تأمل هذه القضايا المرموز على أواخرها بهذه الأحرف (ألف، ب، ج، د) وانظر ماذا بقي لأبي رية من الدين؟
أما الآيات فقد قيل، وقيل. ومن تدبر السياق وتتبع مواقع كلمة (يغني) ومشتقاتها في القرآن وغيره تبين له ما يأتي: كلمة (الحق) في الآيتين مراد بها الأمر الثابت قطعيًا وكلمة (يغني) معناها: (يدفع) كما حكاه البغوي في تفسيره، وقد يعبر عنها بقولهم (يصرف) ونحوه. راجع لسان العرب (19: 376) ومنها في القرآن قوله تعالى: { وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ } وقوله سبحانه: { فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } وفي آية أخرى: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ }. وهذا سياق الآية الأولى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ }177فالكلام في محاجة المتخذين مع الله إلهًا آخر، وكلمة (الحق) في قوله: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ) مراد بها الأمر الثابت قطعًا ومنه أنه (لا إله إلا الله)، ثم ساق الكلام في تقريرهم إلى أن قال: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } فالحق هنا هو الأمر الثابت قطعًا كما مر، والمعنى: إن الظن لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا، وعلى تعبير أهل الأصول: (الظن لا يعارض القطع).
والآية الثانية في سياق محاجة المشركين القائلين: الملائكة بنات الله، ويسمونهم بأسماء الإناث ويعبدونها، قال الله تعالى: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى }، والهدى هنا بيان الحق الثابت قطعًا، فالمعنى أنهم يتبعون الظن والهوى معرضين عما يخالفه من الحق الثابت قطعًا ثم قال تعالى: { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } أي ليس عندهم علم فيعارض الحق الثابت قطعًا، إنما عندهم ظن، والظن لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا، أو: الظن لا يعارض القطع.
وأما الآية الثالثة فهي: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا }. المراد أن الله يخبر بأنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، وخبره سبحانه يفيد العلم القطعي، وليس عند أهل الكتاب علم قطعي فيعارض خبر الله، وإنما عندهم ظن، والظن لا يعارض القطع.
وقال أبو رية (ص244): (ابن الصلاح ومخالفوه…) وساق الكلام إلى أن قال (246): (أما المتكلمون فقد عرف من حالهم أنهم يردون كل حديث يخالف ما ذهبوا إليه ولو كان من الأمور الظنية).
أقول: أما في الأمور الظنية فالمعروف عنهم قبوله غير أنهم لا يجزمون بمدلوله إذا كان في العقليات.
ثم قال: (فمن ذلك حديث: «تحاجت الجنة والنار»…، أخرخه البخاري ومسلم عن أبي هريرة…).
أقول: قد تقدم (ص159) وبينت هناك أنه رواه مع أبي هريرة أنس وأبو سعيد وأبي بن كعب.
ثم قال (ص247): (فهذا الحديث ونظائره وهي كثيرة يبعد على المتكلم أن يقول بصحتها فضلًا عن أن يجزم بذلك، وإذا ألجئ إلى القول بصحتها لم يأل جهدًا في تأويلها ولو على وجه لا يساعد اللفظ عليه بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن).
178أقول: هذا يتضمن الاعتراف بأن النصوص اللفظية تكون قطيعة الدلالة هذا ومسلكهم في التأويل هو عينه مسلكهم في دفاع الآيات الكثيرة المخالفة لهم من القرآن، فإذا كان لا ينفي ثبوت الآيات القرآنية عن الله ورسوله قطعًا فكذلك لا ينفي صحة الأحاديث الصحيحة ظنًا أو قطعًا. وراجع (ص2).
وقال (ص249): (من المعروف. أنك تجد الحديث يعمل به الحنفي لشهرته، ثم يأتي الشافعي فيرفضه لضعف في سنده، وتجد المالكي يرفض الحديث؛ لأن العلم جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوة في سنده على ما رأى هو).
