كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للأمراء

ففصلت الأمراء من ذي القصة، ونزلوا على قصدهم، فلحق بكل أمير جنده، وقد عهد إليهم عهده، وكتب إلى من بعث إليه من جميع المرتدة.
حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ وشاركه في العهد والكتاب قحذم؛ فكانت الكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتابًا واحدًا:
بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة؛ أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفر من أبي ونجاهده. أما بعد؛ فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين. فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله بإذنه من أدبر عنه؛ حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا. ثم توفي الله رسوله وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته؛ وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل؛ فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون "، وقال: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون "، وقال للمؤمنين: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين "؛ فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد؛ حي قيوم لا يموت؛ ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، يجزيه. وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاءكم به نبيكم ، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلي، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالًا؛ قال الله تعالى: " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا "، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به؛ ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به؛ اغترارًا بالله، وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: " وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلًا ". وقال: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير "؛ وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله؛ فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه وأعانه عليه؛ ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك؛ ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبى النساء والذرارى، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام؛ فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله. وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم؛ والداعية الأذان؛ فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم؛ وإن لم يؤذنوا عاجلوهم؛ وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم؛ فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم؛ وحملهم على ما ينبغي لهم.
فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود، وخرجت الأمراء ومعهم العهود:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقى الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام؛ فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له؛ ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذي لهم؛ لا ينظرهم، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم؛ فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف؛ وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله؛ فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل؛ وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان؛ وحيث بلغ مراغمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام؛ فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله؛ فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه، إلا الخمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونًا، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول.
ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة

حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد وبدر بن الخليل وهشام بن عروة، قالوا: لما أرزت عبس وذبيان ولفها إلى البزاخة، أرسل طليحة إلى جديلة والغوث أن ينضموا إليه، فتعجل إليه أناس من الحيين، وأمروا قومهم باللحاق بهم، فقدموا على طليحة، وبعث أبو بكر عديًا قبل توجيه خالد من ذي القصة إلى قومه، وقال: أدركهم لا يؤكلوا. فخرج إليهم فقتلهم في الذروة والغارب، وخرج خالد في أثره، وأمره أبو بكر أن يبدأ بطيئ على الأكناف، ثم يكون وجهه إلى البزاخة، ثم يثلث بالبطاح، ولا يريم إذا فرغ من قوم حتى يحدث إليه، ويأمره بذلك. وأظهر أبو بكر أنه خارج إلى خيبر ومنصب عليه منها حتى يلاقيه بالأكناف، أكناف سلمى؛ فخرج خالد فازوار عن البزاخة، وجنح إلى أجأ، وأظهر أنه خارج إلى خيبر، ثم منصب عليهم، فقعد ذلك طيئًا وبطأهم عن طليحة؛ وقدم عليهم عدي؛ فدعاهم فقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبدًا، فقال: لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم، ولتكننه بالفحل الأكبر؛ فشأنكم به. فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم. فاستقبل عدي خالدًا وهو بالسنح، فقال: يا خالد، أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك؛ وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار؛ وتشاغل بهم؛ ففعل. فعاد عدي إليهم وقد أرسلوا إخوانهم؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد لهم؛ ولولا ذلك لم يتركوا؛ فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد، وارتحل خالد نحو الأنسر يريد جديلة، فقال له عدي: إن طيئًا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيئ؛ فأجلني أيامًا لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث؛ ففعل، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه؛ فجاءه بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب؛ فكان خير مولود ولد في أرض طيئ وأعظمه عليهم بركة.