فلما نظر إلى ذلك الملك وصحابته، قالوا: لم يبق من أصناف عذابكم شيء إلا قد عذبتموه، إلا الجوع والعطش، فعذبوه بهما. فعمدوا إلى بيت عجوز كبيرة فقيرة، كان حريزًا، وكان لها ابنٌ أعمى أبكم مقعد، فحصروه في بيتها فلا يصل إليه من عند أحدٍ طعام ولا شراب. فلما بلغه الجوع، قال للعجوز: هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: لا والذي يحلف به، ما عهدنا بالطعام منذ كذا وكذا، وسأخرج وألتمس لك شيئًا. قال لها جرجيس: هل تعرفين الله؟ قالت له: نعم، قال: فإياه تعبدين؟ قالت: لا، قال: فدعاها إلى الله فصدقته، وانطلقت تطلب له شيئًا، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فما كان كشيء حتى اخضرت تلك الدعامة، فأنبتت كل فاكهة تؤكل أو تعرف. أو تسمى حتى كان فيما أنبتت اللياء واللوبياء.
قال أبو جعفر: اللياء نبت بالشأم له حب يؤكل. وظهر للدعامة فرع من فوق البيت أظله وما حوله وأقبلت العجوز، وهو فيما شاء يأكل رغدا؛ فلما رأت الذي حدث في بيتها من بعدها، قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم ليشفي ابني، قال: أدنيه مني، فأدنته منه، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع، قالت له: أطلق لسانه ورجليه، رحمك الله! قال: أخّريه؛ فإن له يومًا عظيمًا. وخرج الملك يسير في مدينته، فلما نظر إلى الشجرة، قال لأصحابه: إني أرى شجرة بمكانٍ ما كنت أعرفها به، قالوا له: تلك الشجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع؛ فهو فيما شاء قد شبع منها، وشبعت الفقيرة وشفى لها ابنها. فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة لتقطع، فلما هموا بقطعها أيبسها الله تعالى كما كانت أول مرة، فتركوها، وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجل فأوقر أسطوانًا ما حمل، وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارًا، ثم دعا بأربعين ثورًا، فنهضت بالعجل نهضة واحدة، وجرجيس تحتها، فتقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعة فأحرقت بالنار؛ حتى إذا عادت رمادًا بعث بذلك الرماد رجالًا فذروه في البحر، فلم يبرحوا مكانهم حتى سمعوا صوتًا من السماء يقول: يا بحر؛ إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب، فإني أريد أن أعيده كما كان. ثم أرسل الله الرياح فأخرجته من البحر، ثم جمعته حتى عاد الرماد صبرة كهيئته قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم يبرحوا. ثم نظروا إلى الرماد يثور كما كان، حتى خرج جرجيس مغبرًا ينفض رأسه، فرجعوا، ورجع جرجيس معهم، فلما انتهوا إلى الملك أخبروه خبر الصوت الذي أحياه، والريح التي جمعته. فقال له الملك: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك! فلولا أن يقول الناس إنك قهرتني وغلبتني لاتبعتك وآمنت بك؛ ولكن اسجد لأفلون سجدة واحدة، أو اذبح له شاة واحدة، ثم أنا أفعل ما يسرك.
فلما سمع جرجيس هذا من قوله طمع أن يهلك الصنم حين يدخله عليه، رجاء أن يؤمن له الملك حين يهلك صنمه، وييئس منه، فخدعه جرجيس، فقال: نعم؛ إذا شئت فأدخلني على صنمك أسجد له، وأذبح له، ففرح الملك بقوله، فقام إليه فقبل يديه ورجليه ورأسه، وقال: إني أعزم عليك ألا تظل هذا اليوم، ولا تبيت هذه الليلة إلا في بيتي وعلى فراشي، ومع أهلي حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، فيرى الناس كرامتك علي. فأخلى له بيته، وأخرج منه من كان فيه. فظل فيه جرجيس؛ حتى إذا أدركه الليل، قام يصلي، ويقرأ الزبور - وكان أحسن الناس صوتًا - فلما سمعته امرأة الملك استجابت له، ولم يشعر إلا وهي خلفه تبكي معه، فدعاها جرجيس إلى الإيمان فآمنت، وأمرها فكتمت إيمانها. فلما أصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها، وقيل للعجوز التي كان سجن في بيتها: هل علمت أن جرجيس قد فتن بعدك، وأصغى إلى الدنيا، وأطمعه الملك في ملكه، وقد خرج به إلى بيت أصنامه ليسجد لها! فخرجت العجوز في أعراضهم، تحمل ابنها على عاتقها، وتوبخ جرجيس، والناس مشتغلون عنها.
فلما دخل جرجيس بيت الأصنام، ودخل الناس معه، نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقرب الناس منه مقامًا، فدعا ابن العجوز باسمه، فنطق بإجابته، وما تكلم قبل ذلك قط، ثم اقتحم عن عاتق أمه يمشي على رجليه سويتين، وما وطئ الأرض قبل ذلك قط بقدميه، فلما وقف بين يدي جرجيس قال: اذهب، فادع لي هذه الأصنام، وهي حينئذ على منابر من ذهب، واحد وسبعون صنمًا. وهم يعبدون الشمس والقمر معها، فقال له الغلام: كيف أقول للأصنام؟ قال: تقول لها: إن جرجيس يسألك ويعزم عليك بالذي خلقك إلا ما جئته. فلما قال لها الغلام ذلك، أقبلت تدحرج إلى جرجيس، فلما انتهت إليه ركض الأرض برجله، فخسف بها وبمنابرها، وخرج إبليس من جوف صنم منها هاربًا فرقًا من الخسف. فلما مر بجرجيس، أخذ بناصيته، فخضع له برأسه وعنقه، وكلمه جرجيس فقال له: أخبرني أيتها الروح النجسة، والخلق الملعون، ما الذي يحملك على أن تهلك نفسك، وتهلك الناس معك، وأنت تعلم أنك وجندك تصيرون إلى جهنم! فقال له إبليس: لو خيرت بين ما أشرقت عليه الشمس، وأظلم عليه الليل، وبين هلكة بني آدم وضلالتهم أو واحد منهم طرفة عين، لاخترت طرفة العين على ذلك كله؛ وإنه ليقع لي من الشهوة في ذلك واللذة مثل جميع ما يتلذذ به جميع الخلق. ألم تعلم يا جرجيس أن الله أسجد لأبيك آدم جميع الملائكة، فسجد له: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل؛ وجميع الملائكة المقربين، وأهل السموات كلهم، وامتنعت من السجود، فقلت: لا أسجد لهذا الخلق وأنا خير منه! فلما قال هذا خلاه جرجيس؛ فما دخل إبليس منذ يومئذ جوف صنم، مخافة الخسف، ولا يدخله بعدها - فيما يذكرون - أبدًا. وقال الملك: يا جرجيس خدعتني وغررتني، وأهلكت آلهتي، فقال له جرجيس: إنما فعلت ذلك عمدًا لتعتبر ولتعلم أنها لو كانت آلهة كما تقول إذًا لامتنعت مني، فكيف ثقتك ويلك بآلهة لم تمنع أنفسها مني! وإنما أنا مخلوق ضعيف لا أملك إلا ما ملّكني ربِّي. قال: فلما قال هذا جرجيس، كلمتهم امرأة الملك، وذلك حين كشفت لهم إيمانها، وباينتهم بدينها، وعددت عليهم أفعال جرجيس، والعبر التي أراهم. وقالت لهم: ما تنتظرون من هذا الرجل إلا دعوة فتخسف بكم الأرض فتهلكوا، كما هلكت أصنامكم. الله الله أيها القوم في أنفسكم! فقال لها الملك: ويحًا لك إسكندرة! ما أسرع ما أضلك هذا الساحر في ليلة واحدة! وأنا أقاسيه منذ سبع سنين؛ فلم يطق مني شيئًا. قالت له: أفما رأيت الله كيف يظفره بك، ويسلطه عليك، فيكون له الفلج والحجة عليك في كل موطن! فأمر بها عند ذلك فحملت على خشبة جرجيس التي كان علق عليها، فعلقت بها، وجعلت عليها الأمشاط التي جعلت على جرجيس. فلما ألمت من وجع العذاب قالت: ادع ربك يا جرجيس يخفف عني، فإني قد ألمت من العذاب فقال: انظري فوقك. فلما نظرت ضحكت، فقال لها: ما الذي يضحكك؟ قالت: أرى مَلَكين فوقي، معهما تاج من حلي الجنة ينتظران به روحي أن تخرج، فإذا خرجت زيناها بذلك التاج، ثم صعدا بها إلى الجنة، فلما قبض الله روحها أقبل جرجيس على الدعاء؛ فقال: اللهم أنت الذي أكرمتني بهذا البلاء، لتعطيني به فضائل الشهداء! اللهم فهذا آخر أيامي الذي وعدتني فيه الراحة من بلاء الدنيا، اللهم فإني أسألك ألا تقبض روحي، ولا أزول من مكاني هذا حتى تنزل بهذا القوم المتكبرين من سطواتك ونقمتك ما لا قبل لهم به، وما تشفي به صدري، وتقر به عيني؛ فإنهم ظلموني وعذبوني. اللهم وأسألك ألا يدعو بعدي داعٍ في بلاء ولا كرب فيذكرني، ويسألك باسمي إلا فرجت عنه ورحمته وأجبته، وشفعتني فيه.
فلما فرغ من هذا الدعاء، أمطر الله عليهم النار، فلما احترقوا عمدوا إليه فضربوه بالسيوف غيظًا من شدة الحريق، ليعطيه الله تعالى بالقتلة الرابعة ما وعده. فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها، وصارت رمادًا، حملها الله من وجه الأرض حتى أقلها، ثم جعل عاليها سافلها، فلبثت زمانًا من الدهر يخرج من تحتها دخان منتن، لا يشمه أحد إلا سقم سقمًا شديدًا، إلا أنها أسقام مختلفة، لا يشبه بعضها بعضًا، فكان جميع من آمن بجرجيس، وقتل معه أربعة وثلاثين ألفًا، وامرأة الملك. رحمها الله! ونرجع الآن إلى: