أقول: أخرج أحمد وأبو داود بسند جيد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: «لا عدوى ولا طيرة ولا هام، إن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار». انظر مسند أحمد الحديث (502، 554). وفي فتح الباري (6: 45) الطيرة والشؤم بمعنى واحد. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار». لفظ البخاري في كتاب الجهاد، باب: ما يذكر من شؤم الفرس. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: «إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن» زاد مسلم: (يعني: الشؤم). وجاء نحوه بسند جيد عن أم سلمة وزادت: «والسيف» راجع فتح الباري (6: 47) وفي صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعًا: «إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس».
أما روايته عن أبي هريرة فعزاه أبو رية إلى تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وقد رواه الإمام أحمد
125
في المسند (6: 150 و 240 و 246) من طريق قتادة عن أبي حسان، وليس بالصحيح عن عائشة؛ لأن قتادة مدلس ولو صح عن عائشة لما صح المنسوب إلى أبي هريرة لجهالة الرجلين، وليس في شيء من روايات أحمد لفظ (كذب)، ولو صحت لكانت بمعنى (أخطأ) كما يدل عليه آخر الحديث. وقد تبين أنه لا خطأ، فقد رواه جماعة من الصحابة كما علمت، فأما معناه والجمع بينه وبين الآية فيطلب من مظانه.
قال أبو رية: (وأنكر عليه ابن مسعود قوله: «من غسل ميتًا... وقال فيه قولًا شديدًا ثم قال: يا أيها الناس! لا تنجسوا موتاكم»).
أقول: عزاه إلى جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/85) وهو هناك بغير إسناد، وفي سنن البيهقي (1: 307) عن ابن مسعود: «إن كان صاحبكم نجسًا فاغتسلوا وإن كان مؤمنًا فلم تغتسل؟» وسنده واهٍ، وقد جاء الغسل من غسل الميت من حديث علي وفعله ومن حديث عائشة وحذيفة وأبي سعيد والمغيرة، راجع سنن البيهقي (1: 299-307) والتلخيص الحبير (ص50 و 157). فمن أهل العلم من يستحب، ومنهم من يوجب، ومنهم من يقول: منسوخ، ومنهم من ينكر. ويظهر لي أن من جعله من باب التطهر لحدث أو نجس قد أبعد، ومن أنكره لأن الميت ليس بنجس قد أبعد؛ وإنما هو لمعنى آخر، والعارفون بعلم النفس والصحة يرون له تعلقًا بذلك، والله أعلم.
قال ولما روى حديث: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» فقال له مروان: «أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة».
أقول: تصرف أبو رية في هذا، والحديث في سنن أبي داود في آخره: «قال: فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا. ولكنه اجترأ وجبنا، قال فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا» وقد تقدم (ص119) مع بعض ما يناسبه.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن».
قال أبو رية: (ولا نستوفي ذكر انتقاد الصحابة له والشك في رواياته…).
أقول: قد اتضح بحمد الله عز وجل الجواب عما ذكر، ومنه يعلم حال ما لم يذكر.
قال: (وقد امتد الإنكار عليه واتهامه في رواياته إلى من بعد الصحابة).
أقول: قد تبين أنه لم يتهمه أحد من الصحابة، بل أثنوا عليه وسمعوا منه ورووا عنه، وسيأتي تمام ذلك
126
وتبين قيام حجته الواضحة في أكثر ما انتقد عليه، وعذره الواضح في ما بقي، وبذلك سقط ما يخالفه من كلام من دونهم، وسنرى.
قال: (روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: «أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر، وفي رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب) فقيل له في ذلك، فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله؛ وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ».
