كان حمدان بن ناصر الدولة خرج معه وسار بمسيره فلمّا صار إلى عكبرا ذكّره أمر نفسه ووعده بأموال ابني ناصر الدولة وما جمعه في القلاع وما خلّفه لهم ناصر الدولة وكان بالحقيقة كثيرا جدا وزعم أنّه لا يلابس مملكة هي أسهل شوكة من مملكة أبي تغلب وأنّه يتولى حربه ويثق بمصير خلق من رجاله إليه وكذلك من إخوته وأسبابه. فعاهد حمدان على أنّه يمنعه من جميع ما يمنع نفسه ذبّا وحماية وحلف له بأيمان البيعة وجرت بينهما شروط والتزماها ودخلا فيها.
فلمّا صار بتكريت صار إليه عليّ بن عمرو كاتب أبي تغلب بهدايا يسيرة وأنزال من قضيم وطعام وسار معه إلى الحديثة وخلا به ودعاه إلى القبض على حمدان وتسليمه إلى أبي تغلب على أن يجتمع معه وينفق أمواله ويبذل سلاحه وآلاته وذخائره وعسكره ورجاله ويعود معه إلى بغداد ويستخلص له ملكه من يد عضد الدولة.
فالتوى بختيار واضطرب وذكر أنّه لا يستجيز ذلك مع ما حصل لحمدان في عنقه من اليمين الغموس ومع ما عليه من عهد عضد الدولة فلم يزل يعاوده ويستعين عليه بوالدته وأخيه أبي إسحاق وحاجبه إبراهيم بن إسماعيل وبجماعة من استولى عليه من أسبابه.
واستولى كاتب أبي تغلب هذا أعنى أبا الحسن عليّ بن عمرو على بختيار وتسمّى بالوزارة وجمع لنفسه كتابة بختيار مع كتابة أبي تغلب واستخلف عليه ابنه. واجتهد في أمر حمدان وإسلامه وذلك أنّ أبا تغلب وأخته المسماة جميلة كانا طالبين عنده بثأر أخيهما أبي البركات.
وأقام بختيار على الامتناع إلى أن صار أبو إسحاق إلى الموصل واجتمع مع أبي تغلب وتقرر الأمر بينهما على القبض على حمدان من حيث لا يدخل بختيار في ذلك لئلا يحنث في يمينه فرجع إلى الحديثة.
وعسف بختيار في المخاطبة وأعلمه أنّه متى لم يفعل ذلك قصده أبو تغلب وحاربه ولم يقاومه وأنّه إن ساعده صافاه وواخاه وأعاده إلى بغداد وأنفق أمواله وذخائره واستدعى الرجال إلى ذلك من كل وجه مع ما عنده من الاستقلال بعسكره ورجاله.
فضعف بختيار في يده على رسمه في ضعف العزيمة ولين العريكة فقبض على حمدان وأسلم إلى خصومه وحبس في قلعة وهرب ابنه المكنى أبا السرايا إلى عضد الدولة.
وجمع أبو تغلب الرجال وفتح قلاعه واجتهد وبالغ واجتمع مع بختيار على ظهور الدواب فتحالفا وتعاهدا. فلمّا فرغا من الاستعداد انحدرا من الموصل وكانت عدّة أصناف الرجال معهما خمسة وعشرين ألف رجل.
وبلغ عضد الدولة أخبار الجماعة ولم يكن ممن تخفى عليه أمور أعدائه وأوليائه يوما بيوم، فبرز عن مدينة السلام في جيوشه المنصورة وقدّم مقدّمته مع أبي القاسم سعد بن محمد الحاجب إلى تكريت. وكان أولئك أنفذوا إليها جيشا مع إبراهيم بن إسماعيل حاجب بختيار فأوقع به أبو القاسم وقتل كثيرا من رجاله وكاد إبراهيم يؤخذ أسيرا إلّا أنّه نجا إلى تكريت واستتر عند بعض أهلها ثم هرب منها ولحق بأصحابه.
وفي هذا الوقت قتل ابن بقية وصلب ببغداد
ذكر الحال في ذلك
كان حمل مسمولا على ما ذكرناه إلى عضد الدولة عند نزوله بالزعفرانية فتقدّم بأن يشهر في العسكر على جمل ثم طولب بالمال فلم يذعن بشيء منه فطرح بحضرة العسكر بباب حرب الى الفيلة وأضريت عليه فقتلته شر قتلة وصلب لوقته على شاطئ دجلة في رأس الجسر بالجانب الشرقي وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستّين وثلاثمائة، ثم نقل إلى الجانب الغربي فصلب بإزاء ذلك الموضع من الشرقي وبقي فيه.
وعاد الحديث إلى تمام خبر الوقعة بين بختيار ومن جمع وبين عضد الدولة بقصر الجص اتصل بعضد الدولة أنّ القوم أجمعوا على أنّ يتفرقوا بعد عبور النهر المعروف بالإسحاقى ويأخذوا في عدّة وجوه إلى بغداد فسار بجميع عساكره إلى قصر الجصّ حتى نزل فوق الغاية التي عزموا على أن يتفرقوا منها وذلك بعد أن استخلف وزيره أبا القاسم المطهر بن عبد الله في جيش كثيف ببغداد والتقى القوم غداة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال واشتدّت الحرب وثبت القوم بعضهم لبعض وتصابر الفريقان من الديلم فحمل عضد الدولة حملة صادقة فانهزموا وتبعهم الجند يقتلون ويأسرون وقد كان بختيار عمل على الهزيمة فمنعه أصحابه وخاف من الحصول في الأسر أو القتل، فلمّا تحققت الهزيمة ظفر به بعض الأكراد من العسكر فأخذ سلبه وهو لا يعرفه ثم عرفه غلام تركي يقال له: ارسلان كورموش، فضربه بلتّ وأراد أن يثنّى عليه فتعرّف إليه باسمه واستأسر له وقال:
« احملنى إلى حضرة ابن عمى وخذ جائزتك. » ولحقه في الحال تركي آخر فحملاه إلى القرب واستأذناه فتوقف، وكان أبو الوفاء طاهر بن إبراهيم حاضرا فأشار بالفراغ منه فلم تطب نفس عضد الدولة به ولحقته دهشة وأراد استبقاءه فألحّ عليه أبو الوفاء وقال:
« ما تنتظر به أن يعود ثالثا وإلى متى يثير علينا هذه الفتن التي لعلنا نكون من صرعاه في بعضها افرغ منه! » وعلا صوته وأظهر من النصيحة في هذه الباب والمراجعة الشديدة ما لو قصّر فيه لجاز.
فرفع عضد الدولة [ يده ] إلى عينه يمسحها من الدموع وقال:
« أنتم أعلم. » وكان هناك أبو القاسم سعد الحاجب حاضرا فبادر إليه مع صاحب له واحتزّ رأسه وكان قد جهده العطش حتى كاد يأتى عليه الموت لو ترك لحظة.
وقتل في هذه الوقعة خلق كثير من القواد والأمراء ومن واساه بنفسه وفيهم إبراهيم بن إسماعيل صاحبه وحاجبه وأسر خلق كثير سوى من قتل.
ولحقت أبا تغلب ضربة في منهزمه ولم يكن باشر الحرب بل طلب تلعة بالقرب فوقف عليها وكان دبّر عسكره بأن يقفوا كراديس. فكلما حمل منها كردوس وأبلى وتعب، عاد وحمل كردوس آخر، وغرّه كثرة القوم وكان بختيار عبّى خيله تعبئة الديلم ليلقى بنفسه ويباشر الحرب وتلحقه المعونة من كل وجه فجرى الأمر على ما ذكرت.
أمر عجيب
ومن عجيب ما جرى قبل ذلك أنّ أحد الأمراء من عسكر بختيار يعرف بالحسن بن فيلسار أشار عليه وهو ببغداد ألّا يخرج عنها ولا يسلمها إلّا بحرب وإبلاء كثير، فأبى عليه بختيار فاعتزله وشخص الى جسر النهروان مع طائفة كانوا يرون رأيه. فلمّا اجتمعوا هناك عقدوا له الرئاسة على أنفسهم وحدّث نفسه بالمسير إلى جهة شعبانا أو طرف من الأطراف. فبلغ عضد الدولة خبره فلما بلغ إلى القرب من بغداد جرّد خلفه خيلا فلحقوه ووقف للحرب فانجلت عنه أسيرا وبه ضربات فلبث يسيرا ومات وأسر كثير من أصحابه وانفضّ ذلك الجمع.
عضد الدولة يتمم المسير إلى الموصل
فأمّا عضد الدولة فإنّه لمّا فرغ من وقعة قصر الجص تمم المسير إلى الموصل فملكها وسائر ما يتصل بها من الأعمال والديار وظن أبو تغلب أنّه يلبث فيها يسيرا ثم يضطر إلى العود إلى بغداد على سيرة من كان قبله.
وذلك أنّ رسم الحمدانية إذا ضعفوا عن مقاومة من يقصدهم أن ينقلوا الغلّات والميرة وسائر الأموال والذخائر إلى قلاعهم، وينقلون الكتّاب والدواوين أيضا إليها ويخرجون في أصحابهم إلى حول الموصل متفرقين في أعمالها فإذا حصل بالموصل عدوّهم المتغلب عليهم لم يجد بها شيئا غير ما عند الرعية فيضطرون إلى العلوفات والمير ويخرج من يخرج في طلبهم وينقضّون عليهم من أمكنة غريبة وطرق لا يعرفها الغرباء من العساكر فيأخذون بغالهم وجمالهم ويقتلون ويأسرون من يمانعهم، فإذا صبروا على ذلك أياما يسيرة وجهدوا ولم يجدوا حيلة ولا معينا من كاتب بلديّ ولا غيره طلبوا الصلح وقاربوهم للضرورة التي ذكرتها وانصرفوا عنه فيعودون إلى ممالكهم.
ولم يكن عضد الدولة ممن يسلك هذه السبيل بل احتاط ونقل من الميرة والعلوفة والأزواد ما تمكن منه وحمل من رجال الموصل وكتّابها الموجودين ببغداد وبتكريت وسائر الأطراف من يرشد ويخدم وكذلك كتاب بغداد كان فيهم من أقام بالموصل وعرف وجوه الأعمال فصبر وأقام إلى أن صار أبو تغلب إلى الشام بعد نوائب نابته وقتل هناك كما سنشرح أمره إن شاء الله.
خروج الطائع لله مع عضد الدولة لمشاهدة الحرب
وفي هذه السنة خرج الطائع لله مع عضد الدولة لمشاهدة الحرب بينه وبين أولئك الذين قدّمنا ذكرهم أعنى بختيار وأبا تغلب وكان بروز عضد الدولة إلى معسكره بباب حرب من أعلى الجانب الغربي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شوال سنة سبع وستّين، وبرز الطائع لله يوم الخميس لخمس خلون منه. فلمّا انهزم بختيار وأبو تغلب من الوقعة بحضرة قصر الجص عاد الطائع لله إلى منزله ببغداد وسار عضد الدولة كما ذكرنا فيما قبل إلى الموصل. فنزل بظاهرها يوم الأربعاء العاشر من ذي القعدة ودخل الدار يوم الجمعة الثاني عشر.
أبو تغلب يلتمس الصلح
وترددت الرسل من أبي تغلب إلى عضد الدولة في التماس الصلح وحمل مال فامتنع عضد الدولة وقال:
« إنّا إذا ملكنا ناحية بالسيف وبعد الحرب والمقارعة لم نصالح عليها. » وتشدد في ذلك حتى صرح لرسله بأنّ الموصل وديار ربيعة أحبّ إليه من العراق وأنّه ليس يبيعها أبدا.
وكانت الموصل وأكثر أعمالها ملكا لأبي محمد ناصر الدولة وكان رسمه أن يضايق أصحاب المعاملات من التّناء وأصحاب العقار من أهل البلد ويخاشنهم ويتأول عليهم حتى يلجئهم إلى البيع ويشترى أملاكهم بأوكس الأثمان وطالت حياته وامتدت أيامه حتى استولى على الناحية ملكا وملكا.
فلما صار جميع ذلك في قبض عضد الدولة لم يفرج عنها وطلب أبو تغلب وأسريت إليه السرايا فلم يمكنه المطاولة ولا أن يسير بسيرته التي حكيناها فيما تقدم، فسار إلى نصيبين وسيّر عضد الدولة خلفه أبا الوفاء طاهر بن محمد على طريق سنجار.
كان في جملة من انهزم معه المرزبان بن بختيار ووالدة بختيار وابناها أخوا بختيار ومن أفلت من وقعة قصر الجصّ. فلمّا لحقهم أبو الوفاء نهضوا منهزمين إلى ميافارقين ثم افترقوا.
فأمّا والدة بختيار وأخواه وابنه ومن نهض معهم من أسبابهم وبقية الديلم والأتراك المرسومين بهم فإنّهم ساروا إلى دمشق لائذين بألفتكين المعزى وهو الذي حارب عضد الدولة بديالى وانهزم من بين يديه. فلمّا بلغه مسير أولاد مولاه وحرمه وأسبابه إليه تلقّاهم وقضى حقوقهم، وظنّ أنّه يتكثر بهم ويزيد في عدته بمكانهم ويتقوى بهم، فجرى الأمر بالضد وذاك أنّه لما انهزم من العراق إلى دمشق وتغلّب عليها تماسك فيها نحو أربع سنين ودفع جيش المغرب عنها وثبت لعساكر صاحب مصر التي جهّزها إليه واستولى استيلاء قويا وهابه العرب وطار اسمه هناك. فلمّا صار إليه هؤلاء المنهزمون قصدته عساكر مصر على الرسم متضاعفة على العدة التي تقدمت، فسار إليها إلى الرملة ومعه الجماعة للحرب والمقارعة فحين توافت الفرقتان استأمن المرزبان بن بختيار فظهرت المغاربة على ألفتكين وكثروه بعددهم فانهزم وقتل أبو طاهر ابن معزّ الدولة واستأمن أبو إسحاق بن معزّ الدولة في آخر الأمر. ووقع الطلب على ألفتكين فلحقه المفرج بن دغفل بن الجرّاح الطائي وجاء به أسيرا.
وكان صاحب مصر عرف منه ومن الأتراك الذين معه على طول الممارسة بأسا وشدّة فأبقى عليهم وعليه وأحسن إليه وإليهم واتخذهم عدّة وصاحبه ثم اشترى منه ولاءه وصار كالعبد له وحصل أصحابه محصل الجند وأحسن إليهم.
وأمّا أبو تغلب فإنّه أقام بميّافارقين ومعه أخته جميلة وكانت وحدها شريكة له في الأمر والنهى وسائر أخواته الباقيات وحرمه وعياله معه. فلمّا بلغه مسير أبي الوفاء إليه قدّم الحرم والعيال والأموال والسواد إلى حصن بدليس وتوجه بنفسه لاحقا بأسبابه ووصل أبو الوفاء إلى ميّافارقين وهي مغلقة دونه ولها سور وثيق من حجارة سود لا يعمل فيها الحديد وهي من حصون الروم وأبنيتهم القديمة فطواها أبو الوفاء طالبا أبا تغلب وانتهى أبو تغلب إلى أرزن ونزل على نهر يعرف بخويبور ثم عدل من هناك إلى ناحية الحسنية ووصل الى قلاعه واستنزل منها مالا على سبيل المخالسة، فعاد الشيخ أبو الوفاء الى ميافارقين لمنازلتها وافتتاحها.
واتصل بعضد الدولة مخالفة أبي تغلب إلى قلاعه وأخذه ما أخذ منها فنهض من الموصل بنفسه وهرب أبو تغلب من بين يديه وفارقه جمهور عسكره وأعيان رجاله مستأمنين إلى عضد الدولة منهم بختكين آزاذرويه وبقايا الغلمان المعزيّة والغلمان السيفية فعاد إلى الموصل وقد ترك أبا تغلب مسلوب القوة والعدّة.
وسلك أبو تغلب في هزيمته هذه طريق الجزيرة فجرّد عضد الدولة في أثره أبا حرب طغان الحاجب وأمره باتباعه ومناجزته فتنكب أبو تغلب الطريق وتعسف الرجوع إلى بدليس وظنّ أنّه لا يتتبّع فكوتب طغان باتباعه وجرّد أبو سعد بهرام بن أردشير في عسكر مددا له فسار خلفه فهرب من بدليس ودخل بلاد الروم قاصدا ملك الروم المعروف بورد الرومي وهذا رجل تملّك على الروم ثم اختلف الجيش عليه بقسطنطينية ونصبوا أخوين من أولاد ملوكهم وافترقت كلمة الروم وطالت الحرب والمنازعات بين الفريقين وكان ورد هذا قد صاهر أبا تغلب وواصله واعتضد به على خصومه فانعكست الحال بأن صار أبو تغلب هو اللاجئ إليه.
واتفق لأبي تغلب أن كان مسيره في مضايق بين جبال ولحقه عسكر عضد الدولة هناك.
ذكر غلط اتفق بجناية جناها أبو سعد بهرام على العسكر حتى كسر وهزم بعد التمكن من أسر أبي تغلب والظفر به وبمن معه
وجد أبو الوفاء لأبي الحسين أحمد بن عبيد الله خارج البلد غلاما كان مقيما في ضيعة له فراسله به ورفق بالغلام ووصله ثم جعله وليجة إلى صاحبه ولم يزل به حتى استجاب للطاعة فأخذ العهد والميثاق على أهل البلد سرّا، فنمى خبره إلى القاضي الذي ذكرناه فسعى في الفتك به وكاد يتم له ذلك لولا أنّ أهل البلد حاموا عليه ومنعوا منه ولم يزل أمره يقوى وأهل البلد يجتمعون إليه وقد ملّوا الحصار والضيق حتى استظهر بهم.
فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من جمادى الأولى سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ثاروا مشغبين على أصحاب أبي تغلب فالتجأ مونس ومن معه إلى منازلهم وقبض أحمد بن عبيد الله على القاضي ابن أبي إدريس وعلى جميع من كان في حصن ميّافارقين من أصحاب بختيار وحاشيته وفيهم غلام أهوج معروف بالتهور والجهل كان قد داخل بختيار على طريق المنادمة التي تليق بمثله يعرف بابن الطبري، فساعد القاضي على سيرته وجهله في ذكر الملوك وبسط اللسان فيهم ووجّه إلى مونس الحمداني يلتمس مفاتيح الباب منه ويتهدده متى أخرها وساعدته الجماعة على ذلك فأنفذها والتمس الأمان.
فكتب أحمد بن عبيد الله إلى أبي الوفاء يعرفه ما عمله ويلتمس الأمان لمونس ومن معه من الحمدانية فآمنه واستثنى بهذا القاضي وبالمعروف بابن الطبري وأنفذ أبا الفتح المظفر بن محمد الحاجب في قطعة من الجيش فدخل إلى البلد وملكه وأحسن أبو الوفاء إلى أهله وفرّق فيهم أموالا وتصدق على ضعفائهم بأمر عضد الدولة إياه. وحمل إلى حضرته القاضي وابن الطبري فأمر بضرب رقابهما، وقلبهما وصلبهما من السور على البرج الذي كان يظهر منه ويسيء أدبه فيه.
فتح آمد
كان أبو الوفاء أنفذ إليها في أول الأمر أبا على التميمي الحاجب لافتتاحها فتعذرت عليه لحصانتها ووثاقة سورها الذي هو أشد من سور ميّافارقين، فرجع عنها ثم عاد إليها أبو تغلب من بلاد الروم على ما ذكرنا وظنّ أنّه يقيم فيها ويمتنع بها.
فلمّا فتحت ميّافارقين علم أنّ الجيش سائر إليه وأنّه لا يثبت مع الحصار ومع ما استمر عليه من الجوائح فأنفذ أخواته سوى جميلة مستأمنات إلى أبي الوفاء وتبيّن أصحابه ضعفه فالتاثوا عليه فهرب إلى الرحبة ومعه أخته جميلة ومن يمسه أمره من حرمه.
وقعد عنه المعروف بأنجوتكين وهو من نجباء الأتراك المعروفين بالشدة والثبات في المعارك وله قوة على حمل لتّ له ثقيل يعجز عنه غيره وإذا حمل به لم يثبت له أحد وقعد معه جماعة من الأتراك وقصدوا حضرة عضد الدولة مستأمنين إليه. ثم تتابع الناس الذين كانوا مع أبي تغلب من الغلمان والجند والكتاب والولاة والأتباع. وسلك حينئذ أهل آمد بعد انصراف أبي تغلب عنها سبيل أهل ميافارقين ففتحوها سلما وطوعا.
واشتمل أبو الوفاء على ديار بكر بأسرها وعاد إلى الموصل ومعه الأسارى بعد أن رتّب في الحصون من يحفظها من ثقات عضد الدولة ورتّب في البلدان عمال الخراج والمعاون.
ذكر ما عمله أبو تغلب بعد مسيره من آمد
لما انصرف من آمد وقصد الرحبة أنفذ من طريقه أبا عبد الله الحسين ابن ناصر الدولة وسلامة البرقعيدى وهو من كبار الحمدانية إلى عضد الدولة برسالة تتضمن الاستعطاف ويسأله الصلح والاصطناع ووصل إلى الرحبة وأقام بها على انتظار الجواب.
فورد أبو عبد الله وسلامة البرقعيدى الموصل وأدّى أبو عبد الله ما تحمله فتلقاه عضد الدولة بالجميل وقبل منه تنصّله وبذل له إقطاعا وفضلا على أن يطأ بساطه ويدخل في ذمامه. وتبيّن أبو عبد الله حزم عضد الدولة وذاك أنّه مع إحسانه إليه وتوسعته عليه منع [ الناس ] من الوصول إليه فلم يشاهد بعينه إلّا الموكلين به فقط وعرف من أخيه أنّه لا يستجيب لما دعاه إليه عضد الدولة فأخذ بالحزم لنفسه وتعلق بعصمة باطنة اختص بها واعتقد أن يفارق أخاه ويعود إلى حضرة عضد الدولة فمضى إليه فأعاد الجواب عليه.
فكان الأمر على ما ظنّه من مخالفته أخيه لمرسوم عضد الدولة فتوجه إلى الشام لاجئا إلى صاحب المغرب وسار معه أخوه الحسين إلى بعض الطريق ثم فارقه قبيل تدمر على غير استئذان فأنفذ خلفه من يتتبعه فشعّث سواده ولم يلحقه في نفسه فنجا وحصل بحضرة عضد الدولة على حال جليلة.
فتح ديار مضر
كان الوالي عليها سلامة البرقعيدى فأنفذ إليه سعد الدولة وهو ابن سيف الدولة جيشا لينزله عنها فجرت بين الفريقين حرب. وكان سعد الدولة هذا قد كاتب عضد الدولة وعرض نفسه وتعلّق منه بعصمة، فأنفذ عضد الدولة أبا أحمد الموسوي النقيب إليها فسلّمها بعد حرب ودخل أهلها في الطاعة. ولما استولى عليها سلطان عضد الدولة استصفى منها الرقّة وأعمالها خاصة وفوّض باقيها إلى سعد الدولة وجرت مجرى سائر ما في يده من أطراف الشام.
فتح الرحبة
ثم فتح الرحبة فتفرّغ لفتح قلاع أبي تغلب. وهذه القلاع هي في جانب دجلة الشرقي وهي عدّة كثيرة:
فمنها أردمشت، ومنها الشعبانى وقلعة أهرور وقلعة مليصى وقلعة برقى.
وكانت أردمشت خاصة مملوءة بالأمتعة الفاخرة من أصناف الثياب والفرش والجواهر والصياغات والحلي وسائر أصناف العدد. وكان أبو تغلب رتب فيها رجلا من الأكراد بينه وبينه قربى من جهة والدته فاطمة بنت أحمد الكردية يعرف بابن بادويه وضمّ إليه مملوكا له كان من غلمان أبيه يثق به يقال له طاشتم، فأنفذ إليه عضد الدولة أبا العلاء عبيد الله بن الفضل بن نصر النصراني لمنازلة القلعة والاحتيال في فتحها. وأنفذ أبو القاسم سعد بن محمد الحاجب إلى الشعبانى وأنفذ صاحبا لأبي نصر خرشيد يزديار الخازن إلى أهرور، فعرف أبو العلاء حال أقارب لأبن بادويه الكردي خارج القلعة فدعاهم إلى خدمة عضد الدولة ورغّبهم فيها وعرّفهم اضمحلال أمر أبي تغلب ووقوع اليأس منه. وكاتبهم عضد الدولة بمشورة أبي العلاء فرغبوا في الخدمة وصاروا على ثقة مما وعدوا به ثم حملوا على مكاتبة صاحب القلعة وأشاروا عليه بالقبض على طاشتم وتسليم القلعة وذلك أنّ طاشتم كان شديد الطمع في عود صاحبه ويحب أن تظهر أمانته عنده ففعل ابن بادويه ذلك وبذل للحراس وسائر من يحفظ القلعة البذل الكثير وحكّموا فتم القبض على طاشتم والتقييد وحصلت القلعة بما فيها وظهرت نجابة أبي العلاء واجتهاده وحسن تلطفه وكان قيمة ما في القلعة على ما حررناه - وكنت فيمن أخرج إليها لنقل ما فيها مما يصلح للخزانة - ومع ما يباع وتبقية ما يبقى في القلعة نحو عشرين ألف ألف درهم.
