ثم رجع إلى حديث يزيد بن أبي حبيب. قال: ثم كتب كسرى إلى باذان؛ وهو على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به؛ فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه - وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس - وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خر خسره، وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل، وكلمه وأتني بخبره، فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالا من قريش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا؛ وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل!
فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى اللعه عليه وسلم، فكلمه بابويه، فقال: إن شاهانشاه ملك الملوك كسرى؛ قد كتب إلى الملك باذان، يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك؛ وقد بعثني إليك لتنطلق معي؛ فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ينفعك ويكفه عنك؛ وإن أبيت فهو من قد علمت! فهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك؛ ودخلا على رسول الله وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما؛ فكره النظر إليهما، ثم أقبل عليهما فقال: ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله: لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي. ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتياني غدًا، وأتى رسول الله الخبر من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه؛ فقتله في شهر كذا وكذا ليلة كذا وكذا من الليل؛ بعد ما مضى من الليل؛ سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
قال الواقدي: قتل شيرويه أباه كسرى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى من سنة سبع لست ساعات مضت منها - رجع الحديث إلى حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب. فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا؛ أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك! قال: نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر؛ وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك؛ وملكتك على قومك من الأبناء؛ ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيًا كما يقول؛ ولننظرن ما قد قال؛ فلئن كان هذا حقا ما فيه كلامٌ؛ إنه لنبي مرسلٌ؛ وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه؛ أما بعد فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبًا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم؛ فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك؛ وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسولٌ. فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن؛ فكانت حمير تقول لخرخسره: ذو المعجزة، للمنطقة التي أعطاها إياها رسول الله - والمنطقة بلسان حمير المعجزة - فبنوه اليوم ينسبون إليها خرخسره ذو المعجزة.
وقد قال بابويه لباذان: ما كلمت رجلًا قط أهيب عندي منه، فقال له باذان: هل معه شرطٌ؟ قال: لا.
قال الواقدي: وفيها كتب إلى المقوقس عظيم القبط، يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم.
قال أبو جعفر: ولما رجع رسول الله من غزوة الحديبية إلى المدينة أقام بها ذا الحجة وبعض المحرم - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
قال: وولي الحج في تلك السنة المشركون.