ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالهما على العرب وأهل اليمن

حدثت عن هشام بن محمد، قال: كان يخدم الملوك من حمير في زمان ملكهم أبناء الأشراف من حمير وغيرهم من القبائل؛ فكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي، وكان سيد كندة في زمانه. فلما سار حسان بن تبع إلى جديس خلفه على بعض أموره، فلما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع، وملك مكانه، اصطنع عمرو بن حجر الكندي. وكان ذا رأي ونبل؛ وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بني أخيه حسان أن زوجه ابنة حسان بن تبع، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث التي ابتلو بها؛ لأنه لم يكن يطمع في التزويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب. وولدت ابنة حسان بن تبع لعمرو بن حجر الحارث بن عمرو، وملك بعد عمرو بن تبع عبد كلال بن مثوب؛ وذلك أن ولد حسان كانوا صغارًا، إلا ما كان من تبع بن حسان؛ فإن الجن استهامته، فأخذ الملك عبد كلال بن مثوب مخافة أن يطمع في الملك غير أهل بيت المملكة، فوليه بسن وتجربة وسياسة حسنه. وكان - فيما ذكروا - على دين النصرانية الأولى، وكان يسر ذلك من قومه، وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان، قدم عليه في الشأم، فوثبت حمير بالغساني فقتلته، فرجع تبع بن حسان من استهامة الجن إياه صحيحًا، وهو أعلم الناس بنجم، وأعقل من تعلم في زمانه، وأكثره حديثًا عما كان قبله، وما يكون في الزمان بعده. فملك تبع ابن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، فهابته حمير والعرب هيبة شديدة، فبعث بابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء، امرأة من النمر، فذهب ملك آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو والكندي ما كانوا يملكون.
وقال هشام: ملك بعد النعمان ابنه المنذر بن النعمان وأمه هند ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعًا وأربعين سنة؛ من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشر سنة. وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه الأسود بن المنذر، وأمه هر ابنه النعمان من بنى الهيجمانة، ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو الذي أسرته فارس عشرين سنة؛ من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز، ست سنين.
ذكر ملك بلاش بن فيروز

ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه بلاش بن فيروز بن يزدجرد ابن بهرام جور، وكان قباذ أخوه قد نازعه الملك، فغلب بلاش، وهرب قباذ إلى خاقان ملك الترك يسأله المعونة والمدد، فلما عقد التاج لبلاش على رأسه اجتمع إليه العظماء والأشراف فهنئوه ودعوا له، وسألوه أن يكافئ سوخرا بما كان منه، فخصه وأكرمه وحباه، ولم يزل بلاش حسن السيرة، حريصًا على العمارة. وكان بلغ من حسن نظره أنه كان لا يبلغه أن بيتًا خرب وجلا أهله عنه إلا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت على تركه انتعاشهم وسد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم، وبنى بالسواد مدينة سماها بلا شاواذ، وهي مدينة ساباط التي بقرب المدائن.
وكان ملكه أربع سنين.
ذكر ملك قباذ بن فيروز

ثم ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصرًا به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور، ومعه جماعة يسيرة ممن شايعه على الشخوص متنكرين، وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفس قباذ إلى الجماع، فشكا ذلك إلى زرمهر، وسأله أن يلتمس له امراة ذات حسب، ففعل ذلك، وصار إلى امراة صاحب منزله، وكان رجلًا من الأساورة، وكانت له ابنة بكر فائقة في الجمال، فتنصح لها في ابنتها، وأشار عليها أن تبعث بها إلى قباذ، فأعلمت ذلك زوجها؛ ولم يزل زرمهر يرغب المرأة وزوجها؛ ويشير عليهما بما يرغبهما فيه حتى فعلا، وصارت الابنة إلى قباذ، واسمها نيوندخت، فغشيها قباذ في تلك اليلة، فحملت بأنوشروان، فأمر لها بجائزة حسنة، وحباها حباءً جزيلًا. وقيل: إن أم تلك الجارية سألتها عن هيئة قباذ وحاله، فأعلمتها أنها لا تعرف من ذلك غير أنها رأت سراويله منسوجًا بالذهب، فعلمت أمها أنه من أبناء الملوك وسرها ذلك. ومضى قباذ إلى خاقان؛ فلما وصل إليه أعلمه أنه ابن ملك فارس، وأن أخاه ضاده في الملك وغلبه، وأنه أتاه يستنصره فوعده أحسن العدة، ومكث قباذ عند خاقان أربع سنين يدافعه بما وعده. فلما طال الأمر على قباذ أرسل إلى امرأة خاقان يسألها أن تتخذه ولدًا، وأن تكلم فيه زوجها، وتسأله إنجاز عدته ففعلت، ولم تزل تحمل على خاقان حتى وجه مع قباذ جيشًا، فلما انصرف قباذ بذلك الجيش؛ وصار في ناحية نيسابور سأل الرجل الذي كان أتاه بالجارية عن أمرها، فاستخبر ذلك من أمها، فأخبرته أنها قد ولدت غلامًا، فأمر قباذ أن يؤتى بها، فأتته ومعها أنوشروان تقوده بيدها، فلما دخلت عليه سألها عن قصة الغلام، فأخبرته أنه ابنه، وإذا هو قد نزع إليه في صورته وجماله.
ويقال: إن الخبر ورد عليه في ذلك الموضع بهلاك بلاش، فتيمن بالمولود، وأمر بحمله وحمل أمه على مراكب نساء الملوك، فلما صار إلى المدائن، واستوثق له أمر الملك خص سوخرا، وفوض إليه أمره، وشكر له ما كان من خدمة ابنه إياه، ووجه الجنود إلى الأطراف، ففتكوا في الأعداء، وسبوا سبايا كثيرةً، وبنى بين الأهواز وفارس مدينة الرجان، وبنى أيضًا مدينة حلوان، وبنى بكورة أردشير خرة في ناحية كارزين مدينة يقال لها قباذ خرة، وذلك سوى مدائن وقرى أنشأها، وسوى أنهار احتفرها، وجسورٍ عقدها. فلما مضت أكثر أيامه، وتولى سوخرا تدبير ملكه وسياسة أموره مال الناس عليه، وعاملوه واستخفوا بقباذ، وتهاونوا بأمره، فلما احتنك لم يحتمل ذلك، ولم يرض به، وكتب إلى سابور الرازي - الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان إصبهبذ البلاد - في القدوم عليه فيمكن قبله من الجند، فقدم سابور بهم عليه، فواصفه قباذ حالة سوخرا، وأمره بأمره فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد عنده سوخرا جالسًا، فمشى نحو قباذ متجاوزًا له متغافلًا لسوخرا، فلم يأبه سوخرا لذلك من أرب سابور، حتى ألقى وهقًا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه فأخرجه فأوثقه واستودعه السجن، فحينئذٍ قيل: " نقصت ريح سوخرا وهبت لمهران ريحٌ "، وذهب ذلك مثلًا. وإن قباذ أمر بعد ذلك بقتل سوخرا فقتل، وإنه لما مضى لملك قباذ عشر سنين اجتمعت كلمة موبذان موبذ والعظماء على إزالته عن ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، لمتابعته لرجل يقال له مزدك مع أصحاب له قالوا: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضلٌ من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئًا مما يتسع به. وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم، وجعلوا أخًا له يقال له جاماسب مكانه، وقالوا لقباذ: إنك قد أثمت فيما عملت به فيما مضى، وليس يطهرك من ذلك إلا إباحة نسائك، وأرادوه على أن يدفع إليهم نفسه فيذبحوه ويجعلوه قربانًا للنار، فلما رأى ذلك زرمهر بن سوخرا خرج بمن شايعه من الأشراف باذلا نفسه، فقتل في المزدكية ناسًا كثيرًا، وأعاد قباذ إلى ملكه، وطرح أخاه جاماسب. ثم لم يزل المزدكية بعد ذلك إنما يحرشون قباذ على زرمهر حتى قتله، ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه؛ فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور.
وذكر بعض أهل العلم أخبار الفرس أن العظماء من الفرس هم حبسوا قباذ حين اتبع مزدك وشايعه على ما دعاه إليه من أمره، وملكوا مكانه أخاه جاماسب بن فيروز، وأن أختًا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ محبوسًا، فحاولت الدخول عليه، فمنعها إياه الرجل الموكل كان بالحبس ومن فيه، وطمع الرجل أن يفضحها بذلك السبب، وألقى إليها طمعه فيها، فأخبرته أنها غير مخالفته في شيء مما يهوى منها، فأذن لها فدخلت السجن فأقامت عند قباذ يومًا، وأمرت فلف قباذ في بساط من البسط التي كانت معه في الحبس، وحمل على غلام من غلمانه قوي ضابط، وأخرج من الحبس، فلما مر الغلام بوالى الحبس سأله عما كان حامله فأفحم، واتبعته أخت قباذ فأخبرته أنه فراشٌ قد افترشته في عراكها، وأنها إنما خرجت لتتطهر وتنصرف؛ فصدقها الرجل ولم يمس البساط، ولم يدن مه استقذارًا له، وخلى عن الغلام الحامل لقباذ، فمضى بقباذ ومضت على أثره. وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة ليستمد ملكها ويستجيشه فيحارب من خالفه ومن خلعه. وأنه نزل في مبدئه إليها بأبرشهر رجل من عظماء أهلها، له اينةٌ معصر، وأن نكاحه أم كسرى أنوشروان كان في سفره هذا، وأن قباذ رجع من سفره ذلك معه ابنه أنوشروان وأمه، فغلب أخاه جاماسب على ملكه بعد أن ملك أخوه جاماسب ست سنين، وأن قباذ غزا بعد ذلك بلاد الروم، وافتتح منها مدينةً من مدن الجزيرة تدعى آمد، وسبى أهلها، وأمر فبنيت في حد ما بين فارس وأرض الأهواز مدينة، وسماها رامقباذ، وهي التي تسمى بومقباذ، وتدعى أيضًا أرجان وكور كورة، وجعل لها رساتيق من كورة سرق، كورة رام هرمز، وملك قباذ ابنه كسرى، وكتب له بذلك كتابًا وختمه بخاتمه.
فلما هلك قباذ - وكان ملكه بسنى ملك أخيه جاماسب: ثلاثاُ وأربعين سنة - فنفذ كسرى ما أمر به قباذ من ذلك.