ذكر يعقوب وأولاده

ذكروا والله أعلم أن إسحاق بن إبراهيم عاش ما بعد ما ولد له العيص ويعقوب مائة سنة، ثم توفي وله مائة وستون سنة فقبّره ابناه: العيص ويعقوب عند قبر أبيه إبراهيم في مزرعة حَيْرون، وكان عمر يعقوب بن إسحاق كله مائة وسبعًا وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قُسِم له ولأمِّه من الحسن ما لم يقسم لكثير من أحد من الناس.
وقد حدثني عبد الله بن محمد وأحمد بن ثابت الرازيان، قالا: حدثنا عفان بن مسلم، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت - البناني - عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: " أعطى يوسف وأمّه شَطْر الحسن ".
وأن أمه راحيل لما ولدتْه دفعه زوجها يعقوب إلى أخته تحضنه، فكان من شأنه وشأن عمّته التي كانت تحضنه ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها صارت مِنْطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكِبَر، فكان من اختانها مَن وليها كان له سلَمًا لا ينازَع فيه، يصنع فيه ما شاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد كان حضنْته عمته، فكان معها وإليها، فلم يجب أحد شيئًا من الأشياء حبَّها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، ووقعت نفس يعقوب عليه، فقال: يا أخيَّة سلِّمي إلى يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: والله ما أنا بتاركته؛ قال: فوالله ما أنا بتاركه. قالت: فدعه عندي أيامًا أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسلّيني عنه - أو كما قالت - فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى مِنطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت مِنطقة إسحاق، فانظروا مِنْ أخذها ومن أصابها، فالتُمست ثم قالت: كَشَّفوا أهل البيت، فكشَّفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لَسَلَم أصنع فيه ما شئت. قال: وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سَلمَ لك، ما أستطيع غير ذلك فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت. قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: " إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ".
قال أبو جعفر: فلما رأت إخوة يوسف شدة حبّ والدهم يعقوب إياه في صباه وطفولته وقلّة صبره عنه حسدوه على مكانه منه، وقال بعضهم لبعض: " لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحبُّ إلَى أَبِيْنا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ ". يعنون بالعصبة الجماعة، وكانوا عشرة: " إنَّ أَبَانَا لَفِيْ ضَلَالٍ مُبِيْنٍ ".
ثم كان من أمره وأمر يعقوب ما قد قصَّ الله تبارك وتعالى في كتابه من مسألتهم إياه إرساله إلى الصحراء معهم، ليسعى وينشط ويلعب، وضمانِهم له حفظَه، وإعلام يعقوب إياهم حزنَه بمغيبه عنه، وخوفه عليه من الذئب، وخداعهم والدهم بالكذب من القول والزور عن يوسف، ثم إرساله معهم وخروجهم به وعزمهم حين برزوا به إلى الصحراء على إلقائه في غيابة الجب، فكان من أمره حينئذ - فيما ذكر - ما حدثنا ابنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السدي قال: أرسله - يعني يعقوبُ يوسفَ - معهم، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البريّة أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيمًا، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب! لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقًا ألا تقتلوه! فانطلقوا به إلى الجبّ ليطرحوه، فجعلوا يُدْلونه في البئر فيتعلق بشفيرها، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردُّوا علي قميصي أتوارى به في الجبّ! فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبًا تؤنسك، قال: إني لم أر شيئًا، فدلُّوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادةَ أن يموت، فكان في البئر ماء، فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها، فقام عليها، فلما ألقَوْه في الجبّ جعل يبكي، فنادوْه، فظنّ أنّها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا، فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثِقًا ألّا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
ثم خبره تبارك وتعالى عن وحيه إلى يوسف عليه والسلام وهو في الجب ليُنبَشِّنَّ إخوته الذين فعلوا به ما فعلوا بفعلهم ذلك وهم لا يَشعُرونَ بالوحي الذي أوحى إلى يوسف. كذلك روى ذلك عن قتادة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: " وَأَوْحَيْنا إليه لَنُنَبِّنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذَا "، قال: أوحي إلى يوسف وهو في الجبّ أن ينبّئهم بما صنعوا به " وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ " بذلك الوحي.
حدثني المثنّى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بنحوه، إلا أنه قال: أن سينبِّئهم.
وقيل معنى ذلك: وهم لا يشعرون أنه يوسف، وذلك قول يروى عن ابن عباس؛ حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي، عن أبيه، قال: سمعت ابن عباس يقول ذاك، وهو قول ابن جريج.
ثم خبره تعالى عن إخوة يوسف ومجيئهم إلى أبيه عشاءً يبكون، يذكرون له أن يوسف أكله الذئب، وقول والدهم: " بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيْلٌ ".
ثم خبّره جلاله عن مجيء السيارة، وإرسالهم واردهم، وإخراج الوارد يوسف وإعلامه أصحابه به بقوله: " يَا بُشْراي هَذَا غُلَامٌ " يبشرهم.
حدثنا بشْر بن مُعًاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: " يَا بُشْراي هَذَا غُلَامٌ "، تباشروا به حين أخرجوه - وهي بئر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها.
وقد قيل: إنما نادى الذي أخرج يوسف من البئر صاحبًا له يسمى بُشْرى، فناداه باسمه الذي هو اسمه. كذلك ذكر عن السُّدِّي. حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا خلف بن هشام، قال: يحيى بن آدم، عن قيس بن الربيع، عن السدي في قوله: " يَا بُشْراي "، قال: كان اسم صاحبه بشرى.
حدثني المثنّى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي في قوله: " يَا بُشْراي هَذَا غُلَامٌ "، قال: اسم الغلام بشرى، كما تقول: يا زيد.
ثم خبره عز وجل عن السيارة وواردهم الذي استخرج يوسف من الجبّ إذ اشتروه من إخوته " بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودةٍ "، على زُهْد فيه وإسرارهم إياه بضاعة، خيفة ممن معهم من التجار مسألتهم الشركة فيه، إن هم علموا أنهم اشتروه.
كذلك قال في ذلك أهل التأويل: حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً "، قال: صاحب الدلو ومن معه قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا بثمنه، وتبعهم إخوته يقولون للمُدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبَق، حتى وقفوه بمصر فقال: مَن يبتاعني ويبشّر! فاشتراه الملك، والملك مُسلم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد بنحوه؛ غير أنه قال: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به، واتبعهم إخوته، يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر.
حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي: " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً "، قال: لما اشتراه الرجلان فرِقوا من الرفقة أن يقولوا: اشتريناه فيسْألونَهم الشركة فيه فقالوا: إن سألونا: ما هذا؟ قلنا: بضاعة، استبضعناه أهل الماء، فذلك قوله: " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ".
فكان بيعهم إياه ممن باعوه منه بثمن بخس، وذلك الناقص القليل من الثمن الحرام.
وقيل إنهم باعوه بعشرين درهمًا، ثم اقتسموها - وهم عشرة - درهَمين درهمين، وأخذوا العشرين معدودة بغير وزن؛ لأن الدراهم حينئذ - فيما قيل - إذا كانت أقلَّ من أوقية وزنها أربعون درهمًا لم تكن توزن، لأن أقلّ أوزانهم يومئذ كانت أوقية.
وقد قيل: إنهم باعوه بأربعين درهمًا. وقيل: باعوه باثنين وعشرين درهمًا.
وذكر أن بائعه الذي باعه بمصر كان مالك بن دعر بن يوبب ابن عفقان بن مديان بن إبراهيم الخليل عليه السلام. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
وأما الذي اشتراه بها وقال: " لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ "؛ فإن اسمه - فيما ذكر عن ابن عباس - قُطْفير. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان اسم الذي اشتراه قطفير.
وقيل إن اسمه أطفير، بن رُوحيب، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، والملك يومئذ الرَّيان بن الوليد، رجل من العماليق، كذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
فأما غيره فإنه قال: كان يومئذ الملك بمصر وفرعونها الرَّيان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح.
وقد قال بعضهم: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتَّبع يوسف على دينه، ثم مات ويوسف بعدُ حيٍّ، ثم ملك بعده قابوس بن مُصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكان كافرًا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل.
وذكر بعضُ أهل التوراة أن في التوراة: أن الذي كان من أمر يوسف وإخوته والمصير به إلى مصر، وهو ابن سبع عشرة سنة يومئذ، وأنه قام في منزل العزيز الذي اشتراه ثلاث عشرة سنة، وأنه لما تمّتْ له ثلاثون سنة استوزره فرعون مصر؛ الوليد بن الريان، وأنه مات يوم مات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين وأوصى إلى أخيه يهوذا، وأنه كان بين فراقه يعقوب واجتماعه معه بمصر اثنتان وعشرون سنة، وأم مقام يعقوب معه بمصر بعد موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب أوصى إلى يوسف عليه السلام.
وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانًا من أهله، فلما اشترى أطفير يوسف، وأتى به منزله، قال لأهله واسمها - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - راعيل: " أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا " فيكفينا إذا هو بلغ وفهم الأمور بعضَ ما نحن بسبيله من أمورنا: " أَوَ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "، وذلك أنه كان - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق - رجلًا لا يأتي النساء، وكانت امرأته راعيل حسناء ناعمة في مُلك ودنيا، فلما خلا من عمْر يوسف عليه السلام ثلاث وثلاثون سنة أعطاه الله عز وجل الحكم والعلم.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: " آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ": قال: العقل والعلم قبل النبوة.
" وَرَاوَدَتْهُ " حين بلغ من السنّ أشدّه: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ " - وهي راعيل امرأة العزيز أطفير - " وَغَلَّقَتِ اْلأَبْوَابَ " عليه وعليها للّذي أرادت منه، وجعلت - فيما ذكر - تذكر ليوسف محاسنه تشوقه بذلك إلى نفسها.