وذكر أن المنجمين أجمعت أن أبرويز يملك ثمانيًا وأربعين سنة. وقد كان أبرويز بارز بهرام فاختطف رمحه من يده وضرب به رأسه حتى تقصف، فاضطرب على بهرام أمره ووجل، وعلم أنه لا حيلة له في أبرويز فانحاز نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرق في جنود الروم عشرين ألف ألف وصرفهم إلى موريق. ويقال إن أبرويز كتب للنصارى كتابًا أطلق لهم فيه عمارة بيعهم وأن يدخل في ملتهم من أحب الدخول فيها من غير المجوس، واحتج في ذلك أن أنوشوان كان هادن قيصر في الإتاوة التي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده، واتخاذ بيوت النيران هنالك. وإن قيصر اشترط مثل ذلك في النصارى؛ ولبث بهرام في الترك مكرمًا عند الملك، حتى احتال له أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز، وجهه إلى الترك بجوهر نفيس وغيره حتى احتال لخاتون امرأة الملك ولاطفها بذلك الجوهر وغيره، حتى دست لبهرام من قتله. فيقال إن خاقان اغتم لقتله وأرسل إلى كردية أخته وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسألها أن تزوج نفسها نطرًا أخاه، وطلق خاتون بهذا السبب، فيقال إن كردية أجابت خاقان جوابًا لينًا وصرفت نطرًا، وإنها ضمت إليها من كان مع أخيها من المقاتلة وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، وإن نطرا التركي اتبعها في اثني عشر ألف مقاتل، وإن كردية قتلت نطرًا بيدها ومضت لوجهها، وكتبت إلى أخيها كردى فأخذ لها أمانًا من أبرويز. فلما قدمت عليه تزوجها أبرويز واغتبط بها وشكر لها ما كان من عتابها لبهرام، وأقبل أبرويز على برموريق وإلطافه. وإن الروم خلعوا - بعد أن ملك كسرى أربع عشرة سنة - موريق وقتلوه وأبادوا ورثته - خلا ابن له هرب إلى كسرى - وملكوا عليهم رجلًا يقال له قوفا.
فلما بلغ كسرى نكث الروم عهد موريق وقتلهم إياه، امتعض من ذلك وأنف منه، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن موريق اللاجئ إليه، وتوجه وملكه على الروم، ووجه معه ثلاثة نفر من قواده في جنود كثيفة. أما أحدهم فكان يقال رميوزان، وجهه إلى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى إلى أرض فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس فأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت وضعت في تابوت من ذهب، وطمر في بستان وزرع فوقه مبقلة، وألح عليهم حتى دلوه على موضعها، فاحتفر عنها بيده واستخرجها، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين من ملكه.
وأما القائد الآخر - وكان يقال له شاهين، وكان فاذوسبان المغرب - فإنه سار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد نوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة إسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وأما القائد الثالث فكان يقال له فرهان، وتدعى مرتبته شهربراز. وإنه قصد القسطنطينية حتى أناخ على ضفة الخليج القريب منها، وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضبًا مما انتهكوا من موريق، وانتقامًا له منهم، ولم يخضع لابن موريق من الروم أحد ولم يمنحه الطاعة، غير أنهم قتلوا قوفا الملك الذي كانوا ملكوه عليهم لما ظهر لهم من فجوره وجرأته على الله وسوء تدبيره، وملكوا عليهم رجلًا يقال له هرقل.
فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فاؤس إياها وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم، بكى إلى الله وتضرع إليه وسأله أن ينقذه وأهل مملكته من جنود فارس، فرأى في منامه رجلًا ضخم الجثة رفيع المجلس، عليه بزة، قائمًا في ناحية عنه، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه، وقال لهرقل: إنى قد أسلمته في يدك. فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد، ورأى الليلة الثانية في منامه أن الرجل الذي رآه في حلمه جالس في مجلس رفيع، وأن الرجل الداخل عليهما أتاه وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحب المجلس وأمكنه منه، وقال له: هأنذا قد دفعت إليك كسرى برمته، فاغزه فإن الظفر لك، وإنك مدالٌ عليه ونائلٌ أمنيتك في غزاتك. فلما تتابعت عليه هذه الأحلام، قصها على عظماء الروم وذوي الرأي منهم.
فأخبروه أنه مدالٌ عليه، وأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابنًا له على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهر براز، وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين بعد سنة، وكان شاهين - فاذوسبان المغرب - بباب كسرى حين ورد هرقل نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه، وعزله إياه عن ذلك الثغر، وكان شهر براز مرابطًا للموضع الذي كان فيه لتقدم كسرى كان إليه في الجثوم فيه، وترك البراح منه، فبلغ كسرى خبر تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين، فوجه لمحاربة هرقل رجلًا من قواده يقال له: راهزار، في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة الموصل على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزها - وكان كسرى حين بلغه خبر هرقل مقيمًا بد سكرة الملك - فنفذ راهزار لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره، فقطع هرقل دجلة في موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جندٌ فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فانصرفوا إليه وأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل، وأيقن راهزار أنه ومن معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين ألف مقاتل، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدتهم، كل ذلك يجيبه كسرى في كتابه؛ أنه إن عجز عن أولئك الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته. فلما تتابعت على راهزار جوابات كتبه إلى كسرى بذلك، عبى جنده وناهض الروم، فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم، وبلغ كسرى قتل الروم راهزار وما نال هرقل من الظفر، فهده ذلك وانحاز من دسكرة المكل إلى المدائن، وتحصن فيها لعجزه كان من محاربة هرقل.
وسار هرقل حتى كان قريبًا من المدائن، فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعد لقتاله، انصرف إلى أرض الروم وكتب كسرى إلى قواد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلوه على كل رجل منهم ومن أصحابهم، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فيأمر أن يعاقب بقدر ما استوجب، فأحرجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب إلى شهر براز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف ما كان من أمر الروم في عمله.
وقد قيل: إن قول الله: " الم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون "، إنما نزل في أمر أبرويز ملك فارس وملك الروم هرقل، وما كان بينهما مما قد ذكرت من هذه الأخبار.
ذكر من قال ذلك
حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن عكرمة: أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض. قال: وأدنى الأرض يومئذ أذرعات، بها التقوا فهزمت الروم، فبلغ ذلك النبي ص وأصحابه وهم بمكة؛ فشق ذلك عليهم - وكان النبي ص يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم - وفرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي ص، فقالوا: إنكم أهل الكتاب والنصارى أهل كتابٍ ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم؛ فأنزل الله " آلم غلبت الروم " - إلى - " وهم عن الآخرة هم غافلون "، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا! فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا. فقام إليه أبي بن خلفٍ الجمحي، فقال: كذبت يا أبا فصيل! فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله! فقال: أنا حبك! عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي ص، فأخبره، فقال: ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي أبيًا فقال: لعلك ندمت، قال: لا، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت.