أما السنة فالمقصود منها معانيها، وفوات جملة من الأحاديث لا يتحقق به فوات مقصود ديني، إذ قد يكون في القرآن وفيما بقي من الأحاديث ما يفيد معاني الجملة التي فاتت. وهي مع ذلك174منتشرة لا تتيسر كتابتها كما تقدم (ص21) فاكتفى النبيمن الصحابة بحفظها في الصدور كما تيسر بأن يحفظ كل واحد ما وقف عليه ثم يبلغه عند الحاجة ولم يأمرهم بكتابتها، ولم يكن حفظ معظمها مقصورًا على القرآن بل كان جماعة ليسوا من القراء عندهم من السنة أكثر مما عند بعض القراء.
فالدلائل والقرائن التي فهم منها الصحابة أن عليهم أن يصنعوا ما صنعوا في جمع القرآن لم يتوفر لهم مثلها ولا ما يقاربها لكي يفهموا منه أن عليهم أن يجمعوا السنة. على أنهم كانوا إذا فكروا في جمعها بدا لهم احتمال اشتماله على مفسدة كما مر (ص30)، وكذلك كان فيه تفويت حكم ومصالح عظيمة (راجع ص21-22). وتوقفهم عن الجمع لما تقدم لا يعني عدم العناية بالأحاديث، فقد ثبت بالتواتر تدينهم بها وانقيادهم لها وبحثهم عنها كما تقدم في مواضعه، ولكنهم كانوا يؤمنون بتكفل الله تعالى بحفظها ويكرهون أن يعملوا من قبلهم غير ما وضح لهم أنه مصلحة محضة، (راجع ص30)، ويعلمون أنه سيأتي زمان تتوفر فيه دواعي الجمع وتزول الموانع عنه، وقد رأوا بشائر ذلك من انتشار الإسلام وشدة إقبال الناس على تلقي العلم وحفظه والعمل به، وقد أتم الله ذلك كما اقتضته حكمته.
تدوين الحديث
ثم ذكر (ص220-222) فصولًا في جمع القرآن، ثم قال (ص223-232) (تدوين الحديث…).
أقول: راجع لكتابة التابعين الحديث (ص28، 55)، فأما أتباع التابعين فكانوا يكتبون ويحتفظون بكتبهم ولا سيما بعد أن أمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بالكتابة (راجع ص30) وفي جامع بيان العلم لابن عبد البر بسنده إلى ابن شهاب الزهري قال: (أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا) ثم أكثر ابن شهاب من الكتابة بعد وفاة عمر لما أمر هشام بن عبد الملك. على أن ما كتب لعمر ولهشام لم يلق قبولًا عند أهل العلم لأنهم كانوا يحرصون على تلقي الحديث من المحدث به مشافهة. لكن الرواة عن ابن شهاب وغيره أنهمكوا في الكتابة. ثم شرع بعضهم في التصنيف، وقد ذكر أبو رية (ص 229) عدة من المصنفين، وأحب أن أشير إلى من مات منهم قبل (سنة160):
فمنهم ابن جريج المتوفى (سنة150) له مصنفات تلقاها عنه جماعة، منهم حجاج بن محمد الأعور وعبد الرزاق الصنعاني، وعنهما الإمام أحمد وغيره. ولعبد الرزاق مصنفات موجودة.
ومنهم ابن إسحاق صاحب المغازي توفي (سنة151) صنف السيرة وغيرها.
175ومنهم معمر بن راشد توفي (سنة 153) وله مصناف بعضها موجودة وأخذها عن عبد الرزاق وغيره، ومنهم الأوزاعي وسعيد بن أبي عروبة توفيا (سنة 156)، وكانت مصنفاتهما عند جملة من أصحابهما، تلقاها عنهم الإمام أحمد وغيره.
ثم قال أبو رية (ص233): (أثر تأخير التدوين…). ذكر أنه لو دون الحديث كما دون القرآن لانسد باب الكذب على النبيوانسد باب التفريق في الدين.
أقول: أأنتم أعلم أم الله؟ أرأيت لو قال قائل: لو خلق الله عباده على هيأة كذا لانسد باب الظلم والعدوان والفجور، ولو أنزل القرآن وكل دلالاته يقينية لا يمكن أحد أن يشك أو يتشكك فيها لانسد باب التفرق، ولو، ولو. إنما شأن المؤمن أن ينظر ما قضاه الله واختاره فيعلم أنه هو الحق المطابق للحكمة البالغة ثم يتلمس ما عسى أن يفتح الله عليه به من فهم الحكمة، (وراجع ص55، 60-62). وذكر أمورًا قد تقدم النظر فيها فراجع الفهرس.
الخبر وأقسامه
ثم قال: (ص237): (نشأة علم الحديث…) إلى أن قال (ص240) (الخبر وأقسامه) وذكر المتواتر ثم علق عليه في الحاشية: (… أنكر المسلمون أعظم الأمور المتواترة، فالنصارى واليهود هما أمتان عظيمتان يخبرون بصلب المسيح، والإنجيل يصرح بذلك، فإذا أنكروا هذ الخبر وقد وصل إلى أعلى درجات المتواتر فأي خبر بعده يمكن الاعتماد عليه والركون إليه).
أقول: هذا إما جنون وإما كفر، فاختر، وما فيهما حظ لمختار. وقد بين علماء المسلمين سقوط دعوى تواتر الصلب بما لا مزيد عليه، وكل عاقل يعرف التواتر الحقيقي ثم يتدبر الواقعة يعلم أنها ليست منه، ومقتضى سياق أبي رية أنه يحاول التشكيك في المتواتر، وزعم أن دلالته ظنية فقط (ألف).
ونقل (ص241-242) [59] عبارة عن المستصفى، ينبغي مقابلتها بالمستصفى (1/142) مع قول المستصفى في الصفحة التي قبلها (الخامس) كل خبر… ومراجعة المسألة في إحكام ابن حزم وغيره.
وقال (ص242) (ومن قواعدهم المشهورة… ولا يلزم من الإجماع على حكم مطابقته لحكم الله في نفس الأمر).
أقول: يراجع البحث في كتب الأصول، والمقصود هنا أن أبا رية يرى دلالة الإجماع بلفظ (ب).
وذكر آخر (ص343) عن الرازي: (…وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع).
أقول: للرازي تفصيل معروف، وقد تعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، والحق أن في القرآن176دلالات قطعية، وأن دلالته المقطوع فيها بالظهور تكون قطعية إذا علم أنه لم يكن وقت حاجة المخاطبين إلى الأخذ بها قرينة صارفة عن ذلك الظاهر؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، وينبغي أن يتنبه؛ لأن القرينة إنما يعتمد بها إذا كانت بينة يدركها المخاطب إذا تدبر، ولتقرير هذا موضع آخر.
ومقتضى صنيع أبي رية أن دلائل القرآن -بله الأحاديث- كلها ظنية (ج).
وقال قبل ذلك: (قال الجمهور إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم قطعًا ولو كانت مخرجة في البخاري ومسلم، وأن تلقي الأمة لهما بالقبول إنما يفيد العمل بما فيهما بناء على أن الأمة مأمورة بالأخذ بكل خبر يغلب على الظن صدقه).
أقول: مسألة أخبار الصحيحين تأتي، وإنما المهم هنا أنه علق على آخر هذه العبارة قوله: (ترى هل هذه القاعدة التي قرروها قد أمر الله بها ورسوله؟ وترى هل هي تخرجنا من حكم اتباع الظن الذي جاء في آيات كثيرة من القرآن مثل: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا }. { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } ومثل قوله تعالى في قول النصارى بصلب المسيح: { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ }. (د)
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 8 (0 من الأعضاء و 8 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)