ادخلوا الحديقة؛ فإنى سأمنع أدباركم، فقاتل دونهم ساعة ثم قتله الله؛ قتله عبد الرحمن بن أبي بكر؛ ودخل الكفار الحديقة، وقتل وحشي مسيلمة، وضربه رجل من الأنصار فشاركه فيه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، بنحو حديث سيف هذا؛ غير أنه قال: دعا خالد بمجاغة ومن أخذ معه حين أصبح، فقال: يا بنى حنيفة، ما تقولون؟ قالوا: نقول: منا نبي ومنكم نبي؛ فعرضهم على السيف؛ حتى إذا بقى منهم رجل يقال له سارية بن عامر ومجاعة بن مرارة، قال له سارية: أيها الرجل؛ إن كنت تريد بهذه القرية غدًا خيرًا أو شرًا، فاستبق هذا الرجل - يعنى مجاعة - فأمر به خالد فأوثقه في الحديد؛ ثم دفعه إلى أم تميم امرأته، فقال: استوصى به خيرًا، ثم مضى حتى نزل اليمامة على كثيب مشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، وخرج أهل اليمامة مع مسيلمة وقد قدم في مقدمته الرحال - قال أبو جعفر، هكذا قال ابن حميد بالحاء - بن عنفوة بن نهشل، وكان الرحال رجلًا من بني حنيفة قد كان أسلم، وقرأ سورة البقرة، فلما قدم اليمامة شهد لمسيلمة أن رسول الله قد كان أشركه في الأمر؛ فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من مسيلمة؛ وكان المسلمون يسألون عن الرحال يرجون أنه يثلم على أهل اليمامة أمرهم بإسلامه، فلقيهم في أوائل الناس متكتبًا، وقد قال خالد بن الوليد وهو جالس على سريره، وعنده أشراف الناس والناس على مصافهم؛ وقد رأى بارقة في بنى حنيفة: أبشروا يا معشر المسلمين؛ فقد كفاكم الله أمر عدوكم. واختلف القوم إن شاء الله؛ فنظر مجاعة وهو خلفه موثقًا في الحديد، فقال: كلا والله، ولكنها الهندوانية خشوا عليها من تحطمها، فأبرزوها للشمس لتلين لهم؛ فكان كما قال. فلما التقى المسلمون كان أول من لقيهم الرحال بن عنفوة، فقتله الله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شيخ من بنى حنيفة، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال يومًا - وأبو هريرة ورحال بن عنفوة في مجلس عنده: ((لضرس أحدكم أيها المجلس في النار يوم القيامة أعظم من أحد)). قال أبو هريرة: فمضى القوم لسبيلهم، وبقيت أنا ورحال بن عنفوة، فما زلت لها متخوفًا؛ حتى سمعت بمخرج رحال، فأمنت وعرفت أن ما قال رسول الله حق.
ثم التقى الناس ولم يلقهم حرب قط مثلها من حرب العرب؛ فاقتتل الناس قتالا شديدًا؛ حتى انهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد، فزال خالد عن فسطاطه ودخل أناس الفسطاط وفيه مجاعة عند أم تميم، فحمل عليها رجل بالسيف، فقال مجاعة: مه، أنا لها جار، فنعمت الحرة! عليكم بالرجال، فرعبلوا الفسطاط بالسيوف. ثم إن المسلمين تداعوا، فقال ثابت بن قيس: بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! اللهم إنى أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعنى المسلمين - ثم جالد بسيفه حتى قتل. وقال زيد بن الخطاب حين انكشف الناس عن رحالهم: لا تحوز بعد الرحال، ثم قاتل حتى قتل. ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان إذا حضر الحرب أخذته العرواء حتى يقعد عليه الرجال؛ ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله؛ فإذا بال يثور كما يثور الأسد - فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال، فلما بال وثب، فقال: أين يا معشر المسلمين! أنا البراء بن مالك، هلم إلى! وفاءت فئة من الناس، فقاتلوا القوم حتى قتلهم الله، وخلصوا إلى محكم اليمامة - وهو محكم بن الطفيل - فقال حين بلغه القتال: يا معشر بنى حنيفة، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير خطيبات؛ فما عندكم من حسب فأخرجوه. فقاتل قتالا شديدًا؛ ورماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله. ثم زحف المسلمون حتى ألجئوهم إلى الحديقة؛ حديقة الموت؛ وفيها عدو الله مسيلمة الكذاب، فقال البراء: يا معشر المسلمين، ألقونى عليهم في الحديقة. فقال الناس: لا تفعل يا براء، فقال: والله لتطرحنى عليهم فيها؛ فاحتمل حتى فتحها للمسلمين، ودخل المسلمون عليهم فيها؛ فاقتتلوا حتى قتل الله مسيلمة عدو الله؛ واشترك في قتله وحشى مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار، كلاهما قد أصابه؛ أما وحشى فدفع عليه حربته، وأما الأنصارى فضربه بسيفه، فكان وحشى يقول: ربك أعلم أينا قتله!
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثنى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رجلًا يومئذ يصرخ يقول، قتله العبد الأسود! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن عبيد بن عمير، قال: كان الرجال بحيال زيد بن الخطاب؛ فلما دنا صفاهما، قال زيد: يا رجال، الله الله! فو الله لقد تركت الدين، وإن الذي أدعوك إليه لأشرف لك، وأكثر لدنياك. فأبى، فاجتلدا فقتل الرجال وأهل البصائر من بني حنيفة في أمر مسيلمة، فتذامروا وحمل كل قوم في ناحيتهم؛ فجال المسلمون حتى بلغوا عسكرهم، ثم أعروه لهم، فقطعوا أطناب البيوت، وهتكوها، وتشاغلوا بالعسكر، وعالجوا مجاعة؛ وهموا بأم تميم، فأجارها، وقال: نعم أم المثوى! وتذامر زيد وخالد وأبو حذيفة، وتكلم الناس - وكان يوم جنوب له غبار - فقال زيد: لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتى! عضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم، وامضوا قدمًا. ففعلوا، فردوهم إلى مصافهم حتى أعادوهم إلى أبعد من الغاية التي حيزوا إليها من عسكرهم، وقتل زيد رحمه الله. وتكلم ثابت فقال: يا معشر المسلمين، أنتم حزب الله وهم أحزاب الشيطان، والعزة لله ولرسوله ولأحزابه، أرونى كما أريكم، ثم جلد فيهم حتى حازهم. وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال. وحمل فحازهم حتى أنفذهم، واصيب رحمه الله، وحمل خالد بن الوليد، وقال لحماته: لا أوتين من خلفى، حتى كان بحيال مسيلمة يطلب الفرصة ويرقب مسيلمة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما أعطى سالم الراية يومئذ، قال: ما أعلمنى لأى شئ أعطيتمونيها! قلتم: صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات! قالوا: أجل. وقالوا: فانظر كيف تكون؟ فقال: بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أثبت! وكان صاحب الراية قبله عبد الله بن حفص بن غانم.
وقال عبد الله بن سعيد بن ثابت وابن إسحاق: فلما قال مجاعة لبنى حنيفة: ولكن عليكم بالرجال، إذا فئة من المسلمين قد تذامروا بينهم فتفانوا وتفانى المسلمون كلهم، وتكلم رجال من أصحاب رسول الله ، وقال زيد بن الخطاب: والله لا أتكلم أو أظفر أو أقتل، واصنعوا كما أصنع أنا؛ فحمل وحمل أصحابه. وقال ثابت بن قيس: بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! هكذا عنى حتى أريكم الجلاد. وقتل زيد بن الخطاب رحمه الله.