مقتل أبي رافع اليهودي
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان مقتل أبي رافع اليهودي - فيما قيل - وكان سبب قتله، أنه كان - فيما ذكر عنه - يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله ص، فوجه إليه - فيما ذكر - رسول الله ص في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة عبد الله بن عتيك، فحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثني إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: بعث رسول الله ص إلى أبي رافع اليهودي - وكان بأرض الحجاز - رجالًا من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك - وكان أبو رافع يؤذي رسول الله ص ويبغي عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال لهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك: اجلسوا مكانكم، فإني أنطلق وأتلطف للبواب، لعلي أدخل! قال: فأقبل حتى إذا دنا من الباب، تقنع بثوبه؛ كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب. يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب.
قال: فدخلت فكمنت تحت آري حمار؛ فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأقاليد على ود. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده في علالى؛ فلما ذهب عنه أهل سمره، فصعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقته علي من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله؛ لا أدري أين هو من البيت! قلت: أبا رافع! قال: من هذا؟ قال: فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش فما أغنى شيئًا وصاح؛ فخرجت من البيت ومكثت غير بعيد. ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل! إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه فأثخنه ولم أقتله. قال: ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه، حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أنى قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا فبابًا، حتى انتهيت إلى درجة؛ فوضعت رجلي، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض؛ فوقعت في ليلة مقمرة؛ فانكسرت ساقي، قال: فعصبتها بعمامتي، ثم إني انطلقت حتى جلست عند الباب، فقلت: والله لا أبرح الليلة حتى أعلم: أقتلته أم لا؟ قال: فلما صاح الديك، قام الناعي عليه على السور، فقال: أنعي أبا رافع رباح أهل الحجاز! قال: فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء! قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي ص، فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطتها فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي؛ فإنه زعم أن هذه السرية التي وجهها رسول الله ص إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق إنما وجهها إليه في ذي الحجة من سنة أربع من الهجرة، وأن الذين توجهوا إليه فقتلوه، كانوا أبا قتادة، وعبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، والأسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس.
وأما ابن إسحاق، فإنه قص من قصة هذه السرية ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، كان سلام بن أي الحقيق - وهو أبو رافع - ممن كان حزب الأحزاب على رسول الله ص، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله ص وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج رسول الله ص في قتل سلام بن أبي الحقيق؛ وهو بخيبر، فأذن لهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج؛ كانا يتصاولان مع رسول الله ص تصاول الفحلين؛ لاتصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله ص غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله ص في الإسلام؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. قال: وإذا فعلت الخزرج شيئًا، قالت الأوس مثل ذلك.
فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله ص، قالت الخزرج: لا يذهبون فيها فضلًا علينا أبدًا. قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله ص في العداوة كابن الأشرف! فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر؛ فاستأذنوا رسول الله ص في قتله، فأذن لهم؛ فخرج إليه من الخزرج ثم من بنى سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود؛ حليف لهم من أسلم؛ فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله ص عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدًا أو امرأة.
فخرجوا حتى قدموا خيبر؛ فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلًا؛ فلم يدعوا بيتًا في الدار إلا أغلقوه من خلفهم على أهله، وكان في علية له إليها عجلة رومية، فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: نفرٌ من العرب نلتمس الميرة، قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليها وعلينا وعليه باب الحجرة، وتخوفنا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه. قال: فصاحت امرأته، ونوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا؛ والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه؛ كأنه قبطية ملقاة. قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله ص؛ فيكف يده؛ ولولا ذاك فرغنا منها بليلٍ، فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني! قال: ثم خرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر؛ فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثئًا شديدًا واحتملناه حتى نأتي به منهرًا من عيونهم، فندخل فيه. قال: وأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا؛ حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه؛ وهو يقضي بينهم. قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات! فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال فوجدته ورجال يهود عنده، وامرأته في يدها المصباح تنظر في وجهه. ثم قالت تحدثهم وتقول: أما والله لقد عرفت صوت ابن عتيك؛ ثم أكذبت، فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم أقبلت عليه لتنظر في وجهه. ثم قالت: فاظ وإله اليهود! قال: يقول صباحنا؛ فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا، فقدمنا على رسول الله ص، وأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله؛ وكلنا يدعيه، فقال رسول الله ص: هاتوا أسيافكم، فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. فقال حسان بن ثابت؛ وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام ابن أبي الحقيق:
لله در عصابةٍ لاقيتهم ** يا بن الحقيق وأنت يابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ** مرحًا كأسدٍ في عرينٍ مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم ** فسقوكم حتفًا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم ** مستضعفين لكل أمرٍ مجحف
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 28 (0 من الأعضاء و 28 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)