فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، ونوليك هذا الأمر، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا. ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون؛ ونحن عشيرته وأولياؤه؛ فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذًا: منا أمير ومنكم أمير؛ ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدًا. فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن!.
وأتى عمر الخبر، فأقبل إلى منزل النبي ص، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار وعلي بن أبي طالب عليه السلام دائب في جهاز رسول الله ص؛ فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلى، فأرسل إليه: إني مشتغل؛ فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره؛ فخرج إليه، فقال: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة؛ وأحسنهم مفالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير! فمضيا مسرعين نحوهم؛ فلقيا أبا عبيدة بن الجراح؛ فتماشوا إليهم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فقالوا: لا نفعل، فجاءوا وهم مجتمعون. فقال عمر بن الخطاب: أتيناهم - وقد كنت زورت كلامًا أردت أن أقوم به فيهم - فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو بكر: رويدًا حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت. فنطق، فقال عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه.
فقال عبد الله بن عبد الرحمن: فبدأ أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه؛ ثم قال: إن الله بعث محمدًا رسولًا إلى خلقه، وشهيدًا على أمته، ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى؛ ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة؛ وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثم قرأ: " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله "، وقالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى "؛ فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة له، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم؛ وتكذيبهم إياهم؛ وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم؛ وإجماع قومهم عليهم؛ فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول؛ وهم أولياء وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده؛ ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولاسابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه؛ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا نقضى دونكم الأمور.
قال: فقام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم؛ فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم؛ ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون؛ ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم؛ وينتقض عليكم أمركم؛ فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم؛ فمنا أمير ومنهم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين؛ من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف إثم، ومتورط في هلكة! فقام الحباب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر؛ فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم؛ فإنه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين؛ أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب! أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة؛ فقال عمر: إذًا يقتلك الله! قال: بل إياك يقتل! فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار؛ إنكم أول من نصر وآزر؛ فلا تكونوا أول من بدل وغير.
فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار؛ إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين؛ ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا؛ والكدح لأنفسنا؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا؛ فإن الله ولى المنة علينا بذلك؛ ألا إن محمدًا من قريش، وقومه أحق به وأولى. وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم! فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا. فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك؛ فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة؛ والصلاة أفضل دين المسلمين؛ فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك! ابسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب ابن المنذر: يا بشير بن سعد: عقتك عقاق؛ ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فقال: لا والله؛ ولكني كرهت أن أنازع قومًا حقًا جعله الله لهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد ابن حضير - وكان أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة؛ ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبًا أبدًا، فقوموا فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثنى أبو بكر بن محمد الخزاعي، أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك، فبايعوا أبا بكر؛ فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر.
قال هشام، عن أبي مخنف: قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدًا لا تطئوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله! ثم قام على رأسه، فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تنذر عضدك، فأخذ سعد بليحة عمر، فقال: والله لو حصصت منه شعره ما رجعت وفي فيك واضحة؛ فقال أبو بكر: مهلًا يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ. فأعرض عنه عمر. وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض، لسمعت منى في أقطارها وسككها زئيرًا يجحرك وأصحابك؛ أما والله إذًا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعًا غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه في داره، وترك أيامًا ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك؛ فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي؛ فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم، حتى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي.