قالت: بل به أجمع، قال بذلك أوحى إلى. فأقامت عنده ثلاثًا ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق! فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: مالك؟ قالت: أصدقني صداقًا، قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي، قال: على به، فجاء فقال: ناد في أصحابك أن مسلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر.
قال: وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم.
وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما - فانصرفت ومعها أصحابها، فيهم الزبرقان، وعطارد بن حاجب، وعمرو بن الأهتم، وغيلان بن خرشة، وشبث ابن ربعي، فقال عطارد بن حاجب:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ** وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقال حكيم بن عياش الأعور الكلبي، وهو يعير مضر بسجاح، ويذكر ربيعة:
أتوكم بدين قائم وأتيتم ** بمنتسخ الآيات في مصحف طب
رجع الحديث إلى حديث سيف. فصالحها على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها؛ فباح لها بذلك؛ وقال: خلفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام؛ فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة، وخلفت الهذيل وعقة وزيادًا لينجز النصف الباقي؛ فلم يفجأهم إلا دنو خالد بن الوليد منهم؛ فارفضوا. فلم تزل سجاح في بني تغلب؛ حتى نقلهم معاوية عام الجماعة في زمانه؛ وكان معاوية حين أجمع عليه أهل العراق بعد علي عليه السلام يخرج من الكوفة المستغرب في أمر علي، وينزل داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشأم وأهل البصرة وأهل الجزيرة؛ وهم الذين يقال لهم النواقل في الأمصار؛ فأخرج من الكوفة قعقلع بن عمرو بن مالك إلى إيليا بفلسطين، فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه بني عقفان، وينقلهم إلى بني تميم، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة، وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه؛ وجاءت معهم وحسن إسلامها؛ وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر، وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد، ففعل وكتب الكتاب. وكان الذي يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله وأشهدوا شهودًا منهم عمر. فلما أنى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد، ثم قال: لا والله ولا كرامة! ثم مزق الكتاب ومحاه، فغضب طلحة، فأتى أبا بكر، فقال: أأنت الأمير أم عمر؟ فقال: عمر؛ غير أن الطاعة لي. فسكت.
وشهدا مع خالد المشاهد كلها حتى اليمامة، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة.
ذكر البطاح وخبره

كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية بن بلال، قال: لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة، ارعوى مالك بن نويرة، وندم وتحير في أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا، فرجعا رجوعًا حسنًا، ولم يتجبرا، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالدًا؛ فقال خالد: ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ فقالا: ثأر كنا نطلبه في بني ضبة؛ وكانت أيام تشاغل وفرص، وقال وكيع في ذلك:
فلا تحسبا أني رجعت وأنني ** منعت وقد تحنى إلى الأصابع
ولكنني حاميت عن جل مالك ** ولاحظت حتى أكحلتني الأخادع
فلما أتانا خالد بلوائه ** تخطت إليه بالبطح الودائع
ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كان من مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح؛ فهو على حاله متحير شج.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم وعمرو بن شعيب، قالا: لما أراد خالد السير خرج من ظفر، وقد استبرأ أسدًا وغطفان وطيئًا وهوازن؛ فسار يريد البطاح دون الحزن؛ وعليها مالك بن نويرة، وقد تردد عليه أمره، وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه، وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا! إن الخليفة عهد إلينا. فقال خالد: إن يك عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضي، وأنا الأمير وإلى تنتهي الأخبار. ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر؛ ثم رأيت فرصةً؛ فكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها؛ كذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا، ثم نعمل به. وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد إليه ومن معي من المهاجرين والتابعين بإحسان؛ ولست أكرهكم. ومضى خالد، وندمت الأنصار، وتذامروا، وقالوا: إن أصاب القوم خيرًا إنه لخير حرمتموه، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس. فأجمعوا اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولا؛ فأقام عليهم حتى لحقوا به؛ ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد به أحدًا.
قال أبو جعفر: فيما كتب به إلى السري بن يحيى، يذكر عن شعيب ابن إبراهيم أنه حدثه عن سيف بن عمر، عن خزيمة بن شجرة العقفاني، عن عثمان بن سويد، عن سويد بن المثعبة الرياحي؛ قال: قدم خالد ابن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحدًا، ووجد مالكًا قد فرقهم في أموالهم، ونهاهم عن الاجتماع حين تردد عليه أمره، وقال: يا بني يربوع؛ إنا قد كنا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين، وبطأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح، وإني قد نظرت في هذا الأمر، فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس؛ فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم؛ فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا في هذا الأمر. فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم، وخرج مالك حتى رجع إلى منزله. ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه؛ وكان مما أوصى به أبو بكر: إذا نزلتم منزلا فأذنوا وأقيموا؛ فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم؛ وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة؛ ثم اقتلوهم كل قتلة؛ الحرق فما سواه؛ وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم؛ فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم؛ وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من نبي ثعلبة بن يربوع، من عاصم وعبيد وعرين وجعفر، فاختلفت السرية فيهم، وفيهم أبو قتادة؛ فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا. فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء؛ وجعلت تزداد بردًا، فأمر خالد مناديًا فنادى: ((أدفئوا أسراكم))، وكانت في لغة كنانة إذا قالوا: دثروا الرجل فأدفئوه، دفئه قتله وفي لغة غيرهم: أدفه فاقتله، فظن القوم - وهي في لغتهم القتل - أنه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكًا، وسمع خالد الواعية؛ فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرًا أصابه.