قال صاحب هذا الكتاب.
كان عضد الدولة أمرنى أن أصير مع خواشاذه الى هذه القلعة وأحضر إحصاء ما فيها ثم أتسلّم طاشتم مقيدا وأحمله على بغل بإكاف مجردا لا وطاء عليه ومعه أصحابه الذين قيدوه وسلّموا القلعة بالخلع والدواب والمراكب التي حملوا عليها وبين أيديهم البدر والثياب التي حبوا بها ثم أطوف به تحت القلاع الممتنعة التي لم تفتح بعد لينظر من فيها إلى حال طاشتم فيحذروا مثلها ويروا أحوال الباقين فيطمعوا في مثلها ففعلت ذلك وتحملت رسائل إلى أصحاب تلك القلاع.
وجرت أحوال يطول شرحها إلّا أنّ جملتها أنّ القوم لما نظروا إلى هيئة طاشتم وأصحابه دخلهم الرعب من جانب وتجددت لهم الرغبة من جانب، وكانوا قبل ذلك لا يصدقون الرسل بأنّ هذه القلعة التي كان فيها طاشتم فتحت. فلمّا رأوه عيانا وخاطبوه عرفوا وهاء أمر أبي تغلب وقوة عضد الدولة وسلّموا القلاع بعد مدة.
ورأيت أنا من طاشتم هذا في طريقي حصافة وإقبالا على الصلوات ودعاء كثيرا وقد كان أومن على روحه فقط فسألنى في الطريق المعونة وحسن المحضر عند عضد الدولة. فلما عدنا إلى الموصل وفرغنا من استقراء القلاع على ما وصفت نبت عن طاشتم هذا بحضرة عضد الدولة وعرّفته سداده وأنّه يصلح لخدمته فقال: « هو كما تقول ولكن السياسة لا توجب اصطناعه. »
فقلت: « وكيف؟ » قال: « لأنّه مانعنا ثم تقرب به إلينا غيره، فإن وقع إحسان إليه سوّينا بينه وبين من خدمنا بالقبض عليه فخبثت نيّات من يخدمنا في أعدائنا وظنّوا أنّا لا نميّز في الإحسان بين الوليّ والعدوّ وبين المجيب والممتنع، ومع ذلك فإنّ بين أيدينا قلاعا ما فتحت بعد وإن بلغ أصحابها الممتنعين فيها إحساننا إلى هذا زالت الرهبة عن قلوبهم وطمعوا في مثل عاقبة هذا بعد حصولهم في أيدينا إن حصلوا وسلامتهم في مواضعهم إن سلموا. » ثم قال:
« ولأنّ لي فيه رأيا وهو أن أنفذه إلى صاحبه أبي تغلب فإنّه سيموّه على صاحب مصر به وبقلعته ويدّعى أنّها في يده وفيها ذخائره وثقاته وأنّ ماله في هذه القلاع يفي بمؤونته إن أمدّ بالرجال ولا تزال مخاريقه مشتبهة وجائزة هناك إلى أن يطلع عليه هذا وتتقدمه الأخبار بما جرى عليه فحينئذ تبطل تمويهاته وتظهر فاقته وأنّه طريد سيوفنا وإنّما أفلت بحشاشته وليس وراءه عدّة ولا ذخيرة ولا قلعة. » فلمّا سمعت هذا الجواب علمت أنّه صواب في سياسة الوقت وأنّ معارضته فيه خطأ فأمسكت.
وبلغ طاشتم ما عزم عليه من تسييره إلى صاحبه مقيدا بحالته تلك فقلق جدّا وراسلني يسئلنى المصير إلى محبسه فصرت إليه تذمما فوجدته كثير البكاء لا يستقرّ على الأرض قلقا فقلت:
« ما شأنك؟ » فقال: « إنّ الملك كان آمنني على نفسي وأراه الآن قد بذلنى لمن لا يبقى عليّ. » وأطال هذا المعنى وسألنى معاودة عضد الدولة ومخاطبته في الأمان الذي معه فحملت نفسي على معاودته فلم يرجع عن رأيه الأول وقال:
« إنّما آمنته على نفسه منى وألّا أصيبه بمكروه وأنا له على ذلك ولست أضمن ألّا يصيبه صاحبه بمكروه. » وتبرّأ مما يجرى عليه من صاحبه وتقدم بالإسراع به. فلمّا بلغ أبا تغلب خبره من موضع يقرب منه تلقّاه بمن قتله. والله أعلم بصحة ذلك إلّا أنّ موته شاع بعد زمان قليل.
ذكر ما دبره عضد الدولة من أمر هذه الممالك وعوده إلى بغداد
خلف أبا الوفاء بالموصل لتهذيب المعاملات وترتيب العمال في الأعمال وتقنين القوانين وتدوين الدواوين وعاد إلى مدينة السلام يوم السبت انسلاخ ذي القعدة سنة ثمان وستّين وثلاثمائة.
وخرج الطائع لله في تلقّيه مع جماعة الجيش والمقيمين وسائر الخواصّ والعوامّ ودخل يوم الأحد لليلة خلت من ذي الحجة واجتاز في الجانب الغربي على تعبئة من الجيش وبعد أن ضربت له القباب متصلة منتظمة بين عسكره من باب حرب وبين الموضع الذي ينزله من آخر البلد وهو البستان المعروف بالنجمى وعبر في يوم الاثنين له إلى داره فاستقرّ فيها.
ما أكرم به عضد الدولة من جهة الطائع لله
خرج أمر الطائع لله إلى خلفائه على الصلاة في جوامع مدينة السلام بأن يقيموا لعضد الدولة الدعوة تالية لإقامتها له على منابرها ونفذت به الكتب إليهم ورسم أن يضرب على بابه بالدبادب في أوقات الصلوات.
وهذان الأمران من الأمور التي بلغها عضد الدولة واختصّ بها دون من مضى من الملوك على قديم الأيام وحديثها.
ودخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة
ومن مآثر عضد الدولة
وفي هذه السنة ورد الحضرة أخ لسقلاروس الرومي المعروف بورد وقد ذكرنا خبر هزيمته عن جيوش قسطنطينية. وكان صار إلى ديار بكر وأنفذ أخاه هذا إلى عضد الدولة مستنصرا ومستنجدا وباذلا من نفسه الطاعة والمعاهدة ولما كان الملكان الأخوان اللذان بقسطنطينية عرفا ما فعله أنفذا رسولا وجيها إلى عضد الدولة لنقض ما شرع فيه ورد، واجتمع هذان الرسولان على بساطه خاضعين يتنافسان فيه ويتزايدان في التقرب إليه ويستبقان إلى التماس الذمام منه ولم ينصرفا إلى أن انسلخت سنة تسع وذلك ما لم يكن مثله قطّ وهو من مآثر عضد الدولة.
موت عمران بن شاهين
وفيها توفى عمران بن شاهين صاحب البطيحة فجأة يوم الخميس لثلث عشرة ليلة بقيت من المحرم وكان ركب في غداة هذا اليوم للتنزه على عادة كانت له فلما عاد إلى داره تشكّى دون ساعة وفاظت نفسه بعد أن نصبت له الأرصاد أربعين سنة وأنفقت على حروبه الحرائب وبعد أن أذلّ الجبابرة وأرباب الدول وطواهم أولا أولا وقدّمهم أمامه على غصص يتجرعونها وذحول يتحملونها وهو ممنوع الحريم محصّن الساحة محمى من غوائلهم ومكايدهم، فلمّا أطرقه الله لم يكن له مستقدم ولا مستأخر.
عضد الدولة يجرد جيشا لطلب بنى شيبان
وفيها جرّد عضد الدولة جيشا مع صاحبه وثقته أبي القاسم علي بن جعفر الواذارى وضم إليه أبا العلاء النصراني لطلب بنى شيبان.
ذكر السبب في ذلك
كانت هذه القبيلة أعنى بنى شيبان مستعصين قد تعوّدوا النهب والغارة والتلصص وأعيت الحيلة في طلبهم. وذاك أنّ لهم خيولا جيادا يعوّلون عليها في الهرب إذا طلبوا فكانت سراياهم تبلغ في الليلة الواحدة ثلاثين فرسخا وربما زادوا على ذلك فيمسون بموضع ويصبحون على هذه المسافة البعيدة وكذلك يصبحون في مكان ويمسون منه على مثل ذلك، ولا يصح للسلطان خبرهم ولا يتأتى له طلبهم.
وكان لهم رئيس يعرف... وكانوا مع ذلك قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور المتغلبين عليها مصاهرات وأذمّة. وشهرزور هذه لم تزل ممتنعة على السلطان لا يذعن أهلها لحصانة المدينة ولأنّهم في أنفسهم عتاة ذوو بأس وجلد.
فأراد عضد الدولة أن يبدأ بشهرزور ليقطع بين أعراب بنى شيبان وأكرادها. فاتفق شخوص أبي القاسم الواذارى وهو عقيب علّة طالت عليه ولحقته نكسة في طريقه فمات. وورد خبره على عضد الدولة وكاتب أبا العلاء وأقامه مقامه وأمره باستكمال الخدمة فيما توجّه له. ففعل ووفى وظهرت نجابته المعروفة منه ونهض نهوضا كفى المهم به وشفى الصدور. ولما وصل إلى شهرزور وعسكر على ظاهرها فتحت له فدخلها في عدة يسيرة على موادعة لأهلها وقبول الطاعة منهم ولم يكن القصد الأول إليهم ولا المراد بلدهم. فهرب بنو شيبان في البرّ مصعدين إلى نواحي الزوابي على رسمهم في الإجفال إذا طلبوا.
ذكر ما دبره أبو العلاء من أمرهم حتى ظفر بهم
سار أبو العلاء إلى دقوقا وأقام بها أربعة أشهر وكسرا يعمل ضروبا من الحيل والمكايد والمكاتبات المتصلة بضروب من الاستمالة والرفق والإطماع حتى سكنوا إليه وأنسوا به ولم يعجل مع ذلك حتى قربوا بأحيائهم منه فأسرى حينئذ إليهم وأوقع بهم وقعة عظيمة أتت على نفوسهم وأموالهم وذراريّهم وأعزتهم وغنم غنيمة عظيمة وقتل من مقاتلتهم خلقا كثيرا وانصرف بمائتي رأس من رؤوس القتلى وثمانمائة رجل من الأسرى فيهم جماعة من وجوههم ورؤسائهم.
فدخل بغداد يوم الخميس لثمان خلون من رجب وشهر هؤلاء الأسارى على الجمال بالبرانس الطوال والثياب الملونة لأربع عشرة ليلة خلت منه وأودعوا الحبوس والمطابق وتفرق أولئك الذين نجوا منهم في الأطراف البعيدة وطفئت جمرتهم وزالت عن أعمال بغداد والسواد مضرّتهم.
القبض على نقيب الطالبيين
وفيها قبض على أبي أحمد الموسوي نقيب الطالبيين وعلى أخيه أبي عبد الله وعلى قاضى القضاة أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، وأنفدوا إلى فارس وقلّد قضاء القضاة أبو سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير مقيم بفارس واستخلف له ببغداد أربع خلفاء على أرباع بغداد وهم: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن صبر وكان خليفته على الجانب الشرقي من حد المخرّم وإلى الطرف الأعلى منه، وأبو الحسين عبد العزيز بن أحمد الخرزي وصيّر خليفته على ما بقي من الجانب الشرقي من حدّ المخرّم وإلى الطرف الأسفل، وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الأكفانى خليفته على مدينة أبي جعفر المنصور وما يتصل بها من الجانب الغربي إلى طرفه الأعلى، وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد العماني خليفته على المدينة التي تعرف بالشرقية وهي على غربي دجلة الى طرفه الأسفل، وقسمت نواحي السواد على هذه الحصص بينهم.
وفي هذه السنة ورد الخبر بقتل أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بالرملة
ذكر شرح الحال في قتله وحرقه
كنا قد ذكرنا خبره في توجهه من الرحبة إلى دمشق وكان بلغه أنّ عضد الدولة كاتب سعد الدولة بن سيف الدولة وجميع البوادي هناك من بنى كلاب وغيرهم بمعارضته في مسيره وأخذه وحمله إلى حضرته، فاستوحش وعدل عن نهج الطريق وأوغل في البرية فنالته مشقة عظيمة ووصل إلى دمشق من ورائها فوجد فيها من أهلها رجلا يقال له: قسّام، قد تحصن بها وغلب عليها وخالف صاحب المغرب فلم يتمكن من دخولها فنزل في ظاهرها وأنفذ كاتبه عليّ بن عمرو الى مصر يستدعى من صاحب المغرب النجدة.
ووقعت بين أصحابه وبين أصحاب قسام هذا ثورة، فرحل إلى موضع يقال له نوى وفارقه من ههنا ابن عمه أبو الغطريف مستأمنا إلى عضد الدولة وعيّد عيد الفطر بنوى.
وورد عليه كتاب من كاتبه من مصر بأنّ صاحب المغرب تقبله ووعده بكل ما أحبّه وأنّه التمس منه أن يسير إليه زائرا. فامتنع أبو تغلب من ذلك وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما. فرحل عن نوى إلى منزل يقال له:
كفر عاقب على بحيرة طبرية وفارقه من هناك أخوه أبو طاهر ابن ناصر الدولة على اتفاق واستئذان مستأمنا إلى عضد الدولة.
وكان صاحب المغرب أنفذ وجها من وجوه غلمانه يقال له: الفضل، إلى دمشق ليحتال على قسام ويفتتح البلاد. فصار الى طبرية وقرب من أبي تغلب وتراسلا في الاجتماع فسار الفضل إليه وتلقّاه أبو تغلب وتفاوضا في الموكب ووعده عن صاحب المغرب بكلّ ما أحبّ وبذل له أبو تغلب المسير معه إلى دمشق لفتحها.
فكره ذلك للنفرة التي كانت جرت بينه وبين قسام لئلا يوحشه وكان يسلك في أمره اللطف والحيلة لا طريق الخوف والمقارعة فافترقا وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.
ثم رحل الفضل الى دمشق فلم يتمّ له ما قدّره فيها.
وكان بالرملة دغفل بن المفرّج بن الجرّاح الطائي وهو رجل بدوي استولى على هذه الناحية وأظهر طاعة صاحب المغرب من غير أن يتصرف على أحكامها واستفحل أمره وكثرت البوادي معه، فسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليواقعها ويخرجها عن تلك البلاد، فلجأت إلى أبي تغلب وسألته نصرتها ومتّت إليه بالرحم النزارية وكتب ابن الجراح إليه يسأله ألّا يفعل ذلك ومتّ إليه بالحلف الذي وقع قديما في الجاهلية بين ربيعة واليمن، فتوسط بين الجهتين على التكافّ إلى أن يرجع الى صاحب المغرب ويمتثل ما يرد منه في الأمر الذي شجر بينهما.
ورحل فنزل في جوار عقيل على أنّه مانع لها المسير والإبتداء بالشرّ فأوحش ذلك ابن الجرّاح والفضل صاحب صاحب المغرب وخافاه وظنا أنّ اجتماعه مع بنى عقيل لتدبير على أعمالهم، فسار الفضل عن باب دمشق على طريق الساحل إلى الرملة.
وضجر أبو تغلب من طول مقامه، واتصل كتب كاتبه إليه بالتسويف والتعليل فسار الى الرملة مع احياء عقيل وذلك في المحرم سنة 369 فهرب ابن الجراح والفضل من بين يديه حتى بعد، وكتب الفضل يستنجد ويجمع الى نفسه جيوش السواحل وولاته.
وجمع أيضا ابن الجراح الرجال واحتشد فتوافت إليهما طوائف كثيرة واستأمن الى أبي تغلب ممن كان معهما اسختكين التركي المغربي وغيره من الأتراك وقطعة من الرجال الاخشيدية والمغاربة وعطف إليه الفضل وابن الجراح فيمن جمعا فوقعت الوقعة على باب الرملة يوم الاثنين لليلة خلت من صفر سنة تسع وستّين وثلاثمائة.
فلما عاينت عقيل كثرة الناس انهزمت، فضعف أمر أبي تغلب وفارقه اسختكين المغربي طالبا العراق ومستأمنا الى عضد الدولة، وعاد باقى المستأمنة من المضريّين الى الفضل والى ابن الجرّاح ولم يبق مع أبي تغلب إلّا نحو سبعمائة رجل وهم غلمانه الحمدانية فانهزم وانهزموا ولحقهم الطلب فثنوا وجوههم يحامون عن نفوسهم بالمكافحة والمجالدة. فضرب بعض الصعاليك أبا تغلب على رأسه، وعرقب آخر، فرسه، فسقط إلى الأرض وبادر إليه ابن عم لابن الجراح يقال له: مشيّع الطائي، وقتل بعض غلمانه وأسر أكثر أصحابه وحصل أبو تغلب في عشيّته تلك في يد ابن الجراح فبكّر مرتحلا بأحيائه وعسكره وسيّره بين يديه على ناقة وقد شدّ رجليه بسلسلة إلى بطنها واعتقد أن يأتى عليه ولا يبقى.
