وقالوا أيضا قد قلتم إن الله يتكلم بصوت ولم يأت كتاب ولا سنة قلنا بل قد ورد به الكتاب والسنة وإجماع أهل الحق أما الكتاب فقول الله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} [النساء 164] وقوله تعالى {منهم من كلم الله} [البقرة 254] وقوله سبحانه وتعالى {وما كان لبشر ان يكلمه الله الآ وحيا أو من وراء حجاب} الآية [الشورى 51] وقوله تعالى {وإذ نادى ربك موسى} [الشعراء 10] ولا خلاف بيننا أن موسى سمع كلام الله من الله بغير واسطة ولا يسمع إلا الصوت فإن الصوت هو ما يتأتى سماعه وقد صح عن النبي ص انه قال (إن الله يجمع الخلائق فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمع من قرب أنا الملك أنا الديان) وذكر عبد الله بن أحمد انه قال: (سالت ابي فقلت يا ابه إن الجهمية يزعمون ان الله لا يتكلم بصوت فقال كذبوا إنما يريدون على التعطيل، ثم قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال حدثنا سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انه قال إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) قال أبو نصر السجزي رحمه الله وهذا الخبر ليس في رواته إلا إمام مقبول وقد روي مرفوعا إلى النبي ص.
وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام لما ناداه ربه يا موسى اجاب سريعا استئناسا بالصوت فقال: (لبيك اسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت قال انا فوقك وامامك ووراءك وعن يمينك وعن شمالك) فعلم ان هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى قال: (فكذلك انا يا رب أفكلامك أسمع أم كلام رسولك قال بل كلامي) وفي أثر آخر أن موسى عليه السلام لما ناجاه ربه ثم سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى ومثله في الآثار كثير تناولته الأمة ولم ينكره إلا مبتدع لا يلتفت إليه.
فإن قالوا فالصوت لا يكون إلا من هواء بين جرمين قلنا هذا من الهذيان الذي اجبنا عن مثله في الحرف وقلنا إن هذا قياس منهم لربنا تبارك وتعالى على خلقه وتشبيه له بعباده وحكم عليه بأنه لا تكون صفته إلا كصفات مخلوقاته وهذا ضلال بعيد. ثم إنه يلزمهم مثل هذا في بقية الصفات على ما اسلفناه على ان معتمدنا في صفات الله تعالى إنما هو الاتباع نصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ولا نتعدى ذلك ولا نتجاوزه ولا نتأوله ولا نفسره ونعلم ان ما قال الله ورسوله حق وصدق ولا نشك فيه ولا نرتاب ونعلم ان لما قال الله ورسوله معنى هو به عالم فنؤمن به بالمعنى الذي اراده ونكل علمه إليه ونقول كما قال سلفنا الصالح وأئمتنا المقتدى بهم: آمنا بالله وما جاء عن الله على مراد الله وآمنا برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله نقول ما قال الله ورسوله ونسكت عما وراء ذلك نتبع ولا نبتدع بذلك أوصانا الله تعالى في كتابه وأوصانا رسول الله ص في سنته وأوصانا به سلفنا رضي الله عنهم فقال الله تعالى {وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام 153] وقال تعالى {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر 55] وقال لرسوله عليه السلام {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31] وقال النبي ص (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وقال عبد الله بن مسعود (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاما معناه (قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا وهم كانوا على كشفها اقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون فلئن كان المهدي ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما احدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد وصفوا منه ما يكفي وتكلموا منه بما يشفي فما دونهم مقصر ولا فوقهم محسر لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم من ذلك لعلى هدى مستقيم) وقال الأوزاعي رحمه الله: (عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول).
