وقال سليط بن سعد:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ ** وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار
وقال يزيد بن إياس النهشلي:
جزى الله كمالًا بأسوإ فعله ** جزاء سنمارٍ جزاءً موفرا
وقال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي - وكان أهدى أفراسًا إلى الحارث بن مارية الغساني، ووفد إليه فأعجبته وأعجب بعبد العزى وحديثه، وكان للملك ابن مسترضع في بنى الحميم بن عوف من بنى عبد ود، من كلب فنهشته حية، فظن الملك أنهم أغتالوه، فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار، وليس لي عليهم فضل في نسب ولافعال، فقال: لتأتينى بهم أو لأفعلن ولأفعلن! فقال: رجونا من حبائك أمرًا حال دونه عقابك. ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه:
جزاني جزاه الله شر جزائه ** جزاء سنمارٍ وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجةً ** يعلى عليه بالقراميد والسكب
فلما رأى البنيان تم سموقه ** وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
فأتهمه من بعد حرسٍ وحقبةٍ ** وقد هره أهل المشارق والغرب
وظن سنمارٌ به كل حبرةٍ ** وفاز لديه بالمودة والقرب
فقال اقذفوا بالعلج من فوق برجه ** فهذا لعمر الله من أعجب الخطب
وما كان لي عند ابن جفنة فاعلموا ** من الذنب ما آلى يمينًا على كلب
ليلتمسن بالخيل عقر بلادهم ** تحلل أبيت اللعن من قولك المزبى
ودون الذي منى ابن جفنة نفسه ** رجالٌ يردون الظلوم عن الشعب
وقد رامنا من قبلك المرء حارثٌ ** فغودر مسلولًا لدى الأكم الصهب
قال هشام: وكان النعمان هذا قد غزا الشأم مرارًا، وأكثر المصائب في أهلها، وسبى وغنم، وكان من أشد الملوك نكاية في عدوه، وأبعدهم مغارًا فيهم، وكان ملك فارس جعل معه كتيبتين: يقال لإحداهما: دوسر، وهي لتنوخ، وللأخرى: الشهباء، وهي لفارس، وهما اللتان يقال لهما: القبيلتان، فكان يغزو بهما بلاد الشام ومن لم يدن له من العرب.
قال فذكر لنا - والله أعلم - أنه جلس يومًا في مجلسه من الخورنق، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، وهو على متن النجف، في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط! فقال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فبم ينال ذاك؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده؛ فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح، وخرج مستخفيًا هاربًا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه؛ فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل، فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه فلم يجدوه، وفي ذلك يقول عدى بن زيد العبادى:
وتفكر رب الخورنق إذ أش ** رف يومًا وللهدى تبصير
سره حاله وكثرة ما يم ** لك والبحر معرضٌ والدير
فارعوى قلبه فقال وما غب ** طة حيٍ إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والإمة ** وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورقٌ جف ** فألوت به الصبا والدبور
فكان ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر.
قال ابن الكلبي: من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة.
وأما العلماء من الفرس بأخبارهم وأمورهم فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره.
ذكر ملك بهرام جور
ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه بهرام جور بن يزدجرد الخشن ابن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف. وذكر أن مولده كان هرمز دروز فرور دين ماه، لسبع ساعات مضين من النهار. فإن أباه يزدجرد دعا ساعة ولد بهرام ممن كان ببابه من المنجمين، فأمرهم بإقامة كتاب مولده وتبنيه بيانًا يدل على الذي يئول إليه كل أمره، فقاسوا الشمس ونظروا في مطالع النجوم، ثم أخبروا يزدجرد أن الله مورثٌ بهرام ملك أبيه، وأن رضاعه بغير أرض يسكنها الفرس، وأن من الرأى أن يربى بغير بلاده، فأجال يزدجرد الرأى في دفعه في الرضاع والتربية إلى بعض من بابه من الروم أو العرب أو غيرهم ممن لم يكن من الفرس، فبدا له في اختيار العرب لتربيته وحضانته؛ فدعا بالمنذر ابن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب، وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما: رام أبزوذ يزدجرد، وتأويله زاد سرور يزدجرد، والأخرى تدعى بمهشت، وتأويلها أعظم الخول، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير بهرام إلى بلاد العرب.
فسار به المنذر إلى محلته منها، واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة، وأذهان ذكية، وآداب رضية؛ من بنات الأشراف؛ منهن امرأتان من بنات العرب، وامرأة من بنات العجم، وأمر لهن بما أصلحهن من الكسوة والفرش والمطعم والمشرب وسائر ما احتجن إليه، فتداولنا رضاعه ثلاث سنين، وفطم في السنة الرابعة، حتى إذا أتت له خمس سنين، قال للمنذر: أحضرني مؤد بين ذوي علم، مدربين بالتعليم؛ ليعلموني الكتابة والرمي والفقه. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السن، ولم يأن لك أن تأخذ في التعليم؛ فالزم ما يلزم الصبيان الأحداث، حتى تبلغ من السن ما يطيق التعلم والتأدب، وأحضر من يعلمك كل ما سألت تعلمه. فقال بهرام للمنذر: أنا لعمري صغير، ولكن عقلي عقل محتنك، وأنت كبير السن وعقلك عقل ضرع. أما تعلم أيها الرجل؛ أن كل ما يتقدم في طلبه ينال في وقته، وما يطلب في وقته ينال في غير وقته، وما يفرط في طلبه يفوت فلا ينال! وإني من ولد الملوك، والملك صائر إلي بإذن الله، وأولى ما كلف به الملوك وطلبوه صالح العلم؛ لأنه لهم زين، ولملكهم ركن به يقوون. فعجل علي بمن سألتك من المؤدبين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 13 (0 من الأعضاء و 13 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)