والقرآن يبين أن خلق السموات والأرض كان في ستة أيام، أربعة منها للأرض ويومان للسماء. الثالث: أنه مخالف للآثار القائلة إن أول الستة يوم الأحد، وهو الذي تدل عليه أسماء الأيام: الأحد، الاثنان، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس.
فلهذا حاولوا إعلاله، فأعله ابن المديني بأن إبراهيم بن أبي يحيى قد رواه عن أيوب، قال ابن المديني: (وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا عن إبراهيم بن أبي يحيى). انظر الأسماء والصفات (ص276)، يعني وإبراهيم مرمي بالكذب فلا يثبت الخبر عن أيوب ولا من فوقه.
ويرد على هذا أن إسماعيل بن أمية ثقة عندهم غير مدلس، فلهذا والله أعلم لم يرتض البخاري قول شيخه ابن المديني وأعل الخبر بأمر آخر، فإنه ذكر طرفه في ترجمة أيوب من التاريخ (1/ 1/ 413) ثم قال: (وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب. وهو أصح). ومؤدى صنيعه أن يحدس أن أيوب أخطأ، وهذا الحدس مبني على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لما مر. الثاني: أن أيوب ليس بالقوي وهو مقل لم يخرج مسلم إلا هذا الحديث لما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين، وتكلم فيه الأزدي ولم ينقل توثيقه عن أحد من الأئمة إلا أن ابن حبان ذكره في ثقاته، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف. الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله: (وقال بعضهم) وليته ذكر سندها ومتنها فقد تكون ضعيفة في نفسها وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين. ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب وعبد الله بن سلام ووهب بن منبه ومن يأخذ عنهم أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم وعليه بنوا قولهم في السبت. انظر الأسماء والصفات (ص272 و 275) وأوائل تاريخ ابن جرير. وفي الدر المنثور (3: 91) (أخرج ابن أبي شيبة عن كعب قال: «بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وجعل كل يوم ألف سنة» وأسنده ابن جرير في أوائل التاريخ (1: 22) الحسينية) واقتصر على أوله: «بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين» فهذا يدفع أن يكون ما في الحديث من قول كعب.
و أيوب لا بأس به، وصنيع ابن المديني يدل على قوته عنده. وقد أخرج له مسلم في صحيحه كما علمت وإن لم يكن حده أن يحتج به في الصحيح. فمدار الشك في هذا الحديث على الاستنكار، وقد يجاب عنه بما يأتي:
أما الوجه الأول: فيجاب عنه بأن الحديث وإن لم ينص على خلق السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس النور، وفي السادس الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما
137
الأجرام السماوية. والذي فيه أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدل على أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل على أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئًا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطور بما أودعه الله تعالى فيها. والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن.
ويجاب عن الوجه الثاني: بأنه ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل على أن خلق آدم كان في الأيام الستة ولا في القرآن ولا السنة ولا المعقول أن خالقية الله عز وجل وقفت بعد هذا بل هذا معلوم البطلان. وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عمار قبل آدم عاشوا فيها دهرًا فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السموات والأرض.
فتدبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضح لك إن شاء الله أن دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد.
وأما الوجه الثالث: فالآثار القائلة أن ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعًا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبد الله بن سلام وكعب ووهب ومن يأخذ عن الإسرائيليات. وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدًا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت وانتشرت فلم ير ضرورة إلى تغييرها؛ لأن إقرار الأسماء التي قد عرفت واشتهرت وانتشرت لا يعد اعترافًا بمناسبتها لما أخذت منه أو بنيت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك وإنما تدل على مسمياتها فحسب، ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي، فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام.
وقد ذكر السهيلي في الروض الآنف (1: 271) هذه القضية وانتصر لقول ابن إسحاق وغيره الموافق لهذا الحديث حتى قال: (والعجب من الطبري على تبحره في العلم كيف خالف مقتضى هذا الحديث وأعنق في الرد على ابن إسحاق وغيره ومال إلى قول اليهود أن الأحد هو الأول…).
وفي بقية كلامه لطائف: منها إن تلك التسمية خصت خمسة أيام لم يأت في القرآن منها شيء، وجاء فيه
138
اسما اليومين الباقيين -الجمعة والسبت- لأنه لا تعلق لها بتلك التسمية المدخولة.
ومنها أنه على مقتضى الحديث يكون الجمعة سابعًا وهو وتر مناسب لفضل الجمعة كما ورد: «إن الله وتر يحب الوتر» ويضاف إلى هذا يوم الإثنين فإنه على هذا الحديث يكون الثالث وهو المناسب لفضله، وفي الصحيح: «فيه ولدت وفيه أنزل عليَّ» فأما الخميس فإنما ورد فضل صومه وقد يوجه ذلك بأنه لما امتنع صوم اليوم الفاضل وهو الجمعة؛ لأنه عيد الأسبوع عوض عنه بصوم اليوم الذي قبله، وفي ذلك ما يقوي شبه الجمعة بالعيد، وفي الصحيحين في حديث الجمعة: «نحن الآخرون السابقون…» والمناسب أن يكون اليوم الذي للآخرين هو آخر الأيام.
هذا وفي البداية لابن كثير (1: 71): (وقد رواه النسائي في التفسير عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن محمد بن الصباح عن أبي عبيدة الحداد عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة: إن رسول الله ص أخذ بيدي فقال: «يا أبا هريرة، إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت…» وذكر بتمامه بنحوه. فقد اختلف على ابن جريج).
أقول: في صحة هذه الرواية عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح نظر لا أطيل ببيانه، فمن أحب التحقيق فليراجع تهذيب التهذيب (7: 213) وفتح الباري (8: 511) ومقدمته (ص373) وترجمتي أخضر وعثمان بن عطاء من الميزان وغيره. والله الموفق.
ثم قال أبو رية: (ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث بسماعه من النبي ص وأنه قد أخذ بيده حين حدثه به. وإني لأتحدى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث وجميع من هم على شاكلتهم في غير بلادنا أن يحلوا لنا هذا المشكل، وأن يخرجوا بعلمهم الواسع شيخهم من الهوة التي سقط فيها…).
أقول: لم يقع شيخنا رضي الله عنه في هوة، ولا قال أحد من أهل العلم إنه وقع فيها. أما إذا بنينا على صحة الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله ص -وهو الحق إن شاء الله- فواضح، وأما على ما زعمه ابن المديني فلم يصح عن أبي هريرة ولا عمن روى عنه ولا عن الثالث شيء
139
من هذا، لا قوله: (أخذ رسول الله بيدي فقال) ولا قوله (خلق الله التربة…).
وأما على حدس البخاري فحاصله أن أيوب غلط، وقع له عن أبي هريرة خبران، أحدهما: «(أخذ رسول الله ص بيدي فقال... » فذكر حديثًا صحيحًا غير هذا. والثاني (قال كعب: «خلق الله التربة يوم السبت... ») فالتبس المقولان على أيوب فجعل مقول كعب موضع قول رسول الله ص، وقد تقدم (ص117)، وقول بسر بن سعيد أنه سمع بعض من كان معهم في مجلس أبي هريرة (يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب).
أما البيهقي فلم يقل شيئًا من عنده إنما قال: (زعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى…) فذكر قول ابن المديني، وأما ابن كثير فإنما قال: (فكأن هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبي ص وأكد رفعه بقوله: «أخذ رسول الله ص بيدي» فابن كثير جعل هذه الجملة من زيادة الراوي الواهم (وهو أيوب في حدس البخاري) وهذا أيضًا لا يمس أبا هريرة، ولكن