وهذا الحديث مداره على قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة، رواه عن قتادة فيما وقفت عليه ثلاثة: الأول: شيبان بن عبد الرحمن في مسند أحمد (2: 523). الثاني: أبو عوانة في سنن الترمذي ومستدرك الحاكم (4: 488) الثالث: سعيد بن أبي عروبة في تفسير ابن جرير (16: 16) وسنن ابن ماجه ومسند أحمد (2: 532).
فأما شيبان وأبو عوانة: ففي روايتهما (… قتادة عن أبي رافع).
وأما سعيد: فرواه عنه فيما وقفت عليه ثلاثة: الأول يزيد بن زريع عند ابن جرير وفيه أيضًا: (… قتادة عن أبي رافع). الثاني: عبد الأعلى بن عبد الأعلى عند ابن ماجه وفيه: (… قتادة قال حدث أبو رافع) هكذا نقله ابن كثير في تفسيره طبعة بولاق (6: 173) وطبعة المنار (5: 333)، ومخطوط مكتبة الحرم المكي، وهكذا في سنن ابن ماجه نسخ مكتبة الحرم المكي المخطوطة وهي أربع، وطبعة عمدة المطابع بدلهي في الهند سنة (1273)، ووقع في أربع نسخ مطبوعة هنديتين ومصريتين: (… قتادة قال حدثنا أبو رافع) مع أن سياق السند من أوله فيها هكذا (حدثنا أزهر بن مروان ثنا عبد الأعلى ثنا سعيد عن قتادة…) فلو كان في الأصل: (قال حدثنا) لاختصر في الأصول المخطوطة لهذه النسخ الأربع إلى (ثنا) كسابقيه في أثناء السند، ولكنه جهل الطابعين، حسبوا أنه لا يقال: (حدث فلان) وإنما يقال: (حدثنا فلان) فأصلحوه بزعمهم، وتبع متأخرهم متقدمهم والله المستعان. الثالث: روح بن عبادة عند أحمد وفيه: (… قتادة ثنا أبو رافع) وأحسب هذا خطأ من ابن المذهب راوي المسند عن القطيعي عن عبد الله بن أحمد وفي ترجمته من الميزان واللسان قول الذهبي: (الظاهر من ابن المذهب أنه شيخ ليس بمتقن، وكذلك شيخه ابن مالك، ومن ثم وقع في المسند أشياء غير محكمة المتن ولا الإسناد) ومن المحتمل أن يكون الخطأ من روح، فإن كلًا من يزيد وعبد الأعلى أثبت منه، وقتادة مشهور بالتدليس، فلو كان الخبر عند سعيد عنه مصرحًا فيه بالسماع لحرص سعيد على أن يرويه كذلك دائمًا134بل أطلق أبو داود أن قتادة لم يسمع من أبي رافع، وظاهره أنه لم يسمع منه شيئًا، ولكن نظر فيه ابن حجر، على كل حال فلم يثبت تصريح قتادة في هذا بالسماع، فلم يصح الخبر عن أبي رافع، وأبو رافع هو نفيع البصري مخضرم ثقة لا يظن به أن يخطيء الخطأ الذي أشار إليه ابن كثير، فلو صح الخبر عنه لزم تصحيحه عن أبي هريرة، ولو صح عن أبي هريرة لصح عن النبي ، ولو صح مع ذلك أن كعبًا أخبر بما يشبهه لكان محمله الطبيعي أن كعبًا سمع الحديث من أبي هريرة أو غيره من الصحابة فاقتبس منه خبره، لكن الخبر لم يصح عن أبي رافع فلم يصح عن أبي هريرة فلم يصح عن النبي ، ولا ندري ممن سمعه قتادة. والله أعلم
قال أبو رية: (وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إن الله خلق آدم على صورته». وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة ونصه هناك: وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه).
أقول: قد علم الجن والإنس أن في الكتاب الموجود بأيدي أهل الكتاب مسمى بالتوراة ما هو حق وما هو باطل وأن في القرآن كثيرًا من الحق الذي في التوراة وكذلك في السنة، فإذا كان هذا منه كان ماذا؟ والكلام في معناه معروف. [43]
وعلق أبو رية في الحاشية بذكر ما ورد في سياق الحديث أن طول آدم كان ستين ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص، واستشكال ابن حجر له بما يوجد من مساكن الأمم السالفة.
أقول: لم يتحقق بحجة قاطعة كم مضى للجنس البشري منذ خلق آدم؟ وما في التوراة لا يعتمد عليه، وقد يكون خلق ستين ذراعًا فلما أهبط إلى الأرض نقص من طوله دفعة واحدة ليناسب حال الأرض إلا أنه بقي أطول مما عليه الناس الآن بقليل، ثم لم يزل ذلك القليل يتناقص في الجملة. والله أعلم، وفي فتح الباري (6: 260) (روى ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن أبي بن كعب مرفوعًا: «إن الله خلق آدم رجلًا طوالًا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق»).
وقال في حاشية (ص 175) (وأنكر مالك هذا الحديث وحديث: «إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة، وأنه… يدخل في النار يده حتى يدخل من أراد» إنكارًا شديدًا).
أقول: لم يذكر أبو رية مصدره إن كان له مصدر، والحديث الثالث أحسبه يريد به حديث الصحيحين عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وفيه: «فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامًا» ومالك رحمه الله يؤمن بهذه الأحاديث ونظائرها الكثيرة في الكتاب والسنة.
135قال: (وحديث كشف الساق من رواية أبي هريرة في الصحيحين…).
أقول: هذا كذب، وإنما هو في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري، وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود، وآخر من حديث أبي موسى، رضي الله عنهم.
قال أبو رية (ص175) (ولما ذكر كعب صفة النبي في التوراة قال أبو هريرة في صفته : «لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق». وهذا من كلام كعب كما أوردناه من قبل).
أقول: ثبتت هذه الفقرة في خبر عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة النبي في التوراة، وجاء نحوه عن عبد الله بن سلام وعن كعب كما (ص71). أما أبو هريرة ففي المسند (2: 448) من طريق صالح مولى التوأمة وهو ضعيف: (سمعت أبا هريرة ينعت النبي فقال: «كان شبح الذراعين، أهدب أشفار العينين، بعيد ما بين المنكبين، يقبل إذا أقبل جميعًا، ويدبر إذا أدبر جميعًا» زاد بعض الرواة: «بأبي وأمي لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا بالأسواق» وقد علم أبو هريرة معنى هذه الفقرة يقينًا بالمشاهدة والصحبة، فأي شيء عليه في أخذ لفظها مما ذكره عبد الله بن عمرو أو غيره؟
قال: (وروى مسلم عن أبي هريرة: أخذ رسول الله بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة…» وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار؛ لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام).
أقول: هذا الخبر رواه جماعة عن ابن جريج قال: (أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ…) وفي الأسماء والصفات للبيهقي (ص176) عن ابن المديني أن هشام بن يوسف رواه عن ابن جريج.
وقد استنكر بعض أهل الحديث هذا الخبر، ويمكن تفصيل سببب الاستنكار بأوجه:
الأول: أنه لم يذكر خلق السماء، وجعل خلق الأرض في ستة أيام.
الثاني: أنه جعل الخلق في سبعة أيام.
والقرآن يبين أن خلق السموات والأرض كان في ستة أيام، أربعة منها للأرض ويومان للسماء. الثالث: أنه مخالف للآثار القائلة إن أول الستة يوم الأحد، وهو الذي تدل عليه أسماء الأيام: الأحد، الاثنان، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس.
فلهذا حاولوا إعلاله، فأعله ابن المديني بأن إبراهيم بن أبي يحيى قد رواه عن أيوب، قال ابن المديني: (وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا عن إبراهيم بن أبي يحيى). انظر الأسماء والصفات (ص276)، يعني وإبراهيم مرمي بالكذب فلا يثبت الخبر عن أيوب ولا من فوقه.
ويرد على هذا أن إسماعيل بن أمية ثقة عندهم غير مدلس، فلهذا والله أعلم لم يرتض البخاري قول شيخه ابن المديني وأعل الخبر بأمر آخر، فإنه ذكر طرفه في ترجمة أيوب من التاريخ (1/ 1/ 413) ثم قال: (وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب. وهو أصح). ومؤدى صنيعه أن يحدس أن أيوب أخطأ، وهذا الحدس مبني على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لما مر. الثاني: أن أيوب ليس بالقوي وهو مقل لم يخرج مسلم إلا هذا الحديث لما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين، وتكلم فيه الأزدي ولم ينقل توثيقه عن أحد من الأئمة إلا أن ابن حبان ذكره في ثقاته، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف. الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله: (وقال بعضهم) وليته ذكر سندها ومتنها فقد تكون ضعيفة في نفسها وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين. ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب وعبد الله بن سلام ووهب بن منبه ومن يأخذ عنهم أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم وعليه بنوا قولهم في السبت. انظر الأسماء والصفات (ص272 و 275) وأوائل تاريخ ابن جرير. وفي الدر المنثور (3: 91) (أخرج ابن أبي شيبة عن كعب قال: «بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وجعل كل يوم ألف سنة» وأسنده ابن جرير في أوائل التاريخ (1: 22) الحسينية) واقتصر على أوله: «بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين» فهذا يدفع أن يكون ما في الحديث من قول كعب.
و أيوب لا بأس به، وصنيع ابن المديني يدل على قوته عنده. وقد أخرج له مسلم في صحيحه كما علمت وإن لم يكن حده أن يحتج به في الصحيح. فمدار الشك في هذا الحديث على الاستنكار، وقد يجاب عنه بما يأتي:
أما الوجه الأول: فيجاب عنه بأن الحديث وإن لم ينص على خلق السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس النور، وفي السادس الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما137الأجرام السماوية. والذي فيه أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدل على أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل على أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئًا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطور بما أودعه الله تعالى فيها. والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن.
ويجاب عن الوجه الثاني: بأنه ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل على أن خلق آدم كان في الأيام الستة ولا في القرآن ولا السنة ولا المعقول أن خالقية الله عز وجل وقفت بعد هذا بل هذا معلوم البطلان. وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عمار قبل آدم عاشوا فيها دهرًا فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السموات والأرض.
فتدبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضح لك إن شاء الله أن دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد.
وأما الوجه الثالث: فالآثار القائلة أن ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعًا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبد الله بن سلام وكعب ووهب ومن يأخذ عن الإسرائيليات. وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدًا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت وانتشرت فلم ير ضرورة إلى تغييرها؛ لأن إقرار الأسماء التي قد عرفت واشتهرت وانتشرت لا يعد اعترافًا بمناسبتها لما أخذت منه أو بنيت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك وإنما تدل على مسمياتها فحسب، ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي، فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام.
وقد ذكر السهيلي في الروض الآنف (1: 271) هذه القضية وانتصر لقول ابن إسحاق وغيره الموافق لهذا الحديث حتى قال: (والعجب من الطبري على تبحره في العلم كيف خالف مقتضى هذا الحديث وأعنق في الرد على ابن إسحاق وغيره ومال إلى قول اليهود أن الأحد هو الأول…).
وفي بقية كلامه لطائف: منها إن تلك التسمية خصت خمسة أيام لم يأت في القرآن منها شيء، وجاء فيه138اسما اليومين الباقيين -الجمعة والسبت- لأنه لا تعلق لها بتلك التسمية المدخولة.
ومنها أنه على مقتضى الحديث يكون الجمعة سابعًا وهو وتر مناسب لفضل الجمعة كما ورد: «إن الله وتر يحب الوتر» ويضاف إلى هذا يوم الإثنين فإنه على هذا الحديث يكون الثالث وهو المناسب لفضله، وفي الصحيح: «فيه ولدت وفيه أنزل عليَّ» فأما الخميس فإنما ورد فضل صومه وقد يوجه ذلك بأنه لما امتنع صوم اليوم الفاضل وهو الجمعة؛ لأنه عيد الأسبوع عوض عنه بصوم اليوم الذي قبله، وفي ذلك ما يقوي شبه الجمعة بالعيد، وفي الصحيحين في حديث الجمعة: «نحن الآخرون السابقون…» والمناسب أن يكون اليوم الذي للآخرين هو آخر الأيام.
هذا وفي البداية لابن كثير (1: 71): (وقد رواه النسائي في التفسير عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن محمد بن الصباح عن أبي عبيدة الحداد عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة: إن رسول الله ص أخذ بيدي فقال: «يا أبا هريرة، إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت…» وذكر بتمامه بنحوه. فقد اختلف على ابن جريج).
أقول: في صحة هذه الرواية عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح نظر لا أطيل ببيانه، فمن أحب التحقيق فليراجع تهذيب التهذيب (7: 213) وفتح الباري (8: 511) ومقدمته (ص373) وترجمتي أخضر وعثمان بن عطاء من الميزان وغيره. والله الموفق.
ثم قال أبو رية: (ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث بسماعه من النبي ص وأنه قد أخذ بيده حين حدثه به. وإني لأتحدى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث وجميع من هم على شاكلتهم في غير بلادنا أن يحلوا لنا هذا المشكل، وأن يخرجوا بعلمهم الواسع شيخهم من الهوة التي سقط فيها…).
أقول: لم يقع شيخنا رضي الله عنه في هوة، ولا قال أحد من أهل العلم إنه وقع فيها. أما إذا بنينا على صحة الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله ص -وهو الحق إن شاء الله- فواضح، وأما على ما زعمه ابن المديني فلم يصح عن أبي هريرة ولا عمن روى عنه ولا عن الثالث شيء139من هذا، لا قوله: (أخذ رسول الله بيدي فقال) ولا قوله (خلق الله التربة…).
وأما على حدس البخاري فحاصله أن أيوب غلط، وقع له عن أبي هريرة خبران، أحدهما: «(أخذ رسول الله ص بيدي فقال... » فذكر حديثًا صحيحًا غير هذا. والثاني (قال كعب: «خلق الله التربة يوم السبت... ») فالتبس المقولان على أيوب فجعل مقول كعب موضع قول رسول الله ص، وقد تقدم (ص117)، وقول بسر بن سعيد أنه سمع بعض من كان معهم في مجلس أبي هريرة (يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب).
أما البيهقي فلم يقل شيئًا من عنده إنما قال: (زعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى…) فذكر قول ابن المديني، وأما ابن كثير فإنما قال: (فكأن هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبي ص وأكد رفعه بقوله: «أخذ رسول الله ص بيدي» فابن كثير جعل هذه الجملة من زيادة الراوي الواهم (وهو أيوب في حدس البخاري) وهذا أيضًا لا يمس أبا هريرة، ولكن
الصواب ما تقدم. ثم قال أبو رية: (ص176): (وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها… وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته». [44]
أقول: هذا الخبر نظر فيه الذهبي في ترجمة خالد بن مخلد من الميزان وابن حجر في الفتح (11: 92): لأنه لم يرو عن أبي هريرة إلا بهذا السند الواحد: محمد بن عثمان بن كرامة، [45] حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة). ومثل هذا التفرد يريب في صحة الحديث مع أن خالدًا له مناكير، وشريكًا فيه مقال. وقد جاء الحديث بأسانيد فيها ضعف من حديث علي ومعاذ وحذيفة وعائشة وابن عباس وأنس، فقد يكون وقع خطأ لخالد أو شريك، سمع المتن من بعض تلك الأوجه الأخرى المروية عن علي أو غيره ممن سلف ذكره، وسمع حديثًا آخر بهذا السند ثم التبسا عليه فغلط، روى هذا المتن بسند الحديث الآخر. فإن كان الواقع هكذا فلم يحدث أبو هريرة بهذا،140وإلا فهو جملة من الأحاديث التي تحتاج ككثير من آيات القرآن إلى تفسير، وقد فسره أهل العلم بما تجده في الفتح وفي الأسماء والصفات (ص345-348)، وقد أومأ البخاري إلى حاله فلم يخرجه إلا في باب التواضع من كتاب الرقاق.
قال أبو رية: (ومن له حاسة شم الحديث يجد في هذا الحديث رائحة إسرائيلية).
أقول: قد علمنا أن كلام الأنبياء كله حق من مشكاة واحدة، وأن الرب الذي أوحى إلى أنبياء بني إسرائيل هو الذي أوحى إلى محمد . ولو جاز الحكم بالرائحة لما ساغ أدنى تشكك في حكم البخاري؛ لأنه أعرف الناس برائحة الحديث النبوي، وبالنسبة إليه يكون أبو رية أخشم فاقد الشم أو فاسده.
وعلق في الحاشية أيضًا: (يبدو أن أستاذ أبي هريرة في هذا الحديث هو وهب بن منبه، فقد وقع في الحلية في ترجمة هذا.. إني لأجد في كتب الأنبياء أن الله تعالى يقول: «ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن».
أقول: في سنده من لم أعرفه، وقد ذكروا أن وهبًا روى عن أبي هريرة، ولم يذكروا أن أبا هريرة حكى شيئًا عن وهب، ووهب صغير إنما ولد في أواخر خلافة عثمان، وإن صح حديث البخاري عن أبي هريرة فالمعقول إن كان أحدهما أخذ عن الآخر أن يكون وهب أخذه عن أبي هريرة أو بلغه عنه. ووهب مع صغره مولود في الإسلام من أبوين مسلمين فتوسعه في قراءة كتب الأوائل إنما يكون في كبره بعد وفاة أبي هريرة بمدة. وهذا تنازل مني إلى عقل أبي رية وأشباهه، فأما الحقيقة فمكانة أبي هريرة رضي الله عنه أعلى وأشمخ وأثبت وأرسخ من أن يحتاج المدافع عنه إلى مثل ما ذكرت.
ثم قال أبو رية (ص177) (وقد بلغ من دهاء كعب الأحبار واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته أن كان يلقنه ما يريد بثه في الدين الإسلامي من خرافات وترهات، حتى إذا رواها أبو هريرة عاد فصدق أبا هريرة… وإليك مثلًا من ذلك… روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إن شئتم { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ }». ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب فقال: صدق، والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد… ومن العجيب أن يروي هذا الخبر الغريب وهب بن منبه…).
أقول: عزا أبو رية هذا إلى تفسير ابن كثير (4: 513-514) كذبًا، وأبدله في التصويبات (4: 289)، وهو كذب أيضًا. وإنما ذكر ابن كثير الحديث وما يتعلق به (8: 187-189)، ذكره من حديث أربعة141من الصحابة ثلاثة في الصحيحين أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسهل بن سعد، وواحد في صحيح البخاري فقط وهو أنس، قال ابن كثير: (فهذا حديث ثابت عن رسول الله بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث)، ولم أجد هناك ذكرًا لوهب، إنما ذكر ابن كثير أثرا عن ابن عباس بمعنى الحديث وفيه زيادة، وقال هذا أثر غريب إسناده جيد قوي حسن). وأين ابن عباس من وهب بن منبه؟ { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ }.
ثم قال أبو رية (ضعف ذاكرته: كان أبو هريرة يذكر عن نفسه أنه كان كثير النسيان لا تكاد ذاكرته تمسك شيئًا مما يسمعه، ثم زعم أن النبي دعا له فأصبح لا ينسى شيئًا يصل إلى أذنه، وقد ذكر ذلك كي يسوغ كثرة أحاديثه ويثبت في أذهان السامعين صحة ما يرويه).
أقول: في باب ما جاء في الغرس في صحيح البخاري من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة (…. وقال النبي : «لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا. فبسطت نمرة…ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا». هذه الرواية صريحة في اختصاص عدم النسيان بما حدث به النبي في ذاك المجلس.
وفي باب الحجة على من قال: … إلخ، من كتاب الاعتصام من صحيح البخاري أيضًا من طريق الزهري عن الأعرج أيضًا عن أبي هريرة: «…وقال: من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه فإنه لن ينسى شيئًا سمعه مني؟ فبسطت بردة كانت علي فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئًا سمعته منه».
في هذه الرواية إطلاق، ولكن السياق ونص الرواية الأولى يقضي بالتقييد.
وفي أوائل البيوع من صحيح البخاري أيضًا من طريق الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة (.. وقد قال رسول الله في حديث يحدثه: «إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع ثوبه إلا وعى ما أقول: فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى رسول الله مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله تلك من شيء».
وهذه الرواية صريحة في الاختصاص أيضًا.
وفي باب حفظ العلم من صحيح البخاري أيضًا من طريق ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة: «قلت: يا رسول الله! إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه. قال: ابسط رداءك، قال: فبسطته، قال: فغرف بيديه142ثم قال: ضم. فضممت، فما نسيت شيئًا بعد».
هذه الرواية تصف فيما يظهر واقعة أخرى، فكأن أبا هريرة لما استفاد من الواقعة الأولى حفظ المقالة التي حدث بها النبي ص في ذاك المجلس على وجهها رغب في المزيد فقال للنبي ص: «إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه» وهذا القول لا يقتضي كما لا يخفى نسيان كل ما يسمع ولا نسيان المقالة التي تقدم خبرها. على أن المنهوم قد يحمله حرصه على المبالغة في الشكوى. وتقدم (ص100) ذكر شهادة النبي ص لأبي هريرة بأنه أحرص الصحابة على العلم، وقد تقدم (ص105) ما يتعلق بذلك، وليس في هذه الرواية ذكر نص عن النبي ص بعدم النسيان لشيء بعد ذلك، وإنما فيها قول أبي هريرة «فما نسيت شيئًا بعد» يعني شيئًا من الحديث؛ لأن الشكوى إنما كانت من نسيانه، وهذه الكلمة بناها على اعتقاده حين قالها فلا يمتنع أن ينسى بعد ذلك شيئًا من الحديث أو أن يتبين أنه قد كان نسي ولم يستحضر ذلك.
ثم قال أبو رية (ص 178): (روى مسلم عن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، والله الموعد، كنت رجلًا مسكينًا أخدم رسول الله على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله: من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني. فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه ثم ضممته إليَّ فما نسيت شيئًا سمعته منه».
قال مسلم: (إن مالكًا انتهى حديثه عند انقضاء قول أبي هريرة. ولم يذكر في حديثه الرواية عن النبي: «من يبسط ثوبه…» إلخ. ولا ريب في أن رواية مالك هي الصحيحة؛ لأن الكلام بعد ذلك مفكك الأوصال، ولا صلة بينه وبين الذي قبله).
أقول: كلمة أبي رية الأخيرة: (لا ريب أن رواية مالك هي الصحيحة…) تعطي أن الصحيح عن أبي هريرة هو ما اقتصر عليه مالك فقط، ولا يخفى أن هذا يناقض قول أبي رية سابقًا: (ثم زعم أن النبي دعا له) ويناقض كلامه الآتي: (على أن هذه الذاكرة…) فكلام أبي رية متناقض حتمًا، لا مفكك الأوصال فحسب، أما ما زعمه أن الخبر بتلك الزيادة مفكك الأوصال لا صلة بينه وبين الذي قبله، فإنما جاء ذلك من اختيار أبي رية للفظ مسلم، والخبر في مواضع من صحيح البخاري مرت الإشارة إليها، وسياقه هناك سليم.
143ثم قال أبو رية: (على أن هذه الذاكرة… قد خانته في مواضع كثيرة، وإن ثوبه الذي بسطه قد تمزق فتناثر ما كان بين أطرافه، وإليك أمثلة من ذلك. روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، ولكن الصحابة عملوا بما يخالفه، فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد أن رسول الله قال: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» وقد جاء الحديث كذلك عن عبد الرحمن بن عوف. ولما سمع عمر هذين الحديثين وحديث: «لا يوردن ممرض على مصح…» -وهو مما رواه أبو هريرة – وكان قد خرج إلى الشام ووجد الوباء عاد بمن معه، وقد اضطر أبو هريرة إزاء هذه الأخبار القوية إلى أن يعترف بنسيانه، ثم أنكر روايته الأولى، وفي رواية يونس: قال الحارث بن [أبي] ذباب ابن عم أبي هريرة، قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع حديث: «لا يوردن ممرض على مصح… إلخ» حديث: «لا عدوى»، فأنكر معرفته لذلك، ووقع عند الإسماعيلي من رواية شعيب: فقال الحارث ابن عم أبي هريرة: «إنك حدثتنا، فأنكر أبو هريرة وغضب، وقال: لم أحدثك ما تقول».
أقول: ها هنا أمور تبين لنا تهور أبي رية ومجازفته:
الأول: حديث: «لا عدوى…» لم ينفرد به أبو هريرة، بل هو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وأنس، وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر.
الثاني: أن عمل الصحابة ليس مخالفًا له، وقد جمع بينهما أهل العلم بما هو معروف، ولبعض العصريين قول سأحكيه لينظر فيه. زعم أن العرب كانوا يعتقدون أن العدوى تحصل بالمجاورة وحدها بدون سبب آخر، حتى لو كان في شعر امرأة وثيابها قمل كثير فقامت إلى جانبها امرأة أخرى ثم بعد أيام قمل شعر الأخرى وثيابها لما سموا هذا عدوى؛ لأنهم يعرفون أنه لم يكن للمجاورة نفسها وإنما دب القمل من تلك إلى هذه ثم تكاثر، قال وحديثا: «لا يورد ممرض على مصح» و«فر من المجذوم فرارك من الأسد» يفيدان انتقال الجرب والجذام، وقد ثبت أنه لا يكون بالمجاورة نفسها وإنما يكون بانتقال ديدان صغيرة جدًا من هذا إلى ذاك فهو من قبيل انتقال القمل وليس من العدوى بالمعنى الذي كانوا يعتقدون.
الثالث: أن المنقول أن عمر رجع لخبر عبد الرحمن بن عوف وحده، ولم ينقل أن عمر علم بخبر أسامة ولا خبر:144«لا يورد ممرض على مصح» كما زعم أبو رية.
الرابع: أن الخبر في الطاعون استفاض في عهد عمر، وبقي أبو هريرة يحدث بحديث: «لا عدوى…» زمانًا بعد ذلك، حتى سمعه منه أبو سلمة وغيره ممن لم يدرك عمر.
الخامس: قول أبي رية (وقد اضطر…) يعطي أن أبا هريرة لم ينس الحديث، فما معنى قوله بعد ذلك: (وأن يعترف بنسيانه) مع إيراده القصة شاهدًا على النسيان كما زعم؟
السادس: لم يأتِ أبو رية بدليل ولا شبه دليل على دعواه أن أبا هريرة اعترف بأنه نسي.
السابع: اختلف الرواة عن الزهري في حكاية القصة، وأحسنهم سياقًا يونس بن يزيد الأيلي، وقد شهد له ابن المبارك بأن كتابه صحيح وأنه كتب حديث الزهري على الوجه -ي كما تلفظ به الزهري– وفي روايته في صحيح مسلم بعد كلام الحارث: (فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك وقال: «لا يورد ممرض على مصح» «فماراه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن بالحبشية فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا، قال أبو هريرة: قلت: أبيت». قال أبو سلمة: «ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله قال: «لا عدوى... » فلا أدري نسي أبو هريرة أم نسخ أحد القولين الآخر»؟
ولو صرح أبو هريرة بنفي أن يكون حدثهم من قبل لجزم أبو سلمة بالنسيان، [46] لكن لما سكت أبو هريرة عن الحديث وامتنع أن يجيبهم سألوه وغضب وقال: أبيت، فهم بعض الرواة من ذلك إنكاره، فعبر بعضهم عن قول أبي سلمة (فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك) بقوله: (أنكر أبو هريرة الحديث الأول) ولا يخفى الفرق، فقوله: (أبى أن يعرف) إنما معناه: امتنع أن يقول: نعم قد عرفت. وهذا الامتناع لا يفهم منه الإخبار بنفي المعرفة. ثم جاء بعض من بعدهم فعبر عن الإنكار بنسبته إلى أبي هريرة أنه قال: «لم أحدثك» كما وقع عند الإسماعيلي من طريق شعيب ولا أدري ما سنده؟ وأصل حديث شعبة عند مسلم لكن لم يسق لفظه، وعند الطحاوي في مشكل الآثار (2: 262) وليس فيه هذه الكلمة، وكأن أبا هريرة حدث بالحديثين مرة، فتشكك بعض الناس في الجمع بينهما فرأى أبو هريرة أن التحديث بهما مظنة أن يقع لبعض الناس ارتياب أو تكذيب فاختار الاقتصار على أحدهما وهو الذي يتعلق به حكم عملي: «لا يورد ممرض على مصح» وسكت على الآخر وود أن لا يكون حدث به قبل ذلك، فلما145سئل عنه أبى أن يعترف به راجيًا أن يكون في ذلك الإباء ما يمنع الذين كانوا سمعوا منه أن يحدثوا به عنه.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 12 (0 من الأعضاء و 12 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)