كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن مبشر، عن سالم، قال: قال عمر لعبد الله بن عمر حين رجع: ألا هلكت قبل زيد! هلك زيد وأنت حي! فقال: قد حرصت على ذلك أن يكون، ولكن نفسى تأخرت، فأكرمه الله بالشهادة. وقال سهل: قال: ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عنى! فقال: سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إلى فلم أعطها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن عبيد بن عمير: إن المهاجرين والأنصار جبنوا أهل البوادى وجبنهم أهل البوادى، فقال بعضهم لبعض: امتازوا كي نستحيا من الفرار اليوم، ونعرف اليوم من أين نؤتى! ففعلوا. وقال أهل القرى: نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم، فقال لهم أهل البادية: إن أهل القرى لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب! فسترون إذا امتزنا من أين يجئ الخلل! فامتازوا، فما رئى يوم كان أحد ولا أعظم نكاية مما رئى يومئذ؛ ولم يدر أى الفريقين كان أشد فيهم نكاية! إلا أن المصيبة كانت في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البادية، وأن البقية أبدًا في الشدة. ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر المحكم بسهم فقتله وهو يخطب، فنحره وقتل زيد بن الخطاب الرجال بن عنفوة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الضحاك بن يربوع، عن أبيه، عن رجل من بنى سحيم قد شهدها مع خالد، قال: لما اشتد القتال - وكانت يومئذ سجالا إنما تكون مرة على المسلمين ومرة على الكافرين - فقال خالد: أيها الناس امتازوا لنعلم بلاء كل حى، ولنعلم من أين نؤتى! فامتاز أهل القرى والبوادى، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحاضر؛ فوقف بنو كل أب على رايتهم، فقاتلوا جميعًا، فقال أهل البوادى يومئذ: الآن يستحر القتل في الأجزع الأضعف، فاستحر القتل في أهل القرى، وثبت مسيلمة، ودارت رحالهم عليه، فعرف خالد أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة؛ ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم. ثم برز خالد، حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى البراز وانتمى، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد! ونادى بشعارهم يومئذ، وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه! فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله، وهو يرتجز:
أنا ابن أشياخ وسيفى السخت ** أعظم شئ حين يأتيك النغت
ولا يبرز له شئ إلا أكله، ودارت رحا المسلمى وطحنت. ثم نادى خالد حين دنا من مسيلمة - وكان رسول الله قال: إن مع مسيلمة شيطانًا لا يعصيه، فإذا اعتراه أزبد كأن شدقيه زبيبتان لايهم بخير أبدًا إلا صرفه عنه، فإذا رأيتم منه عورة؛ فلا تقيلوه العثرة - فلما دنا خالد منه طلب تلك، ورآه ثابتًا ورحاهم تدور عليه؛ وعرف أنها لا تزول إلا بزواله، فدعا مسيلمة طلبًا لعورته، فأجابه، فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة، وقال: إن قبلنا النصف، فأى الأنصاف تعطينا؟ فكان إذا هم بجوابه أعرض بوجهه مستشيرًا، فينهاه شيطانه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرة من ذلك؛ وركبه خالد فأرهقه فأدبر، وزالوا فذمر خالد الناس، وقال: دونكم لا تقيلوهم! وركبوهم فكانت هزيمتهم؛ فقال مسيلمة حين قام، وقد تطاير الناس عنه، وقال قائلون: فأين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم، قال: ونادى المحكم: يا بنى حنيفة؛ الحديقة الحديقة! ويأتى وحشى على مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ، فخرط عليه حربته فقتله، واقتحم الناس عليهم حديقة الموت من حيطانها وأبوابها، فقتل في المعركة، وحديقة الموت عشرة آلاف مقاتل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هارون، وطلحة، عن عمرو بن شعيب وابن إسحاق أنهم لما امتازوا وصبروا، وانحازت بنو حنيفة تبعهم المسلمون يقتلونهم؛ حتى بلغوا بهم إلى حديقة الموت، فاختلفوا في قتل مسيلمة عندها، فقال قائلون: فيها قتل، فدخلوها وأغلقوها عليهم، وأحاط المسلمون بهم وصرخ البراء بن مالك، فقال: يا معشر المسلمين، احملونى على الجدار حتى تطرحونى عليه؛ ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار نظر وأرعد فنادى: أنزلونى، ثم قال: احملونى؛ ففعل ذلك مرارًا ثم قال: أف لهذا خشعا! ثم قال: احملونى، فلما وضعوه على الحائط اقتحم عليهم، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا؛ فأغلق الباب عليهم، ثم رمى بالمفتاح من وراء الجدار، فاقتتلوا قتالا شديدًا لم يروا مثله، وأبير من في الحديقة منهم؛ وقد قتل الله مسيلمة، وقالت له بنو حنيفة: أين ما كنت تعدنا! قال: قاتلوا عن أحسابكم! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن هاوون وطلحة وابن إسحاق، قالوا: لما صرخ الصارخ أن العبد الأسود قتل مسيلمة؛ خرج خالد بمجاعة يرسف في الحديد ليريه مسيلمة، وأعلام جنده، فأتى على الرجال فقال: هذا الرجال!
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ المسلمون من مسيلمة أتى خالد فأخبر، فخرج بمجاعة يرسف معه في الحديد ليدله على مسيلمة، فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل - وكان رجلا جسيمًا وسيمًا - فلما رآه خالد، قال: هذا صاحبكم. قال: لا، هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكم اليمامة. قال: ثم مضى خالد يكشف له القتلى حتى دخل الحديقة، فقلب له القتلى؛ فإذا رويجل أصيفر أخينس. فقال مجاعة: هذا صاحبكم، قد فرغتم منه، فقال خالد لمجاعة: هذا صاحبكم الذي فعل بكم ما فعل، قال: قد كان ذلك يا خالد، وإنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس؛ وإن جماهير الناس لفى الحصون. فقال: ويلك ما تقول! قال: هو والله الحق؛ فهل لأصالحك على قومي.
كتب إلى أسرى، عن تشعيب، عن سيف، عن الضحاك، عن أبيه، قال: كان رجل من بنى عامر بن حنيفة يدعى الأغلب بن عامر بن حنيفة، وكان أغلظ أهل زمانه عنقًا؛ فلما انهزم المشركون يومئذ، وأحاط المسلمون بهم، تماوت، فلما أثبت المسلمون في القتلى أتى رجل من الأنصار يكنى أبا بصيرة ومعه نفر عليه، فلما رأوه مخضلا في القتلى وهم يحسبونه قتيلا، قالوا: يا أبا بصيرة، إنك تزعم - ولم تزل تزعم - أن سيفك قاطع، فاضرب عنق هذا الأغلب الميت، فإن قطعته فكل شئ كان يبلغنا حق، فاختره ثم مشى إليه ولا يرونه إلا ميتًا، فلما دنا منه ثار، فحاضر، واتبