قال: فخلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد ص: ما علمنا أن هاتين الآيتين نزلتا حتى قرأهما أبو بكر يومئذ؛ إذ جاء رجل يسعى فقال: هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظلة بني ساعدة، يبايعون رجلًا منهم، يقولون: منا أمير ومن قريش أمير، قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم؛ فأراد عمر أن يتكلم، فنهاه أبو بكر، فقال: لا أعصى خليفة النبي في يوم مرتين.
قال: فتكلم أبو بكر، فلم يترك شيئًا نزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله ص من شأنهم إلا وذكره. وقال: لقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادي الأنصار، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم. قال: فقال سعد: صدقت، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء. قال: فقال عمر: ابسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك؛ فقال أبو بكر: بل أنت يا عمر، فأنت أقوى لها منى. قال: وكان عمر أشد الرجلين، قال: وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها، ففتح عمر يد أبي بكر وقال: إن لك قوتى مع قوتك. قال: فبايع الناس واستثبتوا للبيعة، وتخلف على والزبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتى يبايع على، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير، فاضربوا به الحجر. قال: فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما تعبًا، وقال: لتبايعان وأنتما طائعان، أو لتبايعان وأنتما كارهان؟! فبايعا.
حديث السقيفة

حدثني علي بن مسلم، قال: حدثنا عباد بن عباد، قال: حدثنا عباد بن راشد، قال: حدثنا عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف القرآن، قال: فحج عمر وحججنا معه، قال: فإني لفي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن ابن عوف، فقال: شهدت أمير المؤمنين اليوم، وقام إليه رجل فقال: إني سمعت فلانًا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانًا. قال: فقال أمير المؤمنين: إنى لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم. قال: قلت: يا أمير المؤمنين؛ إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم؛ وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، وإنى لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها، ولا يضعوها على مواضعها، وأن يطيروا بها كل مطير؛ ولكن أمهل حتى تقدم المدينة، نقدم دار الهجرة والسنة، وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فتقول ما قلت متمكنًا فيعوا مقالنك، ويضعوها على مواضعها. فقال: والله لأقومن بها في أول مقام أقومه بالمدينة.
قال: فلما قدمنا المدينة، وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن؛ فوجدت سعيد بن زيد قد سبقنى بالتهجير، فجلست إلى جنبه عند المنبر، ركبتى إلى ركبته؛ فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج، فقلت لسعيد وهو مقبل: ليقولن أمير المؤمنين اليوم على هذا المنبر مقالة لم تقل قبله. فغضب وقال: فأى مقالة يقول لم تقل قبله! فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذنون، فلما قضى المؤذن أذانه قام عمر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإنى أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها، فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن لم يعها فإنى لا أحل لأحد أن يكذب علي. إن الله عز وجل بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب؛ وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله ورجمنا بعده، وإنى قد خشيت أن يطول بالناس زمان، فيقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وقد كنا نقول: لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ثم إنه بلغني أن قائلًا منكم يقول: لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانًا! فلا يغرن امرأً أن يقول: إن بيعة أبى بكر كانت فلتة؛ فقد كانت كذلك؛ غير أن الله وقى شرها؛ وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبى بكر! وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه أن عليًا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، ونخلفت عنا الأبصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم؛ فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرًا، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم. فقلنا: والله لنأتينهم، قال: فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة. قال: وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم، فحمد الله، وقال: أما بعد، فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا؛ وقد دفت إلينا من قومكم دافة قال: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد، وكان هو أوقر منى وأحلم؛ فلما أردت أن أتكلم، قال: على رسلك! فكرهت أن أعصيه؛ فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئًا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت؛ إلا قد جاء به أو بأحسن منه. وقال: أما بعد يا معشر الأنصار؛ فإنكم لا تذكرون منكم فضلًا إلا وأنتم له أهل؛ وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش؛ وهم أوسط العرب دارًا ونسبًا، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدى وبيد أبي عبيدة بن الجراح. وإني والله ما كرهت من كلامه شيئًا غير هذا الكلمة؛ إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب؛ منا أمير ومنكم أمير؛ يا معشر قريش.
قال: فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، فلما أشفقت الختلاف، قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار. ثم نزونا على سعد، حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة! فقلت: قتل الله سعدًا! وإنا والله ما وجدنا أمرًا هو أقوى من مبايعة أبي بكر؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما نرضى، أو نخالفهم فيكون فساد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: إن أحد الرجلين اللذين لقوا من؟ الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة، عويم بن ساعدة والآخر معن بن عدى؛ أخو بنى العجلان، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنهقيل لرسول الله ص: من الذين قال الله لهم: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين "؟ فقال رسول الله ص: نعم المرء منهم عويم بن ساعدة! وأما معن فبلغنا أن الناس بكوا على رسول الله ص حين توفاه الله، وقالوا: والله لوددنا أنا متنا قبله؛ إنا نخشى أن نفتتن بعده. فقال معن بن عدي: والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتًا كما صدقته حيًا. فقتل معن يوم اليمامة شهيدًا في خلافة أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب.