أقول: قد تقدم أن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ويقول لأحدهم فيما سمعه من أخبار عن النبي : (قال النبي …) وكان ذلك يفهم على الاحتمال بدون إيهام لاشتهار عرفهم به قبل عرف المحدثين. وقد أخذ أبو هريرة عن غيره من الصحابة في حياة النبي وعقب وفاته ثم طال عمره حتى كانت قضية هذا الحديث في إمارة مروان على المدينة وذلك في خلافة معاوية، وكان معظم الصحابة قد ماتوا، فما الذي يستغرب من أن يكون مخبر أبي هريرة قد مات؟ وقد تقدم بيان الأدلة الواضحة على صدق أبي هريرة وحديثه هذا، لكن انظر إلى عبارة أبي رية في قوله: (فاستشهد… كما قال ابن قتيبة…) ألا ترى أن هذا الخبر يعطي بأن ابن قتيبة قال ذلك من عنده وأنه رأيه، لكن الواقع أن ابن قتيبة إنما حكى ذلك عن النظام بعد أن وصفه بما تقدم ثم رد عليه، فماذا تقول في أبي رية؟
ثم قال (ص168): (وكان علي رضي الله عنه سيئ الرأي فيه، وقال عنه: ألا إنه أكذب الناس، أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة).
أقول: لم يذكر أبو رية مصدره فنفضحه، وكأنه أخذ هذا من كتاب عبد الحسين الرافضي { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ }. انظر (ص119).
ثم رأيت مصدره وهو شرح النهج لابن أبي الحديد (1: 360) حكاية عن الإسكافي، ومع تهور ابن أبي الحديد والإسكافي فالعبارة هناك: (وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال…. ) ولكن أبا رية يجزم. راجع (ص109).
قال: ولما سمع أنه يقول: (حدثني خليلي). قال له: متى كان النبي خليلك؟
أقول: هذا من دعاوي النظام على علي؛ وقد كان أبو ذر يقول هذه الكلمة، والنبي خليل كل مؤمن وإن لم يكن أحد من الخلق خليلًا له لقوله: «لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبي بكر». والخليل كالحبيب فكما أنه لا يلزم من كون إنسان حبيبك أن تكون حبيبه فكذلك الخليل، والخلة أعظم من المحبة فلا يلزم من نفي الخلة نفي المحبة.
قال أبو رية: (ولما روى حديث: «متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء123فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به عائشة وقالت: كيف نصنع بالمهراس) وعلق عليه: (المهراس: صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤنه ماء ويتطهرون).
أقول: قد أسلفت (ص108) أن عائشة لم تتكلم في هذا الحديث بحرف، وإنما يروى عن رجل يقال له قين الأشجعي، [37] أنه قال لأبي هريرة لما ذكر الحديث: «فكيف تصنع إذا جئنا مهراسكم هذا؟» قال أبو هريرة: «أعوذ بالله من شرك». كره أبو هريرة أن يقول مثلًا: إن المهراس ليس بإناء، والعادة أن يكون ماء الإناء قليلًا، وماء المهراس كثيرًا، أو يقول: أرأيت لو كانت يدك ملطخة بالقذر؟ أو يقول: إن وجدت ماء غيره أو وجدت ما تغرف به فذاك وإلا رجوت أن تعذر، أو نحو ذلك؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يتورع عن تشقيق المسائل، ويدع ذلك لمن هو أجرأ وأشد غوصًا على المعاني منه. وقد كان النبي ص يلتزم في الوضوء أن يغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثبت ذلك من حديث عثمان وعبد الله بن زيد، ولا يخفى ما في ذلك من رعاية النظافة والصحة.
قال أبو رية: (ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب).
أقول: عزاه إلى البداية (8: 109) وهو هناك عن ابن إسحاق عن عمر -أو عثمان – ابن عروة بن الزبير عن عروة قال: قال لي أبي الزبير: «أدنني من هذا اليماني -يعني أبا هريرة- فإنه يكثر الحديث عن رسول الله ص فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب. صدق، كذب. قال قلت: يا أبتِ! ما قولك: صدق، كذب؟ قال: يا بني! إما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله ص فلا أشك فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه»).
أقول: في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «إنكم تقرءون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ص يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه» انظر تفسير ابن كثير (3: 257): فالوضع على غير الموضع ليس بتغيير اللفظ، فإن الناس لم يغيروا من لفظ الآية شيئًا، وإنما هو الحمل على المحمل الحقيقي، ومثال ذلك في الحديث أن124يذكر أبو هريرة حديث النهي عن الادخار من لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وحديث النهي عن الانتباذ في الدباء والنقير والمزفت، فيرى الزبير أن النهي عن الادخار إنما كان لأجل الدافة، وأن النهي عن الانتباذ في تلك الآنية إنما كان إذ كانوا حديثي عهد بشرب الخمر، لأن النبيذ في تلك الآنية يسرع إليه التخمر، فقد يتخمر فلا يصبر عنه حديث العهد بالشرب ونحو ذلك. وأن أبا هريرة إذ أخبر بذلك على إطلاقه يفهمه الناس على إطلاقه، وذلك وضع له على غير موضعه، ففي القصة شهادة الزبير لأبي هريرة بالصدق في النقل، فأما ما أخذه عليه فلا يضر، فإن في الأحاديث الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وقد يعلم الصحابي هذا دون ذاك، فعليه أن يبلغ ما سمعه، والعلماء بعد ذلك يجمعون الأحاديث والأدلة ويفهون كلًا منها بحسب ما يقتضيه مجموعها. وراجع (ص32).
قال أبو رية (ص169) وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله: «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار، فطارت شققا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدث بهذا عن رسول الله ص، إنما قال رسول الله ص: كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا }».
أقول: أخرج أحمد وأبو داود بسند جيد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: «لا عدوى ولا طيرة ولا هام، إن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار». انظر مسند أحمد الحديث (502، 554). وفي فتح الباري (6: 45) الطيرة والشؤم بمعنى واحد. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار». لفظ البخاري في كتاب الجهاد، باب: ما يذكر من شؤم الفرس. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: «إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن» زاد مسلم: (يعني: الشؤم). وجاء نحوه بسند جيد عن أم سلمة وزادت: «والسيف» راجع فتح الباري (6: 47) وفي صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعًا: «إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس».
أما روايته عن أبي هريرة فعزاه أبو رية إلى تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وقد رواه الإمام أحمد125في المسند (6: 150 و 240 و 246) من طريق قتادة عن أبي حسان، وليس بالصحيح عن عائشة؛ لأن قتادة مدلس ولو صح عن عائشة لما صح المنسوب إلى أبي هريرة لجهالة الرجلين، وليس في شيء من روايات أحمد لفظ (كذب)، ولو صحت لكانت بمعنى (أخطأ) كما يدل عليه آخر الحديث. وقد تبين أنه لا خطأ، فقد رواه جماعة من الصحابة كما علمت، فأما معناه والجمع بينه وبين الآية فيطلب من مظانه.
قال أبو رية: (وأنكر عليه ابن مسعود قوله: «من غسل ميتًا... وقال فيه قولًا شديدًا ثم قال: يا أيها الناس! لا تنجسوا موتاكم»).
أقول: عزاه إلى جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/85) وهو هناك بغير إسناد، وفي سنن البيهقي (1: 307) عن ابن مسعود: «إن كان صاحبكم نجسًا فاغتسلوا وإن كان مؤمنًا فلم تغتسل؟» وسنده واهٍ، وقد جاء الغسل من غسل الميت من حديث علي وفعله ومن حديث عائشة وحذيفة وأبي سعيد والمغيرة، راجع سنن البيهقي (1: 299-307) والتلخيص الحبير (ص50 و 157). فمن أهل العلم من يستحب، ومنهم من يوجب، ومنهم من يقول: منسوخ، ومنهم من ينكر. ويظهر لي أن من جعله من باب التطهر لحدث أو نجس قد أبعد، ومن أنكره لأن الميت ليس بنجس قد أبعد؛ وإنما هو لمعنى آخر، والعارفون بعلم النفس والصحة يرون له تعلقًا بذلك، والله أعلم.
قال ولما روى حديث: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» فقال له مروان: «أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة».
أقول: تصرف أبو رية في هذا، والحديث في سنن أبي داود في آخره: «قال: فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا. ولكنه اجترأ وجبنا، قال فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا» وقد تقدم (ص119) مع بعض ما يناسبه.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن».
قال أبو رية: (ولا نستوفي ذكر انتقاد الصحابة له والشك في رواياته…).
أقول: قد اتضح بحمد الله عز وجل الجواب عما ذكر، ومنه يعلم حال ما لم يذكر.
قال: (وقد امتد الإنكار عليه واتهامه في رواياته إلى من بعد الصحابة).
أقول: قد تبين أنه لم يتهمه أحد من الصحابة، بل أثنوا عليه وسمعوا منه ورووا عنه، وسيأتي تمام ذلك126وتبين قيام حجته الواضحة في أكثر ما انتقد عليه، وعذره الواضح في ما بقي، وبذلك سقط ما يخالفه من كلام من دونهم، وسنرى.
قال: (روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: «أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر، وفي رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب) فقيل له في ذلك، فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله؛ وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ».
أقول: عزا أبو رية هذه الحكاية إلى مختصر كتاب المؤمل لأبي شامة، وأبو شامة من علماء الشافعية في القرن السابع، بينه وبين محمد بن الحسن عدة قرون، ولا ندري من أين أخذ هذا، وقد احتاج العلامة الكوثري في رسالته الترحيب (ص24) إلى هذه الحكاية، ومع سعة اطلاعه على كتب أصحابه الحنفية وغيرهم لم يجد لها مصدرًا إلا مصدر أبي رية هذا. وحكاية مثل هذه عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة لا توجد في كتب الحنفية أي قيمة لها.
هذا والحكاية لا تتعرض للأحاديث التي يرويها الصحابة، وإنما تتعلق بقول الصحابي الموقوف عليه هل يجوز لمن بعده مخالفته برأيه. فحاصلها أن أبا حنيفة يقول: إنه لا يخالف قول أحد من الصحابة برأيه سوى أولئك الثلاثة. فأقول: أما أنس فيراجع طليعة التنكيل الطبعة الثانية (ص101 و 108). وأما أبو هريرة فقوله فيه: (يروي كل ما سمع) يعني بها كل ما سمعه من الأحاديث، وليس هذا بطعن في روايته ولا هو المقصود، وإنما هو مرتبط بما بعده وهو قوله: (من غير…) والمدار على هذا، يقول: إنه لأجل هذا لا يوثق بما قاله برأيه إذ قد يأخذه من حديث منسوخ ونحو ذلك، وسيأتي ما فيه. [38]
وفي الحاشية: (قال في مرآة الوصول وشرحها مرقاة الأصول من أصول الحنفية رحمهم الله في بحث الراوي: وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيها تقبل منه الرواية مطلقًا سواء وافق القياس أوخالفه. وإن لم يكن فقيها (كأبي هريرة وأنس) رضي الله عنهما فترد روايته).
أقول: في هذا أمران، الأول أن الصواب في مرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول. الثاني أن مؤدى العبارة على ما نقله أبو رية رد رواية أبي هريرة وأنس ونحوهما مطلقًا، لكن تمام العبارة في مصدره: (إن لم يوافق -الحديث الذي رواه- قياسًا أصلًا، حتى إن وافق قياسًا وخالف قياسًا تقبل) على أن127هذا القول قد رده محققو الحنفية، قال ابن الهمام في التحرير: (وأبو هريرة) فقيه قال شارحه ابن أمير الحاج (2: 251) لم يعدم شيئًا من أسباب الاجتهاد، وقد أفتى في زمن الصحابة، ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من بين صحابي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس، وهذا هو الصحيح).
ذكر أبو رية في الحاشية أن قوله: (يروي كل ما سمع) إشارة إلى حديث: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما يسمع».
أقول: هذا الحديث عام يشمل ما يسمع مما يعلم أو يظن أنه كذب، وأبو هريرة إنما كان يحدث بالعلم، بما يعلم أو يعتقد أنه صدق، فأين هذا من ذاك؟
وقال (ص170): (وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجئني عن رسول الله يخالف قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال: ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان؟ قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالًا، وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك).
أقول: لم يذكر مصدره. وهذه عادته (الحميدة) في تدليس بلاياه، ثم وجدت مصدره وهو شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1: 360) عن أبي جعفر الإسكافي فراجع ما تقدم (ص109). ولا ريب أن هذا لا يصح عن أبي يوسف ولا أبي حنيفة، والمعروف عنهما وعن أصحابهما في كتب العقائد والأصول وغيرها ما عليه سائر أهل السنة أن الصحابة كلهم عدول، وإنما يقول بعضهم: إن فيهم من ليس بفقيه أو مجتهد، قال ابن الهمام في التحرير: (… يقسم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة والعبادلة، فيقدم على القياس مطلقًا، وعدل ضابط كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدم، إلا إن خالف كل الأقيسة على قول عيسى والقاضي أبي زيد…. ) ثم قال بعد ذلك: (أبو هريرة مجتهد) كما تقدم. وغير عيسى وأبي زيد ومن تبعه يرون تقديم الخبر مطلقًا. راجع فواتح الرحموت (2: 145).
ثم حكى أبو رية ما روي عن إبراهيم: (كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، كانوا يرون في حديث أبي هريرة شيئًا ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شر جاء بالقرآن، دعني من حديث أبي هريرة، إنهم كانوا يتركون كثيرًا من حديثه).
أقول: ذكر ابن كثير في البداية (8: 109) بعض هذه الكلمات عن ابن عساكر، ولم يسق السند بتمامه، وباقيها أخذه أبو رية من شرح النهج لابن أبي الحديد (1: 360) حكاه ابن أبي الحديد عن الإسكافي، وراجع (ص 109). وقد تقدم (ص121) أخذ إبراهيم بحديث أبي هريرة الذي أخبرت عائشة بخلافه فترك أبو هريرة128الإفتاء به وقال: «إنما حدثنيه الفضل بن عباس» وأخذه به يدل على ثقة بالغة بأبي هريرة وحديثه، ثم إن صحت تلك الكلمات أو بعضها فقوله: (كان أصحابنا) يريد بهم أشياخه من الكوفيين وإليهم يرجع الضمير في قوله: (كانوا) وحق هذه الكلمات -إن صحت عن إبراهيم – أن تنتقد عليه لا على أبي هريرة. وقد تقدم بيان حال أبي هريرة عند الصحابة وثناؤهم عليه وسماعهم منه وروايتهم عنه، ويأتي لذلك مزيد، وبان سقوط كل ماخالف ذلك من مزاعم أهل البدع وظهرت حجة أبي هريرة فيما انتقده بعضهم عليهم، ثم إن التابعين من أهل الحجاز وعلمائه وهم أبناء علماء الصحابة وتلاميذهم والذين حضروا مناظرتهم لأبي هريرة وعرفوا حقيقة رأيهم فيه أطبقوا هم وعلماء البصرة والشام وسائر الأقطار -سوى ما حكي عن بعض الكوفيين- على الوثوق التام بأبي هريرة وحديثه. وقد كان بين الكوفيين والحجازيين تباعد، والكوفيون نشأوا على الأحاديث التي عرفوها من رواية الصحابة الذين كانوا عندهم، ثم حاولوا تكميل فقههم بالرأي وجروا على مقتضاه، ثم كانوا إذا جاءهم بعد ذلك حديث بخلاف ما قد جروا عليه وألفوه تلكأوا في قبوله وضربوا له الأمثال، وإذ كان أبو هريرة مكثرًا كانت الأحاديث التي جاءتهم عنه بخلاف رأيهم أكثر من غيره، فلهذا ثقل على بعضهم بعض حديثه، وساعد على ذلك ما بلغهم أن بعض الصحابة قد انتقد بعض أحاديث أبي هريرة، وقد كان أهل الحجاز أيضًا ينفرون عن الأحاديث التي تأتيهم عن أهل العراق حتى اشتهر قولهم: نزلوا أهل العراق منزلة أهل الكتاب، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وعلى كل حال فقد انحصر مذهب أهل العراق في أصحاب أبي حنيفة، وقد علمت بأن أبا هريرة عندهم عدل ضابط، واعتراف محققيهم بأنه مع ذلك فقيه مجتهد، والأحاديث التي يخالفونها من مروياته سبيلها سبيل ما يخالفونه من مرويات غيره من الصحابة، والحق أحق أن يتبع، والله الموفق.
قال أبو رية (ص171): (وقال أبو جعفر الإسكافي: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي بالرواية).
أقول:
وقد زادني حبًا لنفسي أنني ** بغيض إلى كل امرئ غير طائل
قال: (ضربه عمر وقال: «أكثرت من الحديث، وأحرى بك أن تكون كاذبًا على رسول الله»).
أقول: عزاه أبو رية إلى شرح النهج لابن أبي الحديد، وقد مر النظر فيه (ص 109) وراجع (ص 119).
قال: وفي الإحكام للآمدي (أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته.. ).
أقول: قد فرغنا من هذا.
129قال: (وجرت مسألة المصراة في مجلس الرشيد، فتنازع القوم فيها وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة، فرد بعضهم الحديث وقال: أبو هريرة متهم، ونحا نحوه الرشيد).
أقول: جواب الحكاية في تتمتها التي حذفها أبو رية وأخفى المصدر، وقد كنت وقفت عليها بتمامها في تاريخ بغداد أحسب، ولم أهتدِ إليها الآن، وقد كان يحضر مجلس الرشيد بعض رءوس البدعة كبشر المريسي.
وذكر أبو رية كلامًا لجولدزيهر اليهودي وغيره من المستشرقين لا شأن لنا به؛ لأننا نعرف هؤلاء وافتراءهم على رسول الله وعلى القرآن، وراجع (ص72 و 94 و 99).
وقال أبو رية (ص172): (أخذه عن كعب الأحبار…. اليهودي الذي أظهر إسلامه خداعًا وطوى قلبه على يهوديته).
أقول: قد تقدم النظر في حال كعب بما فيه كفاية، وسيلقى المجازف عاقبة تهجمه، { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }.
ثم ذكر رواية بعض الصحابة عن كعب، وقد تقدم النظر في ذلك (ص73 و 110 و 115).
قال: (ويبدو أن أبا هريرة كان أول الصحابة انخداعا وثقة فيه).
أقول: إنما الثابت أنه حكى عنه شيئًا مما نسبه كعب إلى صحف أهل الكتاب، وليس في هذا ما يدل على ثقة.
قال: (ورواية عنه وعن إخوانه).
أقول: إننا نتحدى أبا رية أن يجمع عشر حكايات مختلفة يثبت أن أبا هريرة رواها عن كعب، فأما إخوانه فعبد الله بن سلام لا يطعن فيه مسلم، وتميم الداري قريب منه، ولعله لا يثبت لأبي هريرة عن كل منهما إلا خبر واحد.
وذكر كلامًا من تهويله تعرف قيمته من النظر في شواهده.
