أقول: قول أبي رية (بلغه عنه… إلخ) من تظني أبي رية، وستعلم بطلانه. وأما ما ذكره بعد ذلك فلم يعزه إلى كتاب. وسأذكر ما أثبته المتحرون من أهل العلم، وأقدم قبل ذلك مقدمة:
154كان عمر رضي الله عنه يحب للصحابة ما يحب لنفسه، فكان يكره لأحدهم أن يدخل عليه مال فيه رائحة شبهة، وله في ذلك أخبار معروفة في سيرته، كان معاذ بن جبل من خيار أصحاب النبي ص، جاء عن النبي ص أنه قال: «يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء برتوة» وقال أيضًا: «وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» وكان معاذ سمحًا كريمًا، فركبته ديون، فقسم النبي ص ماله بين غرمائه، ثم بعثه على اليمن ليجبره، فعاد بعد وفاة النبي ص ومعه مال لنفسه، فلقيه عمر فأشار عليه أن يدفع المال إلى أبي بكر ليجعله في بيت المال، فأبى وقال: «إنما بعثني رسول الله ص ليجبرني، ثم رأى رؤيا فسمحت نفسه فذهب إلى أبي بكر وبذل له المال، فقال أبو بكر: قد وهبته لك. فقال عمر: الآن حل وطاب». يعني أن الشبهة التي كانت فيه هي احتمال أن يكون فيه حق لبيت المال فلما طيبه له أبو بكر -وهو الإمام- صار كأنه أعطاه من بيت المال، لاعتقاده أنه مستحق، فبذلك حل وطاب (انظر ترجمة معاذ من الاستيعاب والمستدرك (3: 272 } فلما استخلف عمر جرى على احتياطه فكان يقاسم عماله أموالهم، فيجعل ما يأخذه منهم في بيت المال. قال ابن سيرين: (فكان يأخذ منهم ثم يعطيهم أفضل من ذلك) كما سيأتي، وكان عمر يتخوف عليهم أن يكون الناس راعوهم في تجارتهم ومكاسبهم لأجل الإمارة، فكان يأخذ منهم ما يأخذ ويضعه في بيت المال لتبرأ ذممهم، ثم يعطيهم بعد ذلك من بيت المال بحسب ما يرى من استحقاقهم، فيكون حلًا لهم بلا شبهة، وقد قاسم من خيارهم سعد بن أبي وقاص وغيره كما ذكره ابن سعد وغيره.
وكان عمر رضي الله عنه للصحابة بمنزلة الوالد، يعطف ويشفق ويؤدب ويشدد، وكان الصحابة رضي الله عنهم قد عرفوا له ذلك، وقد تناول بدرته بعض أكابرهم كسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب ولم يزده ذلك عندهم إلا حبًا (انظر سنن الدارمي: باب من كره الشهرة والمعرفة. وطبقات ابن سعد: ترجمة عمر) فأهل العلم والإيمان ينظرون إلى ما جرى من ذلك نظرة غبطة وإكبار لعمر ولمن أدبه عمر. وأهل الأهواء ينظرون نظرة طعن على أحد الفريقين كما صنعه أبو رية هنا. وكما يصنعه الرافضة في الطعن على عمر، أو على الفريقين معًا كما ذكره أبو رية (ص52) في ذكر عمر (قل أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده).
أما أبو هريرة فقد كان النبيبعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وأوصاه به خيرًا،
155فاختار أن يكون مؤذنًا كما في الإصابة والبداية وغيرهما. ثم رجع العلاء في حياة النبيكما في فتوح البلدان (ص92) ورجع معه أبو هريرة. [52] ثم بعث عمر سنة (20) أو نحوها قدامة بن مظعون على إمارة البحرين وبعث معه أبا هريرة على الصلاة والقضاء، ثم جرت لقدامة قضية معروفة فعزله عمر وولى أبا هريرة الإمارة أيضًا، ثم قدم أبو هريرة بمال لبيت المال ومال له. قال ابن كثير في البداية (8: 113): (قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: «استأثرت بهذه الأموال [53] أي عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما. فقال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت عليَّ، فنظروا فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرًا منك، طلبه يوسف عليه السلام. فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثًا واثنين. قال عمر: فهلا قلت خمسة (؟) قال: أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، أو يضرب ظهري وينتزع مالي ويشتم عرضي»).
والسند بغاية الصحة. وفي فتوح البلدان (ص93) من طريق يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن سيرين عن أبي هريرة أنه لما قدم من البحرين… فذكر أول القصة نحوه. وفيه «فقبضها منه» والسند صحيح أيضًا. وأخرجه أيضًا من طريق أبي هلال الراسبي عن ابن سيرين عن أبي هريرة، فذكر نحوه إلا أنه وقع فيه (اثنا عشر ألفًا) والصواب الأول؛ لأن أبا هلال في حفظه شيء، وفيه: «فلما صليت الغداة قلت: اللهم اغفر لعمر قال: فكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضل من ذلك» وفي تاريخ الإسلام للذهبي (2: 338) (همام بن يحيى حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن عمر قال لأبي هريرة: «كيف وجدت الإمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين فقال: أظلمت أحدًا؟ قال: لا. قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفًا. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه واجعل الآخر في بيت المال»).
فكأنه قدم لنفسه بعشرين ألفًا فقاسمه عمر كما كان يقاسم سائر عماله، فذكر ابن سيرين العشرة الآلاف المأخوذة لبيت المال.
156فقد تحقق بما قدمنا من الروايات الصحيحة أن المال الذي جاء به أبو هريرة لنفسه من البحرين كان من خيله ورقيقه وأعطيته، وأخذ عمر له أو لبعضه لا يدل إلا على ما قدمنا من الاحتياط، ثم يعطيهم خيرًا منه. ومما يوضح براءة أبي هريرة في الواقع وعند عمر إظهاره المال وعزم عمر على توليته فيما بعد وامتناع أبي هريرة من ذلك.
ثم قال أبو رية (ص193) (وفاته. مات أبو هريرة سنة (57) أو سنة (58 }.
أقول: أو سنة (59) كما في التهذيب وغيره، وهو قول الواقدي وابن سعد.
قال: (عن ثمانين سنة).
أقول: المعروف (عن ثمانٍ وسبعين سنة).
قال: (وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان يومئذ أميرًا على المدينة تكريمًا له).
أقول: هذا رواه الواقدي بسند فيه نظر، ولكنها السنة التي كانوا يعملون بها أن يكون الأمير هو الذي يصلي على الموتى بدون تفريق.
قال: (ولما كتب الوليد إلى عمه… أرسل… ادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم…، وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته).
أقول: هذا رواه الواقدي بسند فيه نظر، وفيه: (فإنه كان ممن نصر عثمان وكان معه في الدار) وإنما حذف أبو رية هذا ليوهم غيره.
ثم ذكر أبو رية كلمات لصاحب المنار قال في أبي هريرة: (… فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي ص وإنما سمعها من الصحابة والتابعين).
أقول: فيه مجازفتان، الأولى: زعم أن أكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي ص. ونحن إذا نظرنا إلى أحاديثه التي رواها عن غيره من الصحابة وجدناها يسيرة، ثم إذا نظرنا في أحاديثه التي يرويها عن النبي ص رأسًا ولا يصرح بالسماع منه قلما نجد فيها ما يعلم من متنه أنه كان في المدة التي لم يدركها أبو هريرة، مع أننا نجد عن غيره أحاديث كثيرة تتعلق بتلك المدة، فهذا مع ما تقدم (ص106 و 118- 119) وغيرها وما يأتي بعد من شهادة الصحابة له يقضي بعكس الدعوى المذكورة.
157المجازفة الثانية: زعم أن بعض أحاديثه سمعها من التابعين، إن أريد أحاديثه عن النبي ص فإننا لا نعرف له حديثًا كذلك، ورواية الصحابي الذي سمع من النبي ص كأبي هريرة عن تابعي عن صحابي عن النبي ص بغاية القلة، وإنما ذكروا من هذا الضرب حديثًا لسهل بن سعد وآخر للسائب بن يزيد، وقد توفي النبي ص وسهل ابن خمس عشرة سنة والسائب ابن سبع سنين، وذكروا أن الحافظ العراقي تتبع ما يدخل في هذا الضرب فجمع عشرين حديثًا لعل منها ما لا يصح وباقيها من أحاديث أصاغر الصحابة كالسائب.
قال (وقد ثبت أنه كان سمع من كعب الأحبار).
أقول: أي شيء سمع منه؟ إنما سمعه منه أشياء يحكيها عن صحف أهل الكتاب، وذلك فن كعب.
قال: (وأكثر أحاديثه عنعنة).
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 10 (0 من الأعضاء و 10 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)