وكان مهر نرسي معظمًا عند جميع ملوك فارس بحسن أدبه، وجودة آرائه، وسكون العامة إليه، وكان له أولاد مع ذلك قد قاربوه في القدر، وعملوا للملوك من الأعمال ما كادوا يلحقون بمرتبته؛ وإن منهم ثلاثة قد كانوا برزوا: أحدهم زروانداذ؛ كان مهر نرسي قصد به للدين والفقه، فأدرك من ذلك أمرًا عظيمًا، حتى صيره بهرام جور هربذان هربذ، مرتبة شبيهة بمرتبة موبذان موبذ. وكان يقال للآخر: ما جشنس، ولم يزل متوليًا ديوان الخراج أيام بهرام جور. وكان اسم مرتبته بالفارسية راستراي وشانسلان. وكان الثالث اسمه كارد صاحب الجيش الأعظم، واسم مرتبته بالفارسية أسطران سلار؛ وهذه مرتبة فوق مرتبة الإصبهذ تقارب مرتبة الأرجبذ، وكان اسم مهر نرسي بمرتبته بالفارسية بزر جفر ماندار؛ وتفسيره بالعربية وزير الوزراء، أو رئيس الرؤساء. وقيل إنه كان من قرية يقال لها إبروان من رستاق دشتبارين من كورة أردشير خرة، فابتنى فيه وفي جره من كورة سابور لاتصال ذلك ودشتبارين أبنية رفيعة، واتخذ فيها بيت نار - هو باق فيما ذكر إلى اليوم. وناره توقد إلى هذه الغاية - يقال لها مهر نرسيان، واتخذ بالقرب من إبروان أربع قرى، وجعل في كل واحدة منها بيت نار؛ فجعل واحدًا منها لنفسه، وسماه فراز مرا آور خذايان، وتفسير ذلك: أقبلي إلى سيدتي. وعلى وجهه التعظيم للنار، وجعل الآخر لزراونداذ، وسماه زراونداذان، والآخر لكارد وسماه كارداذان، والآخر لماجشنس، وسماه ماجشنسفان، واتخذ في هذه الناحية ثلاث باغات، جعل في كل باغ منها اثنتي عشرة ألف نخلة، وفي باغ اثني عشر ألف أصل زيتون، وفي باغ اثنتي عشرة ألف سروة، ولم تزل هذه القرى والباغات وبيوت النيران في يد قوم من ولده معروفين إلى اليوم؛ وإن ذلك - فيما ذكر - إلى اليوم باقٍ على أحسن حالاته.
وذكر أن بهرام بعد قراغه من أمر خاقان وأمر ملك الروم، مضى إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم؛ فقتل منهم مقتلة عظيمة. وسبى منهم خلقًا، ثم انصرف إلى مملكته، ثم كان من أمر هلاكه ما قد وصفت.
واختلفوا في مدة ملكه، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا. وقال آخرون كان ملكه ثلاثًا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا.
ذكر ملك يزدجرد بن بهرام جور
ثم قام الملك من بعده يزدجرد بن بهرام جور. فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف، فدعوا له وهنئوه بالملك، فرد عليهم ردًا حسنًا، وذكر أباه ومناقبه، وما كان منه إلى الرعية، وطول جلوسه كان لها، وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه مثل الذي كانوا يعهدونه من أبيه، فلا ينبغي لهم أن يستنكروه؛ فإن خلواته إنما تكون في مصلحة للمملكة وكيد الأعداء، وأنه قد استوزر مهر نرسي بن برازة صاحب أبيه، وأنه سائر فيهم بأحسن السيرة، ومستن لهم أفضل السنن، ولم يزل قامعًا لعدوه، رءوفًا برعيته وجنوده، محسنًا إليهم.
وكان له ابنان: يقال لأحدهما هرمز، وكان ملكًا على سجستان، والآخر يقال له فيروز؛ فغلب هرمز على الملك من بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته وقصه هرمز أخيه، وأنه أولى بالملك منه، وسأله أن يمده بجيش يقاتل بهم هرمز، ويحتوي على ملك أبيه، فأبى ملك الهياطلة أن يجيبه إلى ما سأل من ذلك؛ حتى أخبر أن هرمز ملك ظلوم جائر فقال ملك الهياطلة: إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عمل أهله، ولا يستطاع أن ينتصف ويحترف في ملك الملك الجائر إلا بالجور والظلم. فأمد فيروز بعد أن دفع إليه الطالقان بجيش، فأقبل بهم وقاتل هرمز أخاه فقتله، وشتت جمعه، وغلب على الملك.
وكان الروم التاثوا على يزدجرد بن بهرام في الخراج الذي كانوا يحملونه إلى أبيه، فوجه إليهم مهر نرسي بن برازة، وفي مثل العدة التي كان بهرام وجهه إليهم عليها، فبلغ له إرادته.
وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر في قول بعضهم وفي قول آخرين سبع عشرة سنة.
ذكر ملك فيروز بن يزدجرد
ثم ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، بعد أن قتل أخاه وثلاثة نفر من أهل بيته.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: استعد فيروز من خراسان، واستنجد بأهل طخارستان وما يليها، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد، وهو بالري - وكان أمهما واحدة، واسمها دينك، وكانت بالمدائن تدبر ما يليها من الملك - فظفر فيروز بأخيه فحبسه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتدين، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن تدبير ذلك، الأمر حتى قسم ما في بيوت الأموال، وكف عن الجباية، وساسهم أحسن السياسة؛ فلم يهلك في تلك السنين أحدٌ ضياعًا إلا رجل واحد.
وسار إلى قومٍ كانوا قد غلبوا على طخارستان يقال لهم الهياطلة، وقد كان قوادهم في أول ملكه لمعونتهم إياه على أخيه، وكانوا - فيما زعموا - يعملون عمل قوم لوط فلم يستحل ترك البلاد في أيديهم، فقاتلهم فقتلوه في المعركة، وأربعة بنين له، وأربعة أخوة، كلهم كان يتسمى بالملك، وغلبوا على عامة خراسان حتى سار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا من أهل شيراز، وكان فيهم عظيمًا، فخرج فيمن تبعه شبه المحتسب المتطوع حتى لقي صاحب الهياطلة، فأخرجه من بلاد خراسان، فافترقا على الصلح؛ ورد ما لم يضع مما في عسكر فيروز من الأسراء والسبي. وملك سبعًا وعشرين سنة.
وقال غير هشام من أهل الأخبار: كان فيروز ملكًا محدودًا محارفًا مشئومًا على رعيته، وكان جل قوله وفعله فيما هو ضرر وآفة عليه وعلى أهل مملكته. وإن البلاد قحطت في ملكه سبع سنين متوالية، فغارت الأنهار والقنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهاجت عامة الزروع والآجام في السهل والجبل من بلاده، وموتت فيها الطير والوحوش، وجاعت الأنعام والدواب؛ حتى كانت لا تقدر أن تحمل حمولة، وقل ماء دجلة، وعم أهل بلاده اللزبات والمجاعة والجهد والشدائد.
فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية، ولا نائبة ولا سخرة، وأن قد ملكهم أنفسهم، ويأمرهم بالسعى فيما يقوتهم ويقيمهم، ثم أعاد الكتاب إليهم في إخراج كل من كان له منهم مطمورة أو هرى أو طعام أو غيره؛ مما يقوت الناس، والتآسي فيه، وترك الاستئثار فيه؛ وأن يكون حال أهل الغنى والفقر وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدًا. وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنسيًا مات جوعًا عاقب أهل المدينة، أو أهل القرية، أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الأنسي جوعًا، ونكل بهم أشد النكاال.
فساس فيروز رعيته في تلك اللزبة والمجاعة سياسة لم يعطب أحد منهم جوعًا؛ ما خلا رجلًا واحدًا من رستاق كورة أردشير خرةٌ، يدعى بديه فتعظم ذلك عظماء الفرس، وجميع أهل أردشير خرة وفيروز، وأنه ابتهل إلى ربه في نشر رحمته له ولرعيته، وإنزال غيثه عليهم؛ فأغاثه الله، وعادت بلاده في كثرة المياه على ما كانت تكون عليه، وصلحت الأشجار.
وإن فيروز أمر فبنيت بالرى مدينة، وسماها رام فيروز، وفيما بين جرجان وباب صول مدينة، وسماها روشن فيروز، وبناحية أذربيجان مدينة وسماها شهرام فيروز.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 21 (0 من الأعضاء و 21 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)