ولم يزل السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والأئمة بعدهم يعظمون هذا القرآن ويعتقدون أنه كلام الله ويتقربون إلى الله بقراءته ويقولون إنه غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر ولما وقعت الفتنة وظهرت المعتزلة ودعوا إلى القول بخلق القرآن ثبت أهل الحق حتى قتل بعضهم وحبس بعضهم وضرب بعضهم فمنهم من ضعف فأجاب تقية وخوفا على نفسه ومنهم من قوي إيمانه وبذل نفسه لله واحتسب ما يصيبه في جنب الله ولم يزل على السنة إلى أن كشف الله تعالى تلك الفتنة وازال تلك المحنة وقمع أهل البدعة.
واتفق أهل السنة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ولم يكن القرآن الذى دعوا إلى القول بخلقه سوى هذه السور التي سماها الله قرآنا عربيا وأنزلها على رسوله عليه السلام ولم يقع الخلاف في غيرها البتة وعند الأشعري أنها مخلوقة فقوله قول المعتزلة لا محالة إلا أنه يريد التلبيس فيقول في الظاهر قولا يوافق أهل الحق ثم يفسره بقول المعتزلة فمن ذلك أنه يقول القرآن مقروء متلو محفوظ مكتوب مسموع ثم يقول القرآن في نفس الباري قائم به ليس هو سورا ولا آيات ولا حروفا ولا كلمات فكيف يتصور إذا قراءته وسماعه وكتابته ويقولون إن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت ويقولون إن القرآن مكتوب في المصاحف ثم يقولون ليس فيها إلا الحبر والورق فإن كانت كما زعموا فلم لا يمسها الا المطهرون وما رأينا المحدث يمنع من مس حبر ولا ورق ولم تجب الكفارة على الحالف بالمصحف إذا حنث.
ومن قال إنه ليس في المصحف إلا الحبر والورق لزمه التسوية بين المصحف وبين ديوان ابن الحجاج لأنه إذا لم يكن بين كل واحد منهما غير الحبر والورق فقد تساويا فيجب تساويهما في الحكم هذا مع ردهم على الله تعالى وعلى رسوله وخرقهم لإجماع الأمة فإن الله تعالى قال {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين} [الواقعة 75-80] فأقسم الله تعالى أنه قرآن كريم في كتاب مكنون فردوا عليه وقالوا ما في الكتاب إلا الحبر والورق وقال الله تعالى {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج 21-22] وقال سبحانه {والطور وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور 1-3] وقال ص: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم) يريد المصاحف التي فيها القرآن واتفق المسلمون كلهم على تعظيم المصحف وتبجيله وتحريم مسه على المحدث أن من حلف به فحنث فعليه الكفارة ولا تجب الكفارة بالحلف بمخلوق.
وذكر بعض المبتدعة أنه إنما وجبت الكفارة على الحالف لاعتقاد العامة أن فيه كلام الله وهذه غفلة منه فإن هذا الحكم من لدن النبي ص لم يتجدد الآن فإن أقر أن عامة أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يعتقدون أن فيه كلام الله تعالى وأقرهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصوبهم فيه فهو الحق الذي لا شك فيه ولا يحل خلافه وإن قال إنهم كانوا يعتقدون ذلك ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم فكيف علم هو وكيف علم هو من أحوال أصحاب رسول الله ص ومن اعتقاداتهم ما يخفى على رسول الله ص وهو بين أظهرهم وعنه يأخذون وإليه يرجعون وبه يقتدون وعنه يصدرون ثم هل كانوا مصيبين في اعتقادهم أو مخطئين فإن كانوا مخطئين فقد اعتقد ان أصحاب رسول الله ص كانوا ضلالا ومن بعدهم وأنه هو أصاب بمخالفتهم وكيف يجوز أن يكون أصحاب رسول الله ص اتفقوا على اعتقاد الخطأ والضلال والباطل وأخطأوا الحق وتبعهم من بعدهم على ذلك إلى أن جاء هذا الجاهل بزعمه فعرف الصواب وعرف خطأ من كان قبله ثم هذا إقرار بأن مقالته بدعة حادثة خالف بها أصحاب رسول الله ص والتابعين بعدهم وهو الذي يقوله عنهم وبدعته فيهم.