبابه وأطمعه في كثرتها وفي أن تسفر الحال في القبض عليه فيما بينه وبين عضد الدولة ويصير ذاك طريقا إلى انعطافه وصلاح رأيه وأشار عليه ألّا يستوزر وزيرا بعده وأن يقرّ الكتّاب على أعمالهم ودواوينهم ويخرج أبا العلاء صاعد بن ثابت من محبسه فيردّ إليه استخراج الأموال والاستيفاء على العمال من غير وزارة.
فقبل بختيار مشورته وأطلع بختكين آزاذرويه عليها فاستصوبها وكان في ضنك شديد حتى إنّه احتاج إلى الثلج فالتمس من ابن بقية ثلجا فحمل إليه ثلاثين رطلا ووجد في خزانة شرابه يوم القبض عليه ستة آلاف رطل كان أعدّها لسماط يتخذه للجند.
فلمّا كان وقت العصر من ذي الحجة سنة ستّ وستّين وثلاثمائة عبر ابن بقية في زبزبه إلى بختيار فوجه في الوقت جماعة قبضوا على الحسن بن بشر [ المعروف ] بابن الراعي صاحبه فحين حصل في أيديهم أمر بالقبض على ابن بقية من غير أن يصل إليه وقبض على جميع ما وجد له من مال وكراع واستخلص أبا العلاء صاعد بن ثابت من محبسه وكان أمر ابن الراعي بقتله في الليلة المقبلة فكفاه الأجل والمقدار. ووجد في حبس ابن بقية صاحبه المعروف بالكراعى وكان صادره ولم يبق فيه بقية، فأطلقه بختيار وسلّم إليه ابن الراعي ليطالبه ثم أخذ من يده فاستوحش الكراعى وهرب إلى البطيحة.
فتحرك الجند بعد أيام يسيرة من القبض على ابن بقية وطالبوا بأموالهم وعرّضوا بذكره والتأسف عليه فهمّ بختيار بقتله في الوقت فلمّا تفرق الجند عنه أنفذه في الليل مقيّدا إلى بغداد موكّلا به وأخرج معه أبا العلاء صاعد بن ثابت ليطالبه ولم يكن الاحتياط وقع على أقاربه لأنّ بختيار عاجله كما حكيت. ثم كتب على الأطيار إلى مدينة السلام بتحصيلهم فسبق أحد الأطيار وحمله صاحب البرج إلى أسباب ابن بقية على الرسم في خدمة الناس لهم فوقفوا عليه وأنذر بعضهم بعضا فهرب من هرب واستتر من استتر فالتجأ أخوه وابن أخيه المعروف بأبي الحمراء مع جماعة منهم إلى بنى شيبان ثم إلى بنى عقيل وأقاموا في البادية.
تمام خبر بختيار وما عمله بواسط إلى أن صاعد إلى بغداد
كان قبضه على ابن بقية قبل ردّه أبا أحمد النقيب وبهرام بن أردشير الرسولين إلى عضد الدولة فشهدا ذلك عيانا ثم أنفذهما وأنفذ الجاريتين ليفتدي بهما غلامه بايتكين ووافق أبا أحمد العلوي على أن يبذل جميع ملكه إن دعته إلى ذلك حاجة.
فجرت خطوب استقرت على أن سلّم الجاريتين وتسلّم الغلام وتواترت البشائر بحصول الغلام بالبصرة فأظهر بختيار السرور العظيم بذلك وأنّه جرى عنده مجرى الظفر بجميع خيرات الدنيا والآخرة واستشعر أنّ نعمته قد عادت إليه وهمّ بالعود إلى بغداد على ما شرط عليه عضد الدولة.
وجاء إبراهيم بن إسماعيل حاجبه وأشرف عليه في اللوم والتقريع وأشار عليه أن يقيم بواسط للمقارعة والمدافعة وجاءه عبد الرزاق ابن حسنويه ثم أخوه أبو النجم بدر بن حسنويه في نحو ألف فارس ووردت كتب حسنويه بأنّه سائر على أثرهما فأظهر المقام بواسط على مباينة عضد الدولة.
فاتصل ذلك به وأنّه نقض الشرط فبادر برسله إلى أبي أحمد النقيب [ العلوي ] يرسم له أن يتوقف بالبصرة مع الغلام إلى أن يرحل بختيار عن واسط ويتمسك بالشرائط التي شرطت عليه فوردت كتب العلوي بذلك فاضطرب واجتهد وكاتب وراسل فلمّا لم ينفعه شيء من ذلك أمر بتقديم سواده وعمل على الإصعاد ليلا وأعلم عبد الرزاق وأبا النجم أنّه قد رأى أن تكون الحرب ببغداد لأنّ أبا تغلب ابن حمدان صائر إليه لمعاونته وسألهما الإصعاد معه ففعلا ذلك على استضعاف الرأي فيه وقد كانا اطّلعا على حديث هذا الغلام فكتبا إلى أبيهما حسنويه يصدقانه عن الصورة فلما حصل عبد الرزاق بجرجرايا رحل منصرفا وتوقف أبو النجم بدر على سبيل التذمّم والحياء. وتلوّم بختيار في طريقه حتى لحقه أبو أحمد العلوي وبهرام بن أردشير ومعهما بايتكين فسلماه إليه فتمم المسير إلى بغداد.
وقد كان ابن بقية والمعروف بابن الراعي أظهرا التبلّح في المطالبة بعد مكاره عظيمة لحقتهما والتمس ابن بقية كتب الأمانات لأهله الهاربين فكتبت وحضروا.
ابن بقية يطمع في الوزارة
وتجدد لابن بقية طمع في أن يخطب الوزارة ويبذل لبختيار ثلاثمائة ألف دينار يصححها من جهات كتّابه وأسبابه وذويه ومن البقايا في النواحي وأن يردّ إلى مرتبته ليقوم بأمر الحرب ويدبر العسكر فبلغ ذلك أصحاب بختيار والقواد الذين أشاروا بالقبض عليه فاضطربوا واجتمعوا إلى بختيار وأعلموه أنّه إنّما يحتال لما يبذله للخلاص وأن يتمكن من الانسلال ثم يثير الفتن التي لا تتلافى.
وفي هذه السنة قبض على أبي الفتح ابن العميد بالريّ
ذكر السبب في ذلك
...
...
ودخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة
ذكر السبب في المثلة بابن بقية وابن الراعي وسمل عيونهما
كان بهرام رسول عضد الدولة يخاطب بختيار في تسليم ابن بقية إليه ليحمله إلى عضد الدولة ويعوضه عنه مالا من خزانته واتصل ذلك بهؤلاء القوم أعنى القواد فحضروا عند بختيار وأقاموا في نفسه أنّه إن سلّمه إليه صحيحا لم يؤمن أن يصطنعه ويبقى عليه فيكون قد حصل له بحضرته عدوّ من قبله وكثر المشيرون بقتله والراحة منه فتقرر الرأي على سملة وتسليمه مسمولا.
فسمل ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وستّين، وجدّ أبو إسحاق ابن معزّ الدولة في إلحاق صاحبه المعروف بابن الراعي به لشيء كان في نفسه عليه ولم يكن له شافع لما كان ارتكبه من مكاره الناس فسمل أيضا.
بختيار يدخل في طاعة عضد الدولة
وترجح الرأي ببختيار بين الدخول في طاعة عضد الدولة وبين المقام على معصيته ومحاربته وكان الرسولان مع جماعة من نصحائه يشيرون عليه بطريق السلامة ويعرّفونه عجزه عن مقاومته وقلة عدته من المال والرجال وكان جماعة أخرى من قواده وخواصه فيهم الحسن بن فيلسار يشيرون عليه بالثبات والمقارعة ثم تقرر الأمر واختار السلامة والطاعة من طريق الضرورة. فدخل في الطاعة وحلف عليها وأعطى صفقة يمينه بها ولبس خلع عضد الدولة وعبر إلى الجانب الغربي على أن يسير إلى الشام ويثبت على أعلامه وراياته اسم عضد الدولة ويقيم الخطبة له في أى بلد دخله ولما فعل ذلك انصرف عنه بدر بن حسنويه آيسا منه ولحق بأبيه.
وبذل له عضد الدولة مالا جليلا على أن يقيم في كنفه ويلقاه ثم يسير إلى حيث يختار فلم يفعل ذلك ولم يسكن إليه فاشترط عليه شروطا كثيرة كان فيها ألّا ينابذ أبا تغلب ولا يعرض له إلّا بقدر الاجتياز في أعماله فقط لمراسلة كانت بينه وبين عضد الدولة ولمقامه على العهد القديم، وأطلق لبختيار مالا وقاد إليه جمالا ودوابّ معونة له على نهضته ووقع النداء بمدينة السلام برجوعه إلى طاعة عضد الدولة وأنّه سلم غير محارب وخرج نحو الموصل.
بختيار ينقض الشرط
فأول ما نقض من شروط عضد الدولة أن اعترض على أبي تغلب ابن حمدان وعمل على لقائه ومحاربته ودفعه عن الديار.
ذكر السبب في ذلك
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 10 (0 من الأعضاء و 10 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)