فبلغ ذلك الفضل فبكر ليأخذه من يد أبي الجراح فألفاه قد سار فاتبعه.
فلمّا قرب خلف ابن الجراح أن يتسلمه منه ويصير به الى مصر فيجري معه مجرى ألفتكين في اصطناع صاحب المغرب له واستصحابه إياه وقد وتره بالحرب والأسر وأناخ الناقة وضربه بيده ضربتين بالسيف فسقط قتيلا وأخذ رأسه وقطع بعض الشيوخ من العرب يديه ورجليه، لأنّه كان ضرب يد ابن له عند ممانعته عن نفسه فأطنّها. ولحق الفضل وقد قضى الأمر فأخذ رأسه وأنفذه إلى مصر ثم صلب جثته ثم أحرقت.
وقد كان خلّف أخته جميلة وزوجته وهي بنت سيف الدولة في أحياء بنى عقيل. فلما قتل حملوهما مع سائر عياله الى حلب فأخذ سعد الدولة أخته اليه وأنفذ جميلة الى الرقة وحدرها منها الى عانة وعدل بها من عانة الى الموصل وسلّمت الى أبي الوفاء فكانت في يده الى أن انحدر الى بغداد فحدرها معه وحصلت معتقلة في الدار في بعض حجرها مع جواري عضد الدولة ونسائه.
ذكر تلافي بغداد بالعمارة بعد الخراب بأمر عضد الدولة
وفي هذه السنة أمر عضد الدولة بعمارة منازل بغداد وأسواقها وكانت مختلّة قد أحرق بعضها وخرب البعض فهي تلّ.
المساجد الجامعة
وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت أيضا في نهاية الخراب فأنفق عليها مالا عظيما وهدم ما كان مستهدما من بنيانها وأعادها على إحكام وشيّدها وأعلاها وفرشها وكساها وتقدم بإدرار أرزاق قوّامها ومؤذنيها والائمة والقرّاء فيها وإقامة الجرايات لمن يأوى إليها من الغرباء والضعفاء، وكان ذلك كله مهملا لا يفكّر فيه.
مساجد الأرباض والعقارات
ثم أمر بعمارة ما خرب من مساجد الارباض المختلفة وأعاد وقوفها وعوّل في هذه المصالح على عمّال ثقات أشرف عليها نقيب العلويّين.
ثم الزم أرباب العقارات التي احترقت ودثّرت في أيام الفتنة أن يعيدوها إلى أفضل أحوالها في العمارة وفي الحسن والزينة، فمن قصرت يده عن ذلك اقترض من بيت ماله ليرتجع منه عند الميسرة ومن لم يوثق منه بذلك أو كان غائبا أقيم عنه وكيل وأطلق له ما يحتاج إليه فعمرت بغداد وعادت كأحسن ما كانت.
الدور والقصور
ثم وقع التتبع على الدور والمساكن التي على جانبي دجلة فبنيت مسنّياتها وجددت رواشنها بعد أن كان الخراب شاملا لها وتقدم إلى من سمّيت له دار على الشط من كبار الأولياء والحاشية أن يجتهد في عمارتها وتحسينها.
سبب خراب الدور والقصور وكان السبب في خراب هذه الدور والقصور على الشطّ أنّ بختيار كان نقض دار أبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي التي كانت على الصراة ودجلة حين قبضها عنه ولم يكن لها نظير ببغداد في الاتساع والحسن، وكان اتخذ فيها بستانا نحو سبعة أجربة مملوأ بالنخل والأشجار والرياحين والأنوار وطرائف الغروس الغريبة وأنشأ فيها المجالس البهيّة والمساكن الفسيحة، فارتفع له من أثمان النقض جملة استكثرها واستطاب بعد ذلك بيع الأنقاض فهدم المنازل الجليلة التي لا يمكن أو يصعب إعادتها.
رفع سنة الإخراب وبيع الأنقاض
فأمر عضد الدولة برفع سنّة الإخراب وبيع الأنقاض وإعادة عمارة بستان عرصة دار العباس بن الحسين وكذلك عمارة البستان بالزاهر المتوسط الشرقي من بغداد. ففعل ذلك فامتلأت هذه الخرابات بالزهر والخضرة والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
الأنهار والقناطر
وكان ببغداد أنهار كثيرة مثل نهر العبارة ونهر مسجد الأنباريين ونهر البزّازين ونهر الزجاج ونهر القلايين ونهر طابق وميزابها الى دجلة والصراة ونهر عيسى ونهر بناحية الحربية يأخذ من الدجيل وكان منها مرافق للناس لسقى البساتين ولشرب الشفة في الأطراف البعيدة من دجلة. فاندفنت مجاريها وعفت رسومها ونشأ قرن بعد قرن من الناس لا يعرفونها واضطرّ الضعفاء الى أن يشربوا مياه الآبار الثقيلة أو يتكلفوا حمل الماء من دجلة في المسافة الطويلة، فأمر بحفر عمدانها ورواضعها وقد كانت على عمدانها الكبار المعروفة بنهر عيسى والصراة والخندق قناطر قد تهدمت وأهمل أمرها وقلّ الفكر فيها، فربما انقطعت بها السبل أصلا وربما عمرتها الرعية عمارة ضعيفة على حسب أحوالهم وعلى حسب الاقتصاد والتزجية فلم تكن تخلو من أن تجتاز عليها البهائم والنساء والأطفال والضعفاء فيسقطون فبنيت كلها جديدة وثيقة وعملت عملا محكما.
جسر بغداد
وكذلك جرى أمر الجسر ببغداد فإنّه كان لا يجتاز عليه إلّا المخاطر بنفسه لا سيّما الراكب، لشدة ضيقه وضعفه وتزاحم الناس عليه. فاختيرت له السفن الكبار المتقنة وعرّض حتى صار كالشوارع الفسيحة وحصّن بالدرابزينات ووكّل به الحفظة والحرّاس.
مصالح السواد
فأمّا مصالح السواد فإنّها قلّدت الأمناء ووقع الإبتداء بذلك في السنة المتقدمة لهذه التي نحن في ذكرها، فغلبت الزيادات وجمعت العدد من القصب والتراب وأصناف الآلات وأعيد كثير من قناطر أفواه الأنهار والمغايض والآجرّ والنورة والجصّ وطولب الرعية بالعمارة مطالبة رفيقة واحتيط عليهم بالتتبع والإشراف وبلغ في الحماية إلى أقصى حد ونهاية.
تأخير الخراج إلى النيروز
وأخّر افتتاح الخراج الى النيروز المعتضدي وكان يؤخذ سلفا قبل إدراك الغلّات، وأمضيت للرعية الرسوم الصحيحة وحذفت عنها الزيادات والتأويلات، ووقف على مظالم المتظلمين وحملوا على التعديل ورفعت الجباية عن قوافل الحجيج، وزال ما كان يجرى عليهم من القبائح وضروب العسف وأقيمت لهم السواني في مناهل الطريق وأحفرت الآبار واستفيضت الينابع.
حمل الكسوة إلى الكعبة
وحملت إلى الكعبة الكسوة المستعملة الكثيرة وأطلقت الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالمدينة وغيرهم من ذوي الفاقة وأدرّت لهم الأقوات من البرّ والبحر وكذلك فعل بالمشهدين بالغري والحائر - على ساكنيهما السلام - وبمقابر قريش فاشترك الناس في الزيارات والمصليات بعد عداوات كانت تنشأ بينهم الى أن يتلاعنوا وتواثقوا وخرست الألسن التي كانت تجرّ الجرائر وتشبّ النوائر بما أظلها من السلطان القامع والتدبير الجامع.
رسوم للفقراء وأصناف العلماء وإفراد حجرة في داره لمفاوضات الحكماء آمنين من السفهاء
وبسطت رسوم للفقراء والفقهاء والمفسرين والمتكلمين والمحدثين والنسابين والشعراء والنحويين والعروضيين والأطباء والمنجمين والحسّاب والمهندسين. وأفرد في دار عضد الدولة لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه وهو الحجرة التي يختص بها الحجّاب، فكانوا يجتمعون فيها للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة، وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم وكرامات تتصل بهم.
فعاشت هذه العلوم وكانت مواتا وتراجع أهلها وكانوا أشتاتا ورغب الأحداث في التأدب والشيوخ في التأديب، وانبعثت القرائح ونفقت أسواق الفضل وكانت كاسدة، وأخرج من بيت المال أموال عظيمة صرفت في هذه الأبواب وفي غيرها من الصدقات على ذوي الحاجات من أهل الملّة، وتجاوزهم الى أهل الذمّة. وأذن للوزير نصر بن هارون في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم.
الغرض من شرح هذه البركات
وكنّا بعرض الزيادة من هذه البركات إلى أن أتى أمر الله الذي لا يدفع.
وإنّما شرحناها لينظر فيها من يأتى بعدنا ويقرأها الملوك أو تقرأ بين أيديهم فيعملون بمثل ذلك ويسيرون بها لينتشر ذكرهم بالجميل ويطلع الله عز وجل على نيّاتهم فيمكّن لهم ويحسن معونتهم.
فلو لا خلال كانت في عضد الدولة يسيرة لا أستحسن ذكرها مع كثرة فضائله، لبلغ من الدنيا مناه، ورجوت له من الآخرة رضاه، والله ينفعه بما قدّمه من العمل الصالح ويغفر له ما وراء ذلك.
شخوص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام
وفي هذه السنة شخص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام الى أسافل واسط لطلب الحسن بن عمران فأقام على منازلته والتاث عليه أمره فقتل نفسه.
ذكر شرح الحال في قتل المطهر نفسه
لما توفّى عمران بن شاهين وفرغ عضد الدولة من الأعداء الكبار وقتل بختيار وأبو تغلب وملك ديارهم ورجالهم وحصل بمدينة السلام وكانت نفسه تنازع إلى مصر خاصّة، والى ديار الكفر بعد ذلك من الروم وما والاها، كره أن يجاوره النبط مستعصية ويطاوله صغار أصحاب الأطراف ومن يلوذ بالقصب والغياض والآجام ولا يستأصله فعرّض في مجلسه بذكر الحسن بن عمران والبطيحة وطلب من يكفيه هذا الخطب، فانتدب له أبو الوفاء والمطهر وأظهر كل واحد منهما كفاية فيه.
وتقرر الرأي على إنفاذ المطهر فجرّد معه عسكرا فيه أصناف من الرجال وأزاح علته في السلاح والأموال والعدد والآلات وضمّ إليه أبا الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي وكان في هذا الوقت بها، فانقلب منها الى واسط حتى اجتمع معه بها، فخلع على المطهر وأكرم وسار يوم السبت للنصف من صفر واستخلف له عضد الدولة على الوزارة وتدبير الأعمال وجمع الأموال أبا الريان حمد بن محمد الاصبهاني وذلك لدربته لا لصناعته ولأنّه عرف بطول الممارسة موارد الأمور ومصادرها، وكان واسطة بين عضد الدولة ووزرائه، وكان كالشريك لهم فيما ينفذونه من أوامره.
فلما استقر المطهر بالبريونى من أعمال الجامدة شاور الناس ومحض الرأي، فتقر الأمر على تدبير فاسد قد كان جرّبه من درج قبله مرارا فلم ينتفع به وهو إيقاع السدود على أفواه الأنهار لتنشف البطيحة التي يلجأ إليها عسكر النبط وأنشأ مسنّاة يسلك عليها بالاقدام إلى نفس معاقلهم فأطلقت في ذلك أموال ضاعت وانقطعت المسالك في دجلة وبطل ارتفاع الكار ولزمت مؤن الحصار واثبات الرجال وجاءت المدود فحملت على السدود.
وتوصل الحسن بن عمران الى بعض تلك السدود فبثقها فامتلأت البطائح بالمياه وكان المطهر إذا سدّ جانبا انثلمت عليه جوانب وإذا حفظ وجها أتاه الخلل من وجوه، واتفق مع ذلك أن جرت بينه وبين الحسن بن عمران وقعة في الماء فلم يتمّ له ما قدّره من اصطلامه.
وكان المطهر قد ألف فيما كان باشره من الحروب المناجزة واعتاد المفاصلة ولم يدفع إلى مصابرة قطّ ولا مطاولة. فشقّ ذلك عليه وبلغ منه وكان يتهم أبا الحسن محمد بن عمر العلوي بمراسلة تجرى بينه وبين صاحب البطيحة وهدايا وملاطفات في السرّ منه، وأنّه يطلعه على أسرار التدبير عليه ويهديه إلى مصالحه.
وكانت أخلاق المطهر معروفة بالشراسة والخشنة وكانت أفكاره سيئة فأوجس في نفسه خيفة واستشعر وحشة وتوهّم أنّ استصعاب ما استصعب عليه من هذا الأمر عائد عليه بانخفاض منزلة وانحطاط عن رتبة الوزارة وأنّ أبا الوفاء يجد مساغا للطعن عليه وإظهار معايبه لما كان بينهما من العداوة والمنافسة في المرتبة، واختار الموت على تسلط الأعداء عليه وتمكّنهم منه.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان جلس في مجلسه من عسكره، ودخل إليه الكتّاب والقوّاد وطبقات الناس مسلّمين عليه فتقدم إليهم بالتخفيف والانصراف ونهض إلى خيمة كان يخلو فيها واستدعى طبيبه وأمره بأن يفصده وظنّ أنّه إذا انصرف الطبيب حلّ شداد الفصد واستنزف دمه إلى أن يتلف، وكان قريب العهد بإخراج الدم وشرب الأدوية المسهلة من أجل علة نالته قبل حركته من الحضرة. فأعلمه الطبيب أنّه غير محتاج الى الفصد فزجره وطرده ثم صرف من كان واقفا بين يديه من غلمانه حتى خلا بنفسه وأخذ سكّين دواته فقطع بها شرايين ذراعيه جميعا وأدخلها إلى باطن ثيابه فخرج نفسه في مقاتله ودخل إليه فرّاش كان يختص به فرأى دسته الذي كان جالسا فيه مملوء دما فصاح وتوافى إليه الناس فأدركوه وبه رمق وظنّوا أنّ إنسانا أوقع عليه. ثم تكلم بما بان لهم أنّه تولى ذلك من نفسه. وحفظت عليه ألفاظ يسيرة منها أنّ محمد بن عمر العلوي حمله على ما ارتكبه من نفسه وكلمات يسيرة في هذا المعنى وغيره، ومات من ساعته وحمل الى بلده بكارزين من أعمال فارس فدفن هناك.
وكانت هذه الحادثة من عجائب الزمان إذ فتك هذا الرجل بنفسه خوفا من تغير صاحبه له. ونسئل الله التوفيق والعصمة والستر الجميل برحمته.
وأنفذ عضد الدولة عبيد الله بن الفضل إلى معسكر المطهر لحفظ أسبابه وتقرير أمر صاحب البطيحة على أمر في العاجل من حمل مال وموادعة له إلى أن ينظر في أمره وكان ذلك عقيب عوده من الإيقاع ببني شيبان فانحدر ووفى بما أمر وحمل مالا من قبل الحسن بن عمران وتسلّم منه رهينة وانكفأ بجميع ذلك ودخل الحضرة يوم الأربعاء للنصف من ذي القعدة.
انفراد نصر بن هارون بالوزارة
وفيها انفرد نصر بن هارون بالوزارة لأنّ أصل الوزارة كانت له ثم شورك بينه وبين المطهر. فلمّا مضى المطهر لسبيله وتفرد نصر بن هارون بوزارته وكان مقيما بفارس يدبّر أعمالها استخلف له عضد الدولة أبا الريان حمد بن محمد.
حوادث أخر
وفيها ورد رسول لصاحب المغرب برسائل أدّاها وكان دخوله في شعبان وانصرافه في ذي القعدة وردّ معه القاضي أبو محمد العماني لتأدية الجواب.
وفيها توفى حسنويه بن الحسين في قلعته المعروفة بسرماج.
القبض على محمد بن عمر العلوي وإنفاذه إلى فارس
وفيها قبض على محمد بن عمر العلوي بالبطيحة وأنفذ الى فارس وكان السبب فيه ما حفظ من كلام المطهر قبل وفاته فيه وأنفذ أبو الوفاء طاهر ابن محمد الى الكوفة لقبض أمواله وأملاكه فوصل الى شيء عظيم يستكثر من المال والسلاح وضروب الذخائر التي لا يظنّ بمثله أنّه يجمعها ودخلت اليد في ضياعه وكانت كثيرة تشتمل على جلّ سقى الفرات بل قد تجاوز ذلك إلى غيره من أعمال السواد واصطنع أخوه أبو الفتح أحمد ابن عمر وقلّد الحج بالناس وأقطع إقطاعا سنيّا.
وفي هذه السنة أخذ عبد العزيز بن محمد المعروف بالكراعى أسيرا وشهر بالبصرة وبمدينة السلام ثم قتل وصلب الى جانب صاحبه.
شرح الحال في الحيلة التي تمت عليه حتى أسر وقتل
كان هذا الرجل وضيعا ساقطا طبقته عن كل رتبة، واستخدم في وقت في تفرقة قضيم الكراع ولذلك عرف بالكراعى. ثم وصل بمحمد بن بقية وجمعتهما عاهة النقص ومناسبة السقوط، فارتفع معه حتى قلّده خلافته بالبصرة وجعله مستوفيا على العمال فأثرى وتموّل، وكان منه في أيام عصيان ابن بقية بواسط سوء أدب كثير وذكر الملوك بما لا يليق بالملوك بعضهم في بعض. ثم تنكّر له ابن بقية، فقبض عليه ونكبه. فلمّا قبض بختيار على ابن بقية استخدمه ولما عزم بختيار على الهرب منهزما هرب منه وصار إلى البطائح وكان هناك يجرى على سوء عادته في سوء الأدب.
فدبّر عضد الدولة تدبيرا ثم شطّره عليه ولو قبل جميعه لتمّ أيضا على صاحب البطيحة ما يستغنى معه عن محاربة ومكافحة. وذلك أنّه ووقف جماعة من أهل البصرة ووجوهها أن يخدموا عضد الدولة في مكاتبة يوقعونها إلى هذا الكراعى ويوهمونه أنّهم يوالونه ويضافرونه، فإذا قربوا منه أثاروا الفتنة بمواطأة من سلطان البصرة ثم سلّموا إليه البصرة حتى إذا اغترّ استدعى الحسن بن عمران ليتقوّى به فإذا صار في دجلة حيل بينه وبين الرجوع الى البطيحة وخاشنته الكمناء من أعلى وأسفل. وأخذ فبلغ به الجهل أن صدّق بهذا الوعد وعجل فخرج وأخرج معه الحسن بن عمران وسائر عسكره وقال:
« لي بالبصرة أولياء وإخوان قد كاتبوني والبصرة في أيدينا. » فاغترّ به الحسن ابن عمران وخرج مع عسكره. فلمّا صاروا بمطارا ثار بهم من كان فيها من الرجال وقاتلوهم، وأخطئوا لأنّ تمام التدبير كان في أن يتركوهم حتى يوغلوا إلى البصرة. فأقام القوم يقاتلونهم ثم ظفر بالكراعى وانهزم الحسن ابن عمران بعد أن ملكت عليه قطعة وافرة من سفنه ورجاله، وحمل الكراعى إلى البصرة فشهر وعوقب وطولب بالمال، ثم أنفذ إلى بغداد فشهر منصوبا على نقنق في سفينة وعلى رأسه برنس وذلك يوم الخميس لعشر ليال بقين من شعبان فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من ذي الحجة طرح الى الفيلة فخبطته وصلب إلى جانب ابن بقية.
نفاذ عسكر إلى عين التمر
وفي هذه السنة نفذ عسكر إلى عين التمر في طلب ضبّة بن محمد الأسدى - وقد مرّ ذكره وأنّه ممن يسلك سبيل الدعار ويسفك الدماء ويخيف السبل وينهب القرى ويبيح الأموال والفروج - وانتهك حرمة المشهد بالحائر فلمّا أظلّ عليه العسكر المجرّد هرب بحشاشته إلى البادية وأسلم أهله وحرمه فحصل أكثرهم في الأسر وملكت عين التمر.
تدبير عضد الدولة للجمع بين الملك والخلافة
وفيها دبّر عضد الدولة أن يقع بينه وبين الطائع لله وصلة بابنته الكبرى، ففعل ذلك وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار وبنى الأمر فيه على أن يرزق ولدا ذكرا منها فيولّى العهد وتصير الخلافة في بيت بنى بويه ويصير الملك والخلافة مشتملين على الدولة الديلمية.
مسير عضد الدولة إلى الجبل
وفي هذه السنة سار عضد الدولة الى الجبل وأعمالها ودوّخ همذان والدينور ونهاوند لافتتاح قلاع حسنويه بن الحسين الكردي وتدبير فخر الدولة في قصده ومقابلته على ما كان منه في مكاشفته والاجتهاد في تشتيت شمل الدولة وتفريق الكلمة ومعاضدة بختيار وابن بقيّة، وقد كان أظهر مباينة مؤيد الدولة وكاتب قابوس بن وشمكير.
رسائل عضد الدولة إلى مؤيد الدولة وإلى فخر الدولة وإلى قابوس بن وشمكير
ولما هلك حسنويه بن الحسين أمّل عضد الدولة أن يكون الشيطان الذي نزغ بينه وبين اخوته قد زال. وأنفذ أبا نصر خرشيد يزديار الخازن برسائل إلى مؤيد الدولة، وإلى فخر الدولة، وإلى قابوس بن وشمكير.
أمّا إلى مؤيد الدولة فبإحماده على طاعته التي ما غيّرها ولا كدّرها.
وأمّا إلى فخر الدولة فبالمعاتبة والمداراة والزيادة في الأخذ بالحجة.
وأمّا إلى قابوس بن وشمكير فبالمشورة عليه بحفظ الذمّة التي تعلّق بها وحفظ نعمته وترك التعرّض لما يورطه ويهلكه.
أجوبتهم عن تلك الرسائل
فأمّا مؤيد الدولة فإنّه أجاب جوابا سديدا وأنّه واقف على حدود طاعته وتابع له في رضاه وغضبه.
وأمّا فخر الدولة فأجابه جواب النظير الذي لا يرى لرتبة الملك مزيّة ولا لكبر السن وعهد الأب فضيلة ولا في المعاودة إلى جميل الطاعة نيّة.
وأمّا قابوس فأجاب جواب المتهيّب المحجم المراقب.
افتراق أولاد حسنويه
وافترق أولاد حسنويه فرقا واختلفت بهم المذاهب وهم: أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك.
فطائفة منهم انحازت إلى فخر الدولة مظهرة لمشاقّة عضد الدولة، وطائفة وردت حضرته. فأمّا بختيار من بينهم فإنّه نافر إخوته وكان مقيما في قلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فابتدأ بمكاتبة عضد الدولة وبذل تسليم ذلك إليه وذكر رغبته في الاعتصام به والدخول في كنفه ثم تلوّن ولم يف.
فتشوّف عضد الدولة للمسير إلى الجبل وتهذيب أعمالها فابتدأ فقدّم عساكره يتلو بعضها بعضا: فجرد أبا الفتح المظفّر بن محمد الحاجب وأبا نصر خواشاذه وأبا الوفاء طاهر بن محمد، وبرز عن داره إلى المعسكر بالمصلى من الجانب الشرقي بعد أن أقرّ أبا الريان بالحضرة على جملته من خلافة الوزارة، ولكن زاد في منزلته وناط به جميع أمور المملكة، وطال مقامه بالمعسكر الذي برز إليه إلى أن أوغلت تلك الجيوش السائرة على مقدمته.
وقد كان أبو نصر خواشاذه وطّأ الأمور عند خروجه لتأدية الرسائل.
فواقف القواد والوجوه أن يخدموا عضد الدولة بنيّاتهم، فإذا سار استأمنوا إليه وضمن لهم الإقطاعات السنيّة وحمل إلى بعضهم الهدايا والألطاف في السرّ.
فلما سار تلقّته في طريقه البشائر بدخول جيشه همذان واستئمان العدد الكثير من قوّاد فخر الدولة ورجال حسنويه وتلقّيهم رايته منحازين إليها. وتلقّاه أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة ومعه جماهير حاشيته وبقية قوّاده وغلمانه فانحلّ أمر فخر الدولة واحتاج إلى مفارقة موضعه واللحاق ببلد الديلم، فمضى ونزل دارا كان بناها معزّ الدولة بهوسم، ولجأ إلى الداعي العلوي المستولى على ذلك الصقع.
وعرّج عضد الدولة إلى نهاوند وافتتح قلعة سرماج واحتوى على ما فيها، وملك غيرها من قلاع تلك البلاد، وألقت إليه الحصون مقاليدها، وأخرجت الأرض أثقالها.
ولحقته في هذه السفرة علّة عاودته مرارا وكانت شبيها بالصرع وتبعه مرض في الدماغ يعرف بليترغس وهو النسيان، إلّا أنّه أخفى ذلك.
ويقال: إنّ مبدأ ذلك به كان بالموصل إلّا أنّه لم يظهر أمره لأحد.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)