حدثني هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقداد، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي عليه السلام، قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها، فاجتويناها، وأصابنا بها وعكٌ، وكان رسول الله ص يتخبر عن بدر؛ فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله ص إلى بدر - وبدر بئر - فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجلٌ من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط؛ فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير، شديدٌ بأسهم؛ فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى رسول الله ص فقال له: كم القوم؟ فقال: هم والله كثير، شديد بأسهم، فجهد النبي أن يخبره كم هم، فأبى. ثم أن رسول الله ص سأله: كم ينحرون من الجزر؟ فقال: عشرًا كل يوم، قال رسول الله ص: القوم ألف.
ثم إنه أصابنا من الليل طشٌ من المطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ص يدعو ربه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله! فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله ص، وحرض على القتال، ثم قال: إن جمع قريش عند هذه الضلعة من الجبل. فلما أن دنا القوم منا وصاففناهم، إذ رجلٌ من القوم على جمل أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله ص: يا علي، ناد لي حمزة - وكان أقربهم إلى المشركين -: من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول لهم؟ وقال رسول الله ص: إن يكن في القوم من يأمر بالخير، فعسى ان يكون صاحب الجمل الأحمر، فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: إني أرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير؛ يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، ولقد علمتم أني لست بأجبنكم.
قال: فسمع أبو جهل فقال: أنت تقول هذا! والله لو غيرك يقول هذا لعضضته! لقد ملئت رئتك وجوفك رعبًا، فقال عتبة: إياي تعير يا مصفر استه! ستعلم اليوم أينا أجبن! قال: فبرز عتبة بن ربيعة وأخوه شبية بن ربيعة، وابنه الوليد، حميةً، فقالوا: من يبارز؟ فخرج فتية من الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء؛ ولكن يبارزنا من بنى عمنا من بنى عبد المطلب. فقال رسول الله ص: يا علي قم، يا حمزة قم، يا عبيدة بن الحارث قم، فقتل الله عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة بن الحارث؛ فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا منهم سبعين.
قال: فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال: يا رسول الله؛ والله ما هذا أسرني، ولكن أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته، فقال رسول الله ص: لقد آزرك الله بملكٍ كريم. قال علي: فأسر من بني عبد المطلب العباس وعقيل ونوفل بن الحارث.
حدثني جعفر بن محمد البزوري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي، قال: لما أن كان يوم بدر، وحضر البأس اتقينا برسول اله، فكان من أشد الناس بأسًا وما كان منا أحدٌ أقرب إلى العدو منه.
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي، قال: سمعته يقول: ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير مقداد بن الأسود؛ ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسول الله ص قائمًا إلى شجرة يصلي، ويدعو حتى الصبح.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: إن رسول الله ص سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلًا من الشام في عيرٍ لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم؛ وفيها ثلاثون راكبًا من قريش - أو أربعون - منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان؛ عن عروة وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث؛ فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلًا من الشأم، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربًا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان تخوفًا على أموال الناس؛ حتى أصاب خبرًا، من بعض الركبان؛ أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك. فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس ويزيد ابن رومان، عن عروة، قال: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم علي ما أحدثك به قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعيرٍ له حتى وقف بالأبطح. ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا با آل غدر لمصارعكم في ثلاث! فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينا هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته بمثلها: أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث! ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة، ولا دارٌ من دورها إلا دخلت منها فلقة.
قال العباس: والله إن هذه الرؤيا رأيت فاكتميها ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة - وكان له صديقًا - فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث؛ حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغ*** أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعودٌ يتحدثون برؤيا عاتكة؛ فلما رآني أبو جهل، قال: يا أبا الفضل؛ إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا. قال: فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية! قال: قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم، حتى تنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث! فسنتربص بكم هذه الثلاث؛ فإن يكن ما قالت حقًا فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيتٍ في العرب.
قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئًا. قال: ثم تفرقنا؛ فلما أمسيت لم تبق امرأةٌ من بني المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع؛ ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت! قال: قلت: قد والله فعلت؛ ما كان مني إليه من كبيرٍ، وايم الله لأتعرضن له؛ فإن عاد لأكفينكموه.
قال: فغ*** في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمرٌ أحب أن أدركه منه.
قال: فدخلت المسجد فرأيته؛ فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به - وكان رجلًا خفيفًا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر - إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: قلت: في نفسي: ما له لعنه الله! أكل هذا فرقًا من أن أشائمه! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث!
قال: فشغلني عنه شغله عني ما جاء من الأمر. فتجهز الناس سراعًا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي! كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلًا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أِشرافها أحدٌ؛ إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزى عنه بعثه، فخرج عنه وتخلف أبو لهب.