أقول: ما دمنا نعرف أن العلماء غير معصومين فاختلافهم في بعض الأحاديث أيؤخذ بها أم لا، ليس فيه ما يوهم ذا عقل أن الأحاديث كلها لا تصلح للحجة، ولا ما يقضي أن تلك الأحاديث المختلف فيها تصلح أو لا تصلح؛ بل المدار على الحجة، فقد يرى العالم اشتهار حديث بين الناس فيغلب على ظنه أنه لم يشتهر إلا وأصله صحيح فيأخذ به، فيأتي غيره فيبحث فيجد مرجع تلك الشهرة إلى مصدر واحد غير صحيح، كما في مسألة القهقهة في الصلاة. وقد يبلغ العالم حديث من طريق واحد ويرى أن أهل العلم خالفوه فيمسك عنه، فيجيء غيره فيبحث فيجد الحديث ثابتًا ويجد بعض أهل العلم قد أخذوا به، وأن الذين لم يأخذوا به لم يقفوا عليه، أو نحو ذلك مما يبين أن عدم أخذهم به لا يخدش في كونه حجة، وقد ينعكس الحال، وعلى من بعد المختلفين اتباع الحجة، فإن بقي بين متبعي الحجة خلاف فلا حرج، وإذا اتضح وبان أن الحق مع أحد المختلفين ولكن أتباع الآخر أصروا على اتباعه، فليس في هذا ما يقدح في الحجة سواء أعذرنا أولئك الأتباع أم لم نعذرهم، وهكذا الاختلاف عند معارضة الحديث لبعض القواعد الشرعية أو لجميع الأقيسة.
وقال: (في مرآة الوصول وشرحها…)
أقول: راجع ص (126).
وذكر (ص250) عبارة لأبي يوسف نقلها من الأم للشافعي (7/307-308) وترك قطعًا منها. وقد تعقب الشافعي كلام أبي يوسف بما تراه هناك.
وفي كلام أبي يوسف مما أرى التنبيه عليه أخبار:
الأول: قال: (حدثنا ابن أبي كريمة عن جعفر عن رسول الله ص…)
أشار الشافعي إلى هذا الخبر في الرسالة (ص224-225) وقال: (رواية منقطعة عن رجل مجهول) وفي التعليق هناك عن ابن معين والخطابي وغيرهم أنه موضوع.
179الثاني: (وكان عمر فيما بلغناه لا يقبل الحديث عن رسول الله ص إلا بشاهدين).
أقول: وهذا باطل قطعًا، تقدم رده (ص46).
الثالث: (وكان علي بن أبي طالب لا يقبل الحديث عن رسول الله ص).
أقول: كذا وقع، وهو باطل قطعًا، ولعله أراد ما روي أن عليًا كان يحلف من حدثه كما تقدم مع رده (ص47).
الرابع: (وحدثنا الثقة عن رسول الله ص أنه قال في مرضه الذي مات فيه: «إني لأحرم ما حرم القرآن، والله لا تمسكون علي بشيء»).
أقول: كذا وقع، ولعله: («لا أحرم إلا ما حرم القرآن») فقد روى بلفظ: («لا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه») راجع أحكام ابن حزم (2: 77)، ومجمع الزوائد (1: 171) وهو على كل حال غير ثابت، ومع ذلك قد فسره الشافعي ثم ابن حزم بما يصحح معناه. ومن تتبع أقوال أبي يوسف في الفقه واستدلالاته على أنه نفسه لا يرى صحة هذه الأخبار ولا يبني عليها، وإنما كثر بها السواد في بيان أن الأحكام لا تبنى إلا على رواية الثقات كما أشار إليه الشافعي إذ قال في تعقبه: «وقد كان عليه أن يبدأ بنفسه فيما أمر به أن لا يروي عن النبي ص إلا من الثقات».
وقال (ص251): (رأى مالك وأصحابه أنهم يقولون: نثبت السنة من وجهين: أحدهما: أن نجد الأئمة من أصحاب رسول الله ص قالوا بما يوافقها. الثاني: أن لا نجد الناس اختلفوا فيها).
أقول: لم يذكر مصدره، وهذه كتب المالكية أصولًا وفروعًا لا تعطى هذا. نعم. قد يقف المجتهد عن حديث ولا يبين عذره، أو يروي عنه بعض أصحابه كلمة لا يريد بها أن تكون قاعدة، فيذهب بعض أصحابه يحاول أن يضع قواعد يعتذر بها. وفي الأم (7: 177) – من قول الربيع: «قلت [للشافعي] فاذكر ما ذهب إليه صاحبنا [مالك] من حديث النبي ص مما لم يُروَ عن الأئمة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي شيئًا يوافقه. فقال: نعم سأذكر من ذلك إن شاء الله ما يدل على ما وصفت، وأذكر أيضًا ما ذهب إليه من حديث رسول الله ص وفيه عن بعض الأئمة ما يخالفه».
قال أبو رية: (وقد روى الدارقطني أن رسول الله ص قال: «إنها تكون بعدي رواة180يروون عني الحديث، فأعرضوا حديثهم على القرآن فما وافق القرآن فحدثوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تحدثوا به».
أقول: لم يذكر مصدره، وهذا هو الخبر الأول في عبارة أبي يوسف المتقدمة (ص 178) وقد حكم الأئمة بأنه موضوع كما مر.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)