قالت: فلما جاوزني قمت فاقتحمت حديقة فيها نفر من المسلمين، فيهم عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه تسبغة له - قال محمد: والتسبغة المغفر - لا ترى إلا عيناه، فقال عمر: إنك لجريئة؛ ما جاء بك؟ ما يدريك لعله يكون تحوز أو بلاء! فوالله مازال يلومني حتى وددت أن الأرض تنشق لي فأدخل فيها، فكشف الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة؛ فقال: إنك قد أكثرت، أين الفرار، وأني التحوز إلا إلى الله عز وجل! قالت: فرمى سعد يومئذ بسهم، رماه رجلٌ يقال له ابن العرقة؛ فقال: خذها وأنا ابن العرقة؛ فقال: سعد: عرف الله وجهك في النار! فأصاب الأكحل فقطعه. قال محمد بن عمرو: زعموا أنه لم ينقطع من أحد قط إلا لم يزل يبض دمًا حتى يموت. فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة! وكانوا حلفاءه في الجاهلية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب سعد يومئذ بالسهم إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، فالله أعلم أي ذلك كان! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع " حصن حسان بن ثابت ". قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان. قالت: صفية: فمر بنا رجلٌ من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ص، ليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنا، ورسول الله ص والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إن أتانا آت.
قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى، يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عوارتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله ص وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر اله لك يا بنا عبد المطلب! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا! قالت: فلما قال لي ذلك، ولم أر عنده شيئًا احتجزت؛ ثم أخذ عمودًا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجلٌ؛ قال: مالي من حاجة يا بنت عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله ص وأصحابه؛ فيما وصف الله عز وجل من الخوف والشدة؛ لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال ابن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله ص، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، إن قومي لم يعلموا بإسلامي؛ فمرني بما شئت. فقال له رسول الله ص: إنما أنت فينا رجلٌ واحد؛ فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديمًا في الجاهلية - فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد. وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشًا وغطفان ليسوا كهيئتكم، والبلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم؛ لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره؛ فليسوا كهيئتكم، إن رأوا نهزةً وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم؛ ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم؛ ثقة لكم على أن تقاتلوا معكم محمدًا، حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصحٍ.
ثم خرج حتى أتى قريشًا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش، قد عرفتم ودي إياكم، وفراقي محمدًا وقد بلغني أمرٌ رأيت حقًا على أن أبلغكموه نصحًا لكم، فاكتموا على. قالوا: نفعل، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد ندموا على صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبليتين من قريش وغطفان رجالًا من أشرافهم؛ فنعطيكم، فنضرب أعناقهم؛ ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم؛ فلا تدافعوا إليهم منكم رجلًا واحدًا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان؛ أنتم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني! قالوا: صدقت، قال: فاكتموا علي، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم؛ فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس؛ وكان مما صنع الله عز وجل لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام؛ قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدًا ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت؛ وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا؛ وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثًا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا؛ حتى نناجز محمدًا؛ فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال، أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمدٍ. فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلًا واحدًا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق؛ ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا؛ فإن وجدوا فرصة انتهزوها؛ وإن كان غير ذلك تشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم؛ وبعث الله عز وجل عليهم الريح في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى رسول الله ص ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله وصحبتموه! قال: نعم يا بن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، فقال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
فقال حذيفة: يابن أخي؛ والله لقد رأيتنا مع رسول الله ص بالخندق، وصلى هويًا من الليل، ثم التفت إلينا، فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله أنه يرجع - أدخله الله الجنة؟ فما قام رجل. ثم صلى رسول الله ص هويًا من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله ص هويًا من الليل، ثم التفت إلينا، فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجلٌ من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد. فلما لم يقم أحدٌ دعاني رسول الله ص فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. فقال: يا حذيفة؛ اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا؛ قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل؛ لا تقر لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناء. فقام أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤٌ جليسه، قال: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قل: أنا فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره؛ ولقينا من هذه الريح ما ترون؛ والله ما تطمئن لنا قدرٌ، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناءٌ؛ فارتحلوا فإني مرتحل.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 32 (0 من الأعضاء و 32 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)