قال: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثنٍ من أوثان الجاهلية في نفرٍ من قريش؛ قد ذبح له رجل من العرب عجلًا فنحن ننظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتًا ما سمعت صوتًا قطً أنفذ منه؛ وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا آل ذريح؛ أمر نجيح، ورجلً يصيح؛ يقول: لا إله إلا الله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن ابن إٍسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، مولى عثمان بن عفان، مثله.
حدثنا الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: كنا جلوسًا عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول الله بشهر؛ نحرنا جزورًا؛ فإذا صائح يصيح من جوف واحدة: اسمعوا إلي العجب! ذهب استراق الوحي، ونرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد، مهاجره إلى يثرب. قال: فأمسكنا، وعجبنا، وخرج رسول الله .
حدثني أحمد بن سنان القطان الواسطي، قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، أن رجلًا من بني عامر أتى النبي ، فقال: أرني الخاتم الذي بين كتفيك؛ فإن يك بك طبٌ داويتك، فإني أطب العرب، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم، ادع ذاك العذق، قال: فنظر إلى عذق في نخلة، فدعاه فجعل ينقز؛ حتى قام بين يديه، قال: قل له فليرجع، فرجع، فقال العامري: يا بني عامر، ما رأيت كاليوم أسحر! قال أبو جعفر: والأخبار عن الدلالة على نبوته أكثر من أن تحصى، ولذلك كتاب يفرد إن شاء الله.
ونرجع الآن إلى:
ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل عليه السلام إليه بوحيه وما تلا ذلك من الأحداث إلى وقت الهجرة

قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل بعض الأخبار الواردة عن أول وقت مجيء جبريل نبينا محمدًا ص بالوحي من الله، وكم كان سن النبي صص يومئذ؛ ونذكر الآن صفة ابتداء جبريل إياه بالمصير إليه، وظهوره له بتنزيل ربه.
فحدثني أحمد بن عثمان المعروف بأبي الجوزاء، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد، يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان أول ما ابتدىء به رسول الله ص من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بغار بحراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى أهله، فيتزود لمثلها؛ حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال: يا محمد، أنت رسول الله! قال رسول الله ص، فجثوت لركبتي وأنا قائم، ثم زحفت ترجف بوادري، ثم دخلت على خديجة، فقلت: زملوني، زملوني! حتى ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالقٍ من جبل، فتبدى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله. ثم قال: اقرأ، قلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغتنى ثلاث مرات، حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق "، فقرأت. فأتيت خديجة. فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ ووالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، قالت: اسمع من ابن أخيلك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران، ليتني فيها جذعٌ! ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك! قلت: أمخرجي هم؟ قال: نعم؛ إنه لم يجيء رجلٌ قطُّ بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
ثم كان أول ما نزل علي من القرآن بعد " اقرأ ": " ن، والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ، وإن لك لأجرًا غير ممنونٍ، وإنك لعلى خلق عظيمٍ، فستبصر ويبصرون "، و " يأيها المدثر، قم فأنذر "، و " والضحى، والليل إذا سجى ".
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته. ثم ذكر نحوه؛ غير أنه لم يقل: " ثم كان أول ما أنزل علي من القرآن ". إلى آخره.
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليماني الشيباني، قال: حدثنا عبد الله بن شداد، قال: أتى جبريل محمدًا ص، فقال: يا محمد، اقرأ؟ فقال: ما أقرأ؟ قال: فضمه، ثم قال: يا محمد، اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علقٍ " حتى بلغ " علم الإنسان ما لم يعلم "، قال: فجاء إلى خديجة، فقال: يا خديجة، ما أراني إلا قد عرض لي، قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك؛ ما أتيت فاحشةً قط، قال: فأتت خديجة ورقة بن نوفل فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به.
قال: ثم أبطأ عليه جبريل، فقالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك، قال: فأنزل الله عز وجل: " والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى ".
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير، وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله ص من النبوة حين جاء جبريل عليه السلام؟ فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس: كان رسول الله ص يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية - والتحنث: التبرر - وقال أبو طالب:
وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازل
فكان رسول الله ص يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين؛ فإذا قضى رسول الله ص جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعًا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله عز وجل فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها؛ وذلك في شهر رمضان، خرج رسول الله ص إلى حراء - كما كان يخرج لجواره - معه أهله؛ حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله ص، فجاءني وأنا نائم بنمطٍ من ديباجٍ، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي؛ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى قوله: " علم الإنسان ما لم يعلم "، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي؛ وكأنما كتب في قلبي كتابًا.
قال: ولم يكن من خلق الله أحدٌ أبغض إلي من شاعر أو مجنون؛ كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبدًا! لأعمدن إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن.
قال: فخرجت أريد ذلك؛ حتى إذا كنت في وسط من الجبل؛ سمعت صوتًا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبرئيل في صورة رجل صافً قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت؛ فما أتقدم وما أتأخر؛ وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك؛ فما زلت واقفًا ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي؛ حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي؛ حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعًا إلى أهلي؛ حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفًا فقالت: يا أبا القاسم؛ أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. قال: قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت: أعيدك بالله من ذلك يا أبا القاسم! ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك! وما ذاك يا بن عم! لعلك رأيت شيئًا؟ قال: فقلت لها: نعم. ثم حدثتها بالذي رأيت؛ فقالت: أبشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد - وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل - فأخبرته بما أخبرها به رسول الله أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس، قدوس! والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتي يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر - يعني بالناموس جبرئيل عليه السلام الذي كان يأتي موسى - وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول اله ص، فأخبرته بقول ورقة، فسهل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهم، فلما قضى رسول اله ص جواره، وانصرف صنع كما كان يصنع، وبدأ بالكعبة فطاف بها. فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت أو سمعت، فأخبره رسول الله ص، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه؛ ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله نصرًا يعلمه. ثم أدنى رأسه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله ص، إلى منزله.
وقد زاده ذلك من قول ورقة ثباتًا، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم.