فوجه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام هذه إلى باب الملك من أتاه برهط من فقهاء الفرس، ومعلمي الرمي والفروسية ومعلمي الكتابة وخاصة ذوي الأدب، وجمع له حكماء من حكماء فارس والروم، ومحدثين من العرب، فألزمهم بهرام، ووقت لأصحاب كل مذهب من تلك المهن وقتًا يأتونه فيه؛ وقدر لهم قدرًا يفيدونه ما عندهم، فتفرغ بهرام لتعلم كل ما سأل أن يتعلم، وللاستماع من أهل الحكمة وأصحاب الحديث، ووعى كل ما استمع، وثقف كل ما علم بأيسر تعليم. وألفي بعد أن بلغ اثنتي عشرة سنة، وقد استفاد كل ما أفيد وحفظه، وفاق معلميه ومن حضره من أهل الأدب؛ حتى اعترفوا له بفضله عليهم.
وأثاب بهرام المنذر ومعلميه، وأمرهم بالانصراف عنه، وأمر معلمي الرمي والفروسية بالإقامة عنده؛ ليأخذ عنهم كل ما ينبغي له التدرب به، والإحكام له؛ ثم دعا بهرام بالنعمان بن المنذر، وأمره أن يؤذن العرب بإحضار خيلهم من الذكور والإناث على أنسابها، فأذن النعمان للعرب بذلك، وبلغ المنذر الذي كان من رأى بهرام في اختيار الخيل لمركبه، فقال لبهرام: لا تجشمن العرب إجراء خيلهم؛ ولكن مر من يعرض الخيل عليك، واختر منها رضاك، وارتبطه لنفسك. فقال له بهرام: قد أحسنت القول؛ ولكني أفضل الرجال سؤددًا وشرفًا، وليس ينبغي أن يكون مركبي إلا أفضل الخيل، وإنما يعرف فضل بعضها على بعض بالتجربة؛ ولا تجربة بلا إجراء.
فرضي المنذر مقالته، وأمر النعمان العرب فأحضروا خيولهم، وركب بهرام والمنذر لحضور الحلبة، وسرحت الخيل من فرسخين، فبدر فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعًا سابقًا، ثم أقبل بعده بقيتها بداد بداد من بين فرسين تاليين، أو ثلاثة موزعة، أو سكيتًا. فقرب المنذر بيده ذلك الأشقر إلى بهرام، وقال: يبارك الله لك فيه، فأمر بهرام بقبضه وعظم سروره به، وتشكر للمنذر.
وإن بهرام ركب ذات يوم الفرس الأشقر الذي حمله عليه المنذر إلى الصيد، فبصر بعانة، فرمى عليها وقصد نحوها؛ فإذا هو بأسد قد شد على عير كان فيها، فتناول ظهره بفيه ليقصمه ويفترسه، فرماه بهرام رمية في ظهره، فنفذت النشابة من بطنه وظهر العير وسرته حتى أفضت إلى الأرض. فساخت فيها إلى قريب من ثلثيها، فتحرك طويلًا، وكان ذلك بمشهد ناس من العرب وحرس بهرام وغيرهم. فأمر بهرام فصور ما كان منه في أمر الأسد والعير في بعض مجالسه.
ثم إن بهرام أعلم المنذر أنه على الإلمام بأبيه، فشخص إلى أبيه، وكان أبوه يزدجرد لسوء خلقه لا يحفل بولد له، فاتخذ بهرام للخدمة، فليقي بهرام من ذلك عناء.
ثم إن يزدجرد وفد عليه أخ لقيصر، يقال له ثياذوس، في طلب الصلح والهدنة لقيصر والروم، فسأله بهرام أن يكلم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر، فانصرف إلى بلاد العرب، فأقبل على التنعم والتلذذ.
وهلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب، فتعاقد ناس من العظماء وأهل البيوتات إلا يملكوا أحدًا من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، وقالوا: إن يزدجرد لم يخلف ولدًا يحتمل الملك غير بهرام، ولم يل بهرام ولاية قط يبلى بها خبره، ويعرف بها حاله، ولم يتأدب بأدب العجم؛ وإنما أدبه أدب العرب، وخلقه كخلقهم، لنشئه بين أظهرهم. واجتمعت كلمتهم وكلمة العامة على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك، يقال له كسرى، ولم يقيموا أن ملكوه. فانتهى هلاك يزدجرد والذي كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام وهو ببادية العرب، فدعا بالمنذر والنعمان ابنه، وناسٍ من علية العرب، وقال لهم: إني لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي؛ كان أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه كان عليكم، مع فظاظته وشدته كانت على الفرس؛ وأخبرهم بالذي أتاه من نعي أبيه، وتمليك الفرس من ملكوا عن تشاور منهم في ذلك.
فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه. وإن المنذر جهز عشرة آلاف رجل من فرسان العرب، ووجههم مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبًا منهما ويدمن إرسال طلائعه إليهما، فإن تحرك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما، وأسر وسبى؛ ونهاه عن سفك الدماء. فسار النعمان حتى نزل قريبًا من المدينتين، ووجه طلائعه إليهما، واستعظم قتال الفرس. وإن من بالباب من العظماء وأهل البيوتات أوفدوا جوانى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر، وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان، فلما ورد جوانى على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه، قال له: الق الملك بهرام، ووجه معه من يوصله إليه فدخل جوانى على بهرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه، وأغفل السجود دهشًا، فعرف بهرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من روائه، فكلمه بهرام ووعده من نفسه أحسن الوعد، ورده إلى المنذر، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب، فقال المنذر لجوانى: قد تدبرت الكتاب الذي أتيتني به؛ وإنما وجه النعمان إلى ناحيتكم الملك بهرام حيث ملكه الله بعد أبيه، وخوله إياكم.
فلما سمع جوانى مقالة المنذر، وتذكر ما عاين من رواء بهرام وهيبته عند نفسه، وأن جميع من شاور في صرف الملك عن بهرام مخصوم محجوج، قال للمنذر: إني لست محيرًا جوابًا، ولكن سر إن رأيت إلى محلة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وتشاوروا في ذلك. وأت فيه ما يجمل؛ فإنهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به.
فرد المنذر جوانى إلى من أرسله إليه، واستعد وسار بعد فصول جوانى من عنده بيومٍ ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك؛ حتى إذا وردهما، أمر فجمع الناس، وجلس بهرام على منبرٍ من ذهب مكلل بجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلم عظماء الفرس وأهل البيوتات، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد أبي بهرام كانت، وسوء سيرته، وأنه أخرب بسوء رأيه الأرض، وأكثر القتل ظلمًا، حتى قد قتل الناس في البلاد التي كان يملكها، وأمورًاغير ذلك فظيعة. وذكروا أنهم إنما تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك، وسألوا المنذر ألا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه.
فوعى المنذر ما بثوا من ذلك، وقال لبهرام: أنت أولى بإجابة القوم مني. فقال بهرام: إني لست أكذبكم معشر المتكلمين في شيء مما نسبتم إليه يزدجرد لما استقر عندي من ذلك، ولقد زاريًا عليه لسوء هديه، ومتنكبًا لطريقه ودينه، ولم أزل أسأل الله أن يمن علي بالملك، فأصلح كل ما أفسد، وأرأب ما صدع؛ فإن أتت لملكي سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت لكم تبرأت من الملك طائعًا، وقد أشهدت بذلك علي الله وملائكته وموبذان موبذ. وليكن هو فيها حكمًا بيني وبينكم. وأنا مع الذي بينت على ما أعلمكم من رضاي بتمليككم من تناول التاج والزينة؛ من بين أسدين ضاريين مشبلين، فهو الملك.
فلما سمع القول مقالة بهرام هذه، وما وعد من نفسه، استبشروا بذلك، وانبسطت آمالهم، وقالوا فيما بينهم: إنا لسنا نقدر على رد قول بهرام؛ مع أنا إن تممنا على صرف الملك عنه نتخوف أن يكون في ذلك هلاكنا لكثرة من استمد واستجاش من العرب؛ ولكن نمتحنه بما عرض علينا مما لم يدعه إليه إلا ثقة بقوته وبطشه وجرأته، فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس لنا رأي إلا تسليم الملك إليه، والسمع والطاعة له، وإن يهلك ضعفًا ومعجزة، فنحن من هلكته براء، ولشره وغائلته آمنون.