حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن رسول الله ص ركب ناقته، وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلم يا رسول الله! إلى العدد والعدة والمنعة؛ فيقول لهم ص: خلوا زمامها فإنها مأمورة؛ حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده؛ وهو يومئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء؛ يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل، ابنا عمرو بن عباد بن ابن ثعلبة ابن غنم بن مالك بن النجار. فلما بركت لم ينزل عنها رسول الله ص، ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله ص واضعٌ لها زمامها لا يثنيها به؛ ثم التفتت خلفها، ثم رجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول الله ص، فاحتمل أبو أيوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول الله ص: المرء مع رحله. فنزل على أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب، في بني غنم بن النجار.
قال أبو جعفر: وسأل رسول الله ص عن المربد لمن هو؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأرضيهما. فأمر به رسول الله ص أن يبنى مسجدًا، ونزل على أبي أيوب، حتى بنى مسجده ومساكنه. وقيل: إن رسول الله ص اشترى موضع مسجده، ثم بناه.
والصحيح عندنا في ذلك، ما حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال: كان موضع مسجد النبي ص لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبورٌ من قبور الجاهلية، فقال لهم رسول الله ص: ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغيه به ثمنًا إلا ما عند الله، فأمر رسول الله ص بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت، وكان رسول الله ص قبل ذلك يصلي في مرابض الغنم، وحيث أدركته الصلاة.
قال أبو جعفر: وتولى بناء مسجده ص هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار.
وفي هذه السنة بني مسجد قباء.
وكان أول من توفي بعد مقدمه المدينة من المسلمين - فيما ذكر - صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرًا حتى مات.
ثم توفي بعده أسعد بن زرارة في سنة مقدمه، أبو أمامة. وكانت وفاته قبل أن يفرغ رسول الله ص من بناء مسجده، بالذبحة والشهقة. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد إبن إسحاق. حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن؛ أن رسول الله ص قال: بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب! يقولون: لو كان محمد نبيًا لم يمت صاحبه؛ ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئًا.
وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، أن النبي ص كوى أسعد ابن زرارة من الشوكة.
قال ابن حميد، قال سلمة، عن إبن إسحاق، قال: حدثني عاصم ابن عمر بن قتادة الأنصاري أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله ص - وكان أبو أمامة نقيبهم - فقالوا: يا رسول الله؛ إن هذا الرجل قد كان منا حيث قد علمت؛ فاجعل منا رجلًا مكانه، يقيم من أمرنا ما كان يقيمه، فقال لهم رسول الله ص: أنتم أخوالي وأنا منكم؛ وأنا نقيبكم.
قال: وكره رسول الله ص أن يخص بها بعضهم دون بعض؛ فكان من فضل بني النجار الذي تعد على قومهم، أن رسول الله ص كان نقيبهم.
وفي هذه السنة مات أبو أحيحة بماله بالطائف. ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة.
وفيها بنى رسول الله ص بعائشة بعد مقدمها المدينة بثمانية أشهر؛ في ذي القعدة في قول بعضهم، وفي قول بعضٍ: بعد مقدمه المدينة بسبعة أشهر، في شوال، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقد قيل: تزوجها وهي ابنة سبع.
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن عبد الرحمن بن أبي الضحاك، عن رجل من قريش، عن عبد الرحمن بن محمد، أن عبد الله بن صفوان وآخر معه أتيا عائشة، فقالت عائشة: يا فلان؛ أسمعت حديث حفصة؟ قال لها: نعم يا أم المؤمنين، قال لها عبد الله بن صفوان: وما ذاك؟ قالت: خلالٌ في تسع لم تكن في أحدٍ من النساء إلا ما آتى الله مريم بنت عمران؛ والله ما أقول هذا فخرًا على أحد من صواحبي، قال لها: وما هن؟ قالت: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله ص لسبع سنين، وأهديت إليه لتسع سنين، وتزوجني بكرًا لم يشركه في أحدٌ من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه، ونزل فيَّ آيةٌ من القرآن كادت الأمة أن تهلك، ورأيت جبريل ولم يراه أحد من نسائه غيري، وقبض في بيتي لم يله أحدٌ غير الملك وأنا.
قال أبو جعفر: وتزوجها رسول الله ص - في ما قيل - في شوال، وبنى بها حين بنى بها في شوال.
ذكر الرواية بذلك
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله ص في شوال، وبنى بي في شوال. وكانت عائشة تستحب أن يبنى بالنساء في شوال.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله ص في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني! وكانت عائشة تستحب أن يدخل بالنساء في شوال.
قال أبو جعفر: وقيل: إن رسوال الله ص بنى بها في شوال يوم الأربعاء في منزل أبي بكر بالسنح.
وفي هذه السنة بعث النبي ص إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن حارثة وأبا رافع، فحملاهن من مكة إلى المدينة.
ولما رجع - فيما ذكر - عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكان أبيه أبي بكر، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه، وصحبهم طلحة بن عبيد الله، معهم أم رومان، وهي أم عائشة؛ وعبد الله بن أبي بكر حتى قدموا المدينة.
وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين؛ وذلك بعد مقدم رسول الله ص المدينة بشهر، في ربيع الآخر، لمضي اثنتي عشرة ليلة منه، زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.
وفيها - في قول بعضهم - ولد عبد الله بن الزبير. وفي قول الواقدي: ولد في السنة الثانية من مقدم رسول الله ص المدينة في شوال.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهرًا بالمدينة.
قال أبو جعفر: وكان أول مولودٍ ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبر - فيما ذكر - أصحاب رسول الله حين ولد؛ وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم فلا يولد لهم؛ فكان تكبيرهم ذلك سرورًا منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك.
وقيل: إن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت إلى المدينة وهي حاملٌ به.
وقيل أيضًا: إن النعمان بن بشير ولد في هذه السنة؛ وإنه أول مولد ولد للأنصار بعد هجرة النبي ص إليهم؛ وأنكر ذلك الواقدي أيضًا.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده، قال: كان أول مولود من الأنصار النعمان بن بشير؛ ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهرًا، فتوفي رسول الله ص وهو ابن ثماني سنين، أو أكثر قليلًا.
قال: وولد النعمان قبل بدر بثلاثة أشهر أو أربعة.