قال: (فقد روى الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمة أبي هريرة أن كعبًا قال فيه -أي في أبي هريرة -: «ما رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة». ورواية البيهقي في المدخل من [39] طريق بكر بن عبد الله عن [40] أبي رافع أن أبا هريرة لقي كعبًا فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: «ما رأيت رجلًا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة».
أقول: هي حكاية واحدة. فالذي في كتاب الذهبي: (الطيالسي أخبرنا عمران القطان عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع…) فذكرها. وعمران القطان ضعيف ولا يتحقق سماعه من بكر؛ وفي القرآن والسنة قصص كثيرة مذكورة في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب الآن، فإذا تتبعها أبو هريرة وصار يذكرها لكعب كان ذلك كافيًا لأن يقول كعب تلك الكلمة، ففيم التهويل الفارغ؟
130قال: (ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلام هذا الكاهن بالنص ويجعله حديثًا مرفوعًا ما نورد لك شيئًا منه، روى البزار [عن أبي سلمة] عن أبي هريرة عن النبي قال: «إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة». فقال الحسن: «وما ذنبهما؟ فقال [أبو سلمة]: أحدثك عن رسول الله وتقول: ما ذنبهما؟» وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصه، فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب: «يجاء بالشمس والقمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفن في جهنم».
أقول: عزاه أبو رية إلى حياة الحيوان، وسيأتي ما فيه. قال البخاري في باب صفة الشمس والقمر من بدء الخلق من صحيحه: حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: «الشمس والقمر مكوران يوم القيامة».
وفي فتح الباري (6: 214) أن البزار والإسماعيلي والخطابي أخرجوه من طريق يونس بن محمد بن عبد العزيز بن المختار، وزادوا بعد كلمة "مكوران": (في النار).
أما حياة الحيوان للدميري مصدر أبي رية فإنه ذكر أولًا حديث البخاري، ثم حديث البزار وفيه (ثوران) كما مر، وظاهر ما في فتح الباري أو صريحه أن الذي في رواية البزار والإسماعيلي والخطابي (مكوران) كرواية البخاري لا (ثوران) [41] ثم قال الدميري: وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي من طريق درست بن زياد عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال: «الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» وقال كعب الأحبار: «يجاء الشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم ليراهما من عبدهما» كما قال الله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية.
درست ويزيد تالفان، فالخبر عن أنس وكعب ساقط، مع أنه لم يتبين من القائل: (قال كعب…)، وبهذا يعلم بعض أفاعيل أبي رية. فأما المتن كما رواه البخاري فمعناه في كتاب الله عز وجل، ففي سورة القيامة: { وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وفي سورة التكوير: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ }.
وزيادة غير البخاري "في النار" يشهد لها قول الله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }. وفي صحيح البخاري وغيره من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا في صفة الحشر: «ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب131الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم» والحديث في صحيح مسلم، وفيه: «فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار». وفي الصحيحين حديث حدث به أبو هريرة، وأبو سعيد حاضر يستمع له فلم يرد عليه شيئًا، إلا كلمة في آخره وفيه: «يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت…» ويوافق ذلك قوله تعالى في فرعون: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ }.
وإن صحت كلمة (ثوران) أو (ثوران عقيران) كما في خبر أبي يعلى على سقوط سنده فذلك والله أعلم تمثيل، وقد ثبت أن المعاني تمثل يوم القيامة كما يمثل الموت بصورة كبش وغير ذلك، فما بالك بالأجسام؟ ومن الحكمة في تمثيل الشمس والقمر أن عبادهما يعتقدون لهما الحياة، والمشهور بعبادة الناس له من الحيوان العجل فمثلًا من جنسه، وفي الفتح (قال الإسماعيلي: لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما، فإن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذابًا وآلة من آلات العذاب وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة) فأنت ترى شهادة القرآن والأحاديث الصحيحة لحديث أبي هريرة، ولم يثبت عن كعب شيء، ولو ثبت لكان المعقول أنه هو الآخذ لذلك عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة.
وقول الحسن لأبي سلمة (وما ذنبهما) قد عرفت جوابه، وهو يمثل حال أهل العراق في استعجال النظر فيما يشكل عليهم. وجواب أبي سلمة يمثل حال علماء الحجاز في التزام ما يقضي به كمال الإيمان من المسارعة إلى القبول والتسليم ثم يكون النظر بعد، وجوابه وسكوت الحسن يبين مقدار كمال الوثوق من علماء التابعين بأبي هريرة وثقته وإتقانه وأن ما يحكى مما يخالف ذلك إنما هو من اختلاق أهل البدع، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف من كبار أئمة التابعين بالمدينة مكثر الرواية عن الصحابة كأبي قتادة وأبي الدرداء وعائشة وأم سلمة وابن عمر وأبي هريرة، فهو من أعلم الناس بحال أبي هريرة في نفسه وعند سائر الصحابة رضي الله عنهم.
قال أبو رية (ص174): (وروى الحاكم في المستدرك والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: «إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض عنقه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شانك، فيرد عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا»، وهذا الحديث من قول كعب الأحبار.132ونصه: «إن لله ديكًا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض، فإذا صاح صاحت الديكة فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره».
أقول: عزا هذا إلى نهاية الأرب للنويري، والنويري أديب من أهل القرن السابع، ولا يدرى من أين أخذ هذا. والحديث يروى عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، منهم جابر والعرس بن عميرة وعائشة وثوبان وابن عمر وابن عباس وصفوان بن عسال وأبو هريرة. ذكر ابن الجوزي حديث جابر والعرس في الموضوعات، وتعقبه السيوطي وذكر رواية الآخرين. راجع اللآلئ المصنوعة (1: 32). أما عن أبي هريرة فهو من طريق إسرائيل عن معاوية بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ومعاوية لم يخرج له مسلم وأخرج له البخاري حديثًا واحدًا متابعة، وقد قال فيه أبو زرعة: (شيخ واهٍ) ووثقه بعضهم. والمقبري اختلط قبل موته بأربع سنين، ولفظ الخبر مع ذلك مخالف لما نسبه النويري إلى كعب.
قال أبو رية: (وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: «النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة»، وهذا القول نفسه رواه كعب إذ قال: «أربعة أنهار وصفها الله عز وجل في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة»).
أقول: أما حديث: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا، وذكر القاضي عياض فيه وجهين ثانيهما أنه كناية أو بشارة عن أن الإيمان يعم بلادها، وتقريبه أنه بحذف مضاف، أي أنهار أهل الجنة وهم المسلمون. فأما خبر كعب فيروى عن عبد الله بن صالح كاتب الليث -وهو متكلم فيه- عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب؛ وأبو الخير لم يدرك كعبًا فإن صح فإنما أخذ كعب حديث أبي هريرة وزاد فيه ما زاد أخذًا من قول الله عز وجل: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } وكأنه يرى أن في الجنة حقيقة أنهار سميت بأسماء أنهار الدنيا. والله أعلم. [42]
ثم قال أبو رية: (وقال ابن كثير في تفسيره إن حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج… لعل أبا هريرة تلقاه من كعب، فإنه كان كثيرًا ما كان يجالسه ويحدثه).
أقول: تتمة عبارة ابن كثير: (فحدث به أبو هريرة [عن كعب] فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه).133وفي كلام أبي رية: (وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب)، وهذا كذب، إنما قال ابن كثير: (لكن هذا (يعني المعنى بل بعضه) قد روي عن كعب…) وساق بعضه ولم يذكر سنده ولا من أخرجه. وصنيع ابن كثير هنا غير جيد من أوجه لا أطيل بذكرها.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 15 (0 من الأعضاء و 15 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)