قال أبو عمرو بن العلاء: فلما بلغ الأعشى قول أبي كلبة، قال: صدق. وقال معتذرًا مما قال:
متى يقرن أصم بحبل أعشى ** يتيها في الضلال وفي الخسار
فلست بمبصرٍ ما قد يراه ** وليس بسامعٍ أبدًا حواري
وقال الأعشى في ذلك اليوم:
أتانا عن بني الأحرا ** ر قولٌ لم يكن أمما
أرادوا نحت أنلتنا ** وكنا نمنع الخطما
وقال أيضًا لقيس بن مسعود:
أقيس بن مسعود بن قيسٍ بن خالدٍ ** وأنت امرؤٌ ترجو شبابك وائل
أتجمع في عامٍ غزاةٍ ورحلةً ** ألا ليت قيسًا غرقته القوابل!
وقال أعشى بني ربيعة:
ونحن غداة ذي قارٍ أقمنا ** وقد شهد القبائل محلبينا
وقد جاءوا بها جأواء فلقًا ** ململمة كتائبها طحونا
ليوم كريهةٍ حتى تجلت ** ظلال دجاه عنا مصلتينا
فولونا الدوابر واتقونا ** بنعمان بن زرعة أكتعينا
وذدنا عارض الأحرار وردًا ** كما ورد القطا الثمد المعينا
ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند

قد مضى ذكرنا من كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر ابن ربيعة إلى حين هلاك عمرو بن هند، وقدر مدة ولاية كل من ولي منهم ذلك، ونذكر الآن من ولي ذلك لهم بعد عمرو بن هند، إلى أن ولي ذلك لهم النعمان بن المنذر، والذي ولي لهم ذلك بعد عمرو بن هند أخوه قابوس بن المنذر، وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو، فولي ذلك أربع سنين؛ من ذلك في زمن أنوشروان ثمانية أشهر، وفي زمن هرمز بن أنوشروان ثلاث سنين وأربعة أشهر.
ثم ولي بعد قابوس بن المنذر السهرب.
ثم ولي بعده المنذر أبو النعمان أربع سنين.
ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة، من ذلك زمن هرمز بن أنوشروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسرى أبرويز ابن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.
ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرجان، تسع سنين في زمن كسرى ابن هرمز. ولسنة وثمانية أشهر من ولاية إياس بن قبيصة بعث النبي فيما زعم هشام بن محمد.
ثم استخلف آزاذبه بن هامان بن مهر بنداذ الهمذاني سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرًا ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر - وهو الذي تسميه العرب الغرور، الذي قتل بالبحرين يوم جؤاثى، إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة - ثمانية شهر.
فكان آخر من بقي من آل نصر بن ربيعة، فانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس.
فجميع ملوك آل نصر - فيما زعم هشام - ومن استخلف من العباد والفرس عشرون ملكًا. قال: وعدة ما ملكوا خمسمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر.
رجع الحديث إلى ذكر المرزان وولايته اليمن، من قبل هرمز وابنه أبرويز، ومن وليها بعده: حدثت عن هشام بن محمد، قال: عزل هرمز بن كسرى وين عن اليمن، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن، حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم إن أهل جبل من جبال اليمن يقال له المصانع خالفوه، وامتنعوا من حمل الخراج إليه - والمصانع جبل طويل ممتنع، إلى جانبه جبل آخر قريب منه، بينهما فضاء ليس بالبعيد، إلا أنه لا يرام ولا يطمع فيه - فسار المروزان إلى المصانع، فلما انتهى إليه نظر إلى جبل لا يطمع في دخوله إلا من باب واحد، يمنع ذلك الباب رجل واحد؛ فلما رأى أن لا سبيل له إليه، صعد الجبل الذي يحاذي حصنهم، فنظر إلى أضيق مكان منه وتحته هواء ذاهب، فلم ير شيئًا أقرب إلى افتتاح الحصن من ذلك الموضع، فأمر أصحابه أن يصطفوا له صفين، ثم يصيحوا به صيحة واحدة، وضرب فرسه فاستجمع حضرًا، ثم رمى به فوثب المضيق، فإذا هو على رأس الحصن. فلما نظرت إليه حمير وإلى صنيعه قالوا: هذا أيم - والأيم بالحميرية شيطان - فانتهرهم وزبرهم بالفارسية، وأمرهم أن يكتف بعضهم بعضًا، فاستنزلهم من حصنهم، وقتل طائفة منهم وسبى بعضهم، وكتب بالذي كان من أمره إلى كسرى ابن هرمز. فتعجب من صنيعه، وكتب إليه: أن استخلف من شئت، وأقبل إلي.
قال: وكان للمرزوان ابنان: أحدهما تعجبه بالعربية، ويروي الشعر؛ يقال له خر خسرة، والآخر أسوارٌ يتكلم بالفارسية، ويتدهقن، فاستخلف المرزوان ابنه خر خسرة - وكان أحب ولده إليه - على اليمن، وسار حتى إذا كان في بعض بلاد العرب هلك، فوضع في تابوت، وحمل حتى قدم به على كسرى، فأمر بذلك التابوت فوضع في خزانته، وكتب عليه في هذا التابوت: فلان الذي صنع كذا وكذا، قصته في الجبلين. ثم بلغ كسرى تعرب خر خسرة وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان، وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم.
وكان كسرى قد طغى لكثرة ما قد جمع من الأموال وأنواع الجوهر والأمتعة والكراع وافتتح من بلاد العدو، وساعده من الأمور، ورزق من مؤاتاته، وبطر، وشره شرها فاسدًا، وحسد الناس على ما في أيديهم من الأموال، فولى جباية البقايا علجًا من أهل قرية تدعى خندق من طسوج بهرسير؛ يقال له: فرخزاذ بن سمي، فسام الناس سوء العذاب، وظلمهم واعتدى عليهم، وغصبهم أموالهم في غير حلة، بسبب بقايا الخراج، واستفسدهم بذلك، وضيق عليهم المعاش، وبغض إليهم كسرى وملكه.
وحدثت عن هشام بن محمد، أنه قال: كان أبرويز كسرى هذا قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية، وكان يشتو بالمدائن، ويتصيف ما بينها وبين همذان، وكان يقال: إنه كانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا واحدًا، وخمسون ألف دابة بين فرس وبرذون وبغل، وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك.
وأما غير هشام فإنه قال: كان له في قصره ثلاثة آلاف امرأة يطؤهن، وألوف جوارٍ اتخذهن للخدمة والغناء وغير ذلك، وثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته، وكانت له ثمانية آلاف وخمسمائة دابة لمركبه، وسبعمائة وستون فيلًا، واثنا عشر ألف بغل لثقله، وأمر فبنيت بيوت النيران، وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ للزمزمة.