أقول: عزا أبو رية هذه الحكاية إلى مختصر كتاب المؤمل لأبي شامة، وأبو شامة من علماء الشافعية في القرن السابع، بينه وبين محمد بن الحسن عدة قرون، ولا ندري من أين أخذ هذا، وقد احتاج العلامة الكوثري في رسالته الترحيب (ص24) إلى هذه الحكاية، ومع سعة اطلاعه على كتب أصحابه الحنفية وغيرهم لم يجد لها مصدرًا إلا مصدر أبي رية هذا. وحكاية مثل هذه عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة لا توجد في كتب الحنفية أي قيمة لها.
هذا والحكاية لا تتعرض للأحاديث التي يرويها الصحابة، وإنما تتعلق بقول الصحابي الموقوف عليه هل يجوز لمن بعده مخالفته برأيه. فحاصلها أن أبا حنيفة يقول: إنه لا يخالف قول أحد من الصحابة برأيه سوى أولئك الثلاثة. فأقول: أما أنس فيراجع طليعة التنكيل الطبعة الثانية (ص101 و 108). وأما أبو هريرة فقوله فيه: (يروي كل ما سمع) يعني بها كل ما سمعه من الأحاديث، وليس هذا بطعن في روايته ولا هو المقصود، وإنما هو مرتبط بما بعده وهو قوله: (من غير…) والمدار على هذا، يقول: إنه لأجل هذا لا يوثق بما قاله برأيه إذ قد يأخذه من حديث منسوخ ونحو ذلك، وسيأتي ما فيه. [38]
وفي الحاشية: (قال في مرآة الوصول وشرحها مرقاة الأصول من أصول الحنفية رحمهم الله في بحث الراوي: وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيها تقبل منه الرواية مطلقًا سواء وافق القياس أوخالفه. وإن لم يكن فقيها (كأبي هريرة وأنس) رضي الله عنهما فترد روايته).
أقول: في هذا أمران، الأول أن الصواب في مرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول. الثاني أن مؤدى العبارة على ما نقله أبو رية رد رواية أبي هريرة وأنس ونحوهما مطلقًا، لكن تمام العبارة في مصدره: (إن لم يوافق -الحديث الذي رواه- قياسًا أصلًا، حتى إن وافق قياسًا وخالف قياسًا تقبل) على أن
127
هذا القول قد رده محققو الحنفية، قال ابن الهمام في التحرير: (وأبو هريرة) فقيه قال شارحه ابن أمير الحاج (2: 251) لم يعدم شيئًا من أسباب الاجتهاد، وقد أفتى في زمن الصحابة، ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من بين صحابي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس، وهذا هو الصحيح).
ذكر أبو رية في الحاشية أن قوله: (يروي كل ما سمع) إشارة إلى حديث: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما يسمع».
أقول: هذا الحديث عام يشمل ما يسمع مما يعلم أو يظن أنه كذب، وأبو هريرة إنما كان يحدث بالعلم، بما يعلم أو يعتقد أنه صدق، فأين هذا من ذاك؟
وقال (ص170): (وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجئني عن رسول الله يخالف قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال: ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان؟ قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالًا، وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك).
أقول: لم يذكر مصدره. وهذه عادته (الحميدة) في تدليس بلاياه، ثم وجدت مصدره وهو شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1: 360) عن أبي جعفر الإسكافي فراجع ما تقدم (ص109). ولا ريب أن هذا لا يصح عن أبي يوسف ولا أبي حنيفة، والمعروف عنهما وعن أصحابهما في كتب العقائد والأصول وغيرها ما عليه سائر أهل السنة أن الصحابة كلهم عدول، وإنما يقول بعضهم: إن فيهم من ليس بفقيه أو مجتهد، قال ابن الهمام في التحرير: (… يقسم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة والعبادلة، فيقدم على القياس مطلقًا، وعدل ضابط كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدم، إلا إن خالف كل الأقيسة على قول عيسى والقاضي أبي زيد…. ) ثم قال بعد ذلك: (أبو هريرة مجتهد) كما تقدم. وغير عيسى وأبي زيد ومن تبعه يرون تقديم الخبر مطلقًا. راجع فواتح الرحموت (2: 145).