وخرج تبّع سائرًا ثم رجع إليهم، وأقاموا فأقرّهم على حالهم، وانصرف راجعًا إلى اليمن، وفيهم من كل القبائل من بني لِحْيان؛ وهم بقايا جُرْهم؛ وفيهم جُعفي، وطئ، وكلب، وتميم؛ وليسوا إلا بالحيرة - يعني بقايا جرهم. قال ابن الكلبي: لِحيان بقايا جُرْهم.
ونزل كثير من تَنّوخ الأنبار والحيرة وما بين الحيرة إلى طفّ الفرات وغربيّه، إلى ناحية الأنبار وما والاها في المظالّ والأخبية، لا يسكنون بيوت المدَر، ولا يجامعون أهلَها فيها، واتّصلت جماعتهم فيما بين الأنبار والحيرة، وكانوا يسمّون عرب الضاحية؛ فكان أول من ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فَهْم، وكان منزله مما يلي الأنبار. ثم مات مالك، فملك من بعده أخوه عمرو بن فَهْم. ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده جذّيمة الأبرش بن مالك بن فَهْم بن غنم بن دَوْس الأزدي.
قال ابن الكلبي: دَوْس بن عُدْثان بن عبد الله بن نصر بن زَهْران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
قال ابن الكلبي: ويقال إن جَذيمة الأبرش من العاربة الأولى، من بني وبار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح. قال: وكان جَذيمة من أفضل ملوك العرب رأيًا، وأبعدهم مُغارًا، وأشدّهم نِكاية، وأظهرهم حزمًا، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق؛ وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به بَرَص، فكنَت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به وتنسبه إليه إعظامًا له، فقيل: جَذيمة الوضّاح، وجَذيمة الأبرش؛ وكانت مناوله فيما بين الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وناحيتها، وعين التَّمْر، وأطراف البرّ إلى الغُوَير والقُطقُطانة وخَفِيّة وما والاها، تُجْبى إليه الأموال، وتَفِد إليه الوفود، وكان غزا طسمًا وجَديسا في منازلهم من جَوّ وما حولهم؛ وكانت طسم وجديس يتكلّمون بالعربية، فأصاب حسانَ بن تبع أسعد أبي كرب، قد أغار على طسْم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعًا بمن معه، وتأتي خيول تَبّع على سرِية لجذيمة فاجتاحتها، وبلغ جذيمة خَبرُهم، فقال جذيمة:
ربما أَوفيْتُ في عَلَمٍ ** ترفعَنْ بُردِي شمالاتُ
في فُتُوّ أنا كالئُهُمْ ** في بلايا غَزْوةٍ باتوا
ثم أُبْنا غانِمي نَعَمٍ ** وأناسٌ بعدَنا ماتوا
نحن كنّا في ممرّهم ** إذ ممرّ القومِ خوّاتُ
ليت شِعري ما أماتَهُمُ ** نحنُ أدلجْنا وهمْ باتوا
وَلنا كانُوا ونحن إذا ** قال منّا قائلٌ صاتوا
ولنا البيدُ البِعادُ التي ** أهلُها السودان أشتاتُ
ثُبَةُ الأخيار شاهدة ** ذاكُمُ قومي وأهلاتي
قد شربت الخمر وسطهُمُ ** ناعمًا في غيْر أصوات
فعلى ما كان مِنْ كرَمٍ ** فستبكيني بُنيّاتي
أنا ربُّ الناسِ كلِّهِمُ ** غيرَ رَبّي الكافِتِ الفاتِ
يعني بالكافت الذي يكفت أرواحهم، والفات الذي يفيتهم أنفسهم؛ يعني الله عز وجل.
قال ابن الكلبي: ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل قال: وفي مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر في الجاهلية:
أضحى جذيمة في يَبْرِينَ مَنزلِهِ ** قد حازَ ما جمعتْ في دهرِها عادُ
فكان جَذيمة قد تنبّأ وتكهّن، واتخذ صنمين؛ يقال لهما: الضيزنان - قال: ومكان الضيزنين بالحيرة معروف - وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما على العدوّ، وكانت إياد بعين أباغ، وأباغ رجل من العماليق، نزل بتلك العين، فكان يغازيهم؛ فذُكر لجذيمة غلام من لَخم في أخواله من إياد يقال له عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، له جمال وطرف، فغزاهم جذيمة، فبعث إياد قومًا فسقوا سَدَنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا في إياد، فبعث إلى جذيمة: إن صنميك أصبحا فينا، زهدًا فيك ورغبة فينا؛ فإن أوثقت لنا ألا تغزونا رددناهما إليك.
قال: وعدي بن نصر تدفعونه إلي. فدفعوه إليه مع الصنمين، فانصرف عنهم، وضم عديًّا إلى نفسه، وولّاه شرابه، فأبصرته رَقاشِ ابنة مالك أخت جذيمة، فعشقته وراسلته، وقالت: يا عدي، اخطبني إلى الملك، فإن لك حسبًا وموضعًا، فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك، ولا أطمع أن يزوّجنيك، قالت: إذا جلس على شرابه، وحضرَه ندماؤه، فاسقه صِرفًا، واسقِ القوم مِزاجًا، فإذا أخذت الخمرة فيه، فاخطبني إليه، فإنه لن يردّك، ولن يمتنع منك؛ فإذا زوّجك فأشهِد القوم؛ ففعل الفتى وما أمرتْه به، فلما أخذت الخمرة مأخذَها خطبها إليه، فأملكه إياها، فانصرف إليها، فأعرس بها من ليلته، وأصبح مضرّجًا بالخَلوق، فقال له جذيمة - وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عدي؟ قال: آثار العُرس، قال أي عُرس! قال: عرس رَقاش! قال: من زوّجكها ويحك! قال: زوجَنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته، وأكبّ على الأرض ندامة وتلهّفًا، وخرج عدي على وجهه هاربًا، فلم يُر أثر، ولم يُسمع له بذكر، وأرسل إليه جذيمة، فقال:
حدثيني وأنتِ لا تَكْذِبيني ** أبِحُرٍّ زَنَيْتِ أم بهجين!
أم بعبدٍ فأنتِ أهلٌ لعبدٍ ** أمْ بدونٍ فأنت أهلٌ لدونِ
فقالت: لا بل أنت زوجتَني امرأ عربيًا، معروقًا حسيبًا، ولم تستأمرني في نفسي، ولم أكن مالكة لأمري؛ فكفّ عنها، وعرف عذرَها.
ورجع عدي بن نصر إلى إياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين، فرمى به فتىً منهم من لهْب فيما بين جبلين، فتنكّس فمات، واشتملت رَقاشِ على حبَل، فولدت غلامًا، فسمّته عمرًا ورشّحته؛ حتى إذا ترعرع عطّرته وألبسته وحلته، وأزارته خالَه جذيمة، فلما رآه أعجِبَ به، وألقِيتْ عليه منه مِقة ومحبة، فكان يختلف مع ولده، ويكون معهم. فخرج جذيمة متبديًا بأهله وولده في سنة خصبة مكلٍئة، فضرِبت له أبنية في روضة ذات زهرة وغُدُر، وخرج ولده وعمرو ومعهم يجتنون الكمْأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمر ويقول:
هذا جناي وخياره فيه ** إذ كل جانٍ يدهُ إلىَ فيهِ
فضمه إليه جذيمة والتزمه، وسر بقوله وفعله، وأمره فجعل له حلى من فضة وطرق، فكان أول عربي ألبس طوقًا، فكان يسمى عمرًا ذا الطوق، فبينما هو على أحسن حاله، إذا استطارته الجن فاستهوته، فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زمانًا لا يقدر عليه. قال: وأقبل رجلان أخوان من بلقين - يقال لهما: مالك وعقيل، ابنا فارج بن مالك بن كعب بن القين بن جسر ابن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة - من الشام يريدان جذيمة، قد أهديا له طرفا ومتاعًا، فلما كان ببعض الطريق نزلا منزلًا، ومعهما فينة لهما يقال لها: أم عمرو، فقدمت إليهما طعامًا، فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب، قد تلبد شعره، وطالت أظفاره، وساءت حاله، فجاء حتى جلس حجرة منهما، فمد يده يريد الطعام، فناولته القينة كراعًا، فأكلها ثم مد يده إليها، فقالت: " تعطى العبد كراعًا فيطمع في الذراع "، فذهبت مثلًا، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها، وأوكت زقها، فقال عمر بن عدي:
صددت الكأس عنا أم عمر ** وكان الكأس مجراها اليمينا
ما شر الثلاثة أم عمرو ** بصاحبك الذي لا تصحبينا!
فقال مالك وعقيل: من أنت يا فتى؟ فقال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإني أنا عمرو بن عدي، ابن تنوخية، اللخمى، وغدًا ما ترياني في نمارة غير معصى.
فنهضا إليه فضماه وعسلا رأسه، وقلما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا: ما كنا لنهدي لجذيمة هدية أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بنا. فخرجا به، حتى دفعا إلى باب جذيمة بالحيرة، فبشراه، فسر بذلك سرورًا شديدًا، وأنكره لحال ما كان فيه، فقالا: أبيت اللعن! إنّ من كان في مثل حاله يتغير.
فأرسل به إلى أمه، فمكث عندها أيامًا ثم أعادته إليه، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة، فأعادوا عليه الطوق، فلما نظر إليه قال: شب عمرو عن الطوق، فأرسلها مثلًا، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت! فهما ندمانا جذيمة اللذان ضربا مثلًا في أشعار العرب، وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي:
لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي ** وإن ثوائي عندها لقليل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ** نديمًا صفاء مالك وعقيل
وقال متمم بن نويرة:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكًا ** لطولِ اجتماع لم نبت ليلة معا
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملق - ويقال العمليق، من عاملة العماليق، فجمع جذيمة جموعًا من العرب، فسار إليه يريد غزاته، وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام، فالتقوا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل عمرو بن ظرب، وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين، فقال في ذلك الأعور بن عمرو بن هناءة بن مالك بن فهم الأزدي:
كأن عمرو بن ثربى لم يعش ملكًا ** ولم تكن حوله الرايات تختفقُ
لاقى جذيمة في جاواء مشعلةٍ ** فيها حراشف بالنيران ترتشق