أقول: وماذا يضره ذلك؟ إنما المقصود من الاسم المعرفة وقد عرف بأبي هريرة، وأصح ما قيل في اسمه عبد الله أو عبد الرحمن، وهو على ما نسبه ابن الكلبي وغيره: ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأزدي ثم الدوسي، وأمه أميمة بنت صفيح بن الحارث بن سابي بن أبي صعب…إلخ.
قال: (ص153) (نشأته وأصله… لم يعرفوا شيئًا عن نشأته ولا عن تاريخه قبل إسلامه غير ما ذكر هو عن نفسه….: «نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رحلي، فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدوا إذا ركبوا، وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها».
102
أقول: أما أصله فقد تقدم، وهو من قبيلة شريفة كريمة عزيزة، وأما نشأته فما أكثر الصحابة الذين لا تعرف نشأتهم حتى من خيارهم وكبارهم، وأما قوله: «نشأت يتيمًا... إلخ»، فهذه القصة رويت من أوجه في إسناد كل منها مقال، ومجموعها يثبت أصل القصة، فأما الألفاظ التي تنفرد بها بعض الروايات فلا، وفي الإصابة أن بسرة هذه أخت عتبة بن غزوان السلمي، وبلاد دوس بعيدة جدًا عن بلاد بني سليم فيظهر أن أبا هريرة في هجرته إلى النبي مر ببلاد بني سليم أو قريبًا منها، فوجد رفقة راحلين نحو المدينة وفيهم بسرة هذه فصحبهم على أن يخدمهم في الطريق ويطعموه ويعقبوه. ولا يدفع هذا ما ثبت في صحيح البخاري من قوله: «لما قدمت على النبي قلت في الطريق:
يا ليلة من طولها وعنائها ** على أنها من دارة الكفر نجّتِ
قال: وأبق لي غلام في الطريق، فلما قدمت على رسول الله فبايعته، فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال: يا أبا هريرة! هذا غلامك، فقلت: هو حر لوجه الله. فأعتقه» انظر فتح الباري (8: 79) فقد يكون الغلام أبق منه قبل صحبته للرفقة، وبهذا تبين أن في القصة منقبتين له: الأولى أن إخدامه لنفسه إنما كان ليبلغ إلى النبي ودار الإسلام، والثانية أنه مع قلة ذات يده أعتق غلامه، شكرًا لله تعالى على إبلاغه مقصده. وفي القصة عبرة بالغة، فإنه لما أذل نفسه بخدمة تلك المرأة استعانة على الهجرة في سبيل الله عوّضه الله تعالى بأن زوجه إياها تخدمه فوق ما خدمها، ثم كان على طريقته في التواضع والتحدث بالنعمة والاعتبار مع الميل إلى المزاح يذكر هذه القصة ويشير إلى تكليف امرأته بخدمته على نحو ما كانت تكلفه. وقد يكون وقع منه ذلك مرة أو مرتين على سبيل المزاح ومداعبة الأهل وتحقيق العبرة، وقد ثبت عن أبي المتوكل الناجي وهو ثقة أن أبا هريرة كانت له أمة زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يومًا ثم قال: «لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه -يعني الله عز وجل- اذهبي فأنت حرة لله عز وجل» انظر البداية (8: 112). فمن كانت هذه حاله مع أمة مهينة، فما عسى أن تكون حاله مع امرأته الحرة الشريفة؟ ولكن أبا رية ذكر (ص187) بعض الألفاظ التي انفردت بها بعض الروايات. [28] ثم راح يسب أبا هريرة رضي الله عنه ويرميه بما هو من أبعد الناس عنه.
103
وهذا مما يوضح أن أبا رية ليس بصدد بحث علمي، إنما صدره محشو براكين من الغيظ والغل والحقد يحاول أن يخلق المناسبات للترويح عن نفسه منها، كأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل في أصحاب نبيه: { لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ } ولا يصدق بدعاء النبي لأبي هريرة وأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، كما في ترجمته في فضائل الصحابة من صحيح مسلم.
وقال (ص153): (إسلامه. قدم أبو هريرة بعد أن تخطى الثلاثين من عمره).
أقول: كذا زعم الواقدي عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، والواقدي متروك، وكثير ضعيف، وقد قال الواقدي نفسه: إن أبا هريرة مات (سنة 59) وعمره (78)، ومقتضى هذا أن يكون عمره عند قدومه سنة سبع نحو ست وعشرين سنة، وهذا أشبه. والله أعلم
وفي الصحابة الطفيل بن عمرو الدوسي وهو من رهط أبي هريرة بني ثعلبة بن سليم بن فهم، أسلم قبل الهجرة وقصته مطولة في السيرة وغيرها، وفي ترجمته من الإصابة أنه لما عاد بعد إسلامه إلى قومه –وذلك قبل الهجرة بمدة- دعا قومه إلى الإسلام فلم يجبه إلا أبوه وأبو هريرة، فعلى هذا يكون إسلام أبي هريرة قبل الهجرة، وإنما تأخرت هجرته إلى زمن خيبر.
وذكر أبو رية (ص153) مقاولة أبي هريرة وأبان بن سعيد بن العاص وقول أبان: «واعجبًا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن» وعلق في الحاشية: (الوبر: دابة، والمعنى: أن أبا هريرة ملتصق في قريش وشبهه بما يعلق بوبر الشاة) وهذا من تحقيق أبي رية‍! وليس أبو هريرة من قريش في شيء لا ملصق ولا غير ملصق. وقوله: (وشبهه) يقتضي أن الرواية (وبر) بالتحريك، ولو كان كذلك لما بقي لقوله: (الوبر دابة) معنى، وعلق أيضًا (ومما يلفت النظر أن النبي لم يؤاخذ أبانًا بما أغلظ لأبي هريرة) وأقول: ليس ذاك بإغلاظ مع أنه إنما كان جوابًا ومكافأة.
وقال (ص154): (ولفقره اتخذ سبيله إلى الصفة، فكان أشهر من أمها، ثم صار عريفًا لمن كان يسكنونها) وعلق عليها عن أبي الفداء تعريفًا لأهل الصفة كما توهم، وقد عرفهم أبو هريرة رضي الله عنه التعريف الحق فقال كما في الصحيحين وغيرهما: «وأهل الصفة أضياف الإسلام
104
لا يأوون على أهل ولا مال... إلخ» وقد قال الله تبارك وتعالى: { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ } الآية. كان للأنصار حوائط فيعملون فيها ويأكلون من غلتها، وكان كثير من المهاجرين يتاجرون، ومن الواضح أن التجارة في المدينة وهي محوطة بالمشركين من كل جانب لم تكن لتتسع للمهاجرين كلهم، فبقي بعضهم بالصفة، وكان أهل الصفة يقومون بفروض عظيمة، منها: تلقي القرآن والسنن، فكانت الصفة مدرسة الإسلام، ومنها: حراسة النبي ص، ومنها: الاستعداد لتنفيذ أوامره وحاجاته في طلب من يريد طلبه من المسلمين وغير ذلك، كانوا قائمين بهذه الفروض عن المسلمين، فكانت نفقتهم على سائر المسلمين وإن سميت صدقة، وكانوا بجوار النبي ص يؤثرهم على نفسه وأهل بيته، وقد حدث علي رضي الله عنه أنه قال لفاطمة عليها السلام يومًا: «والله لقد سنوتُ حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباكِ بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي... » الحديث، وفيه أنهما أتيا النبي ص فذكرا له ذلك فقال: «والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم…» الحديث، انظر مسند أحمد الحديث (838). وكان أبو هريرة من بين أهل الصفة يخدم النبي ص ويدور معه، فلم يكن ليجوع إلا والنبي ص وأهل بيته جياع، فهل في ذلك الجوع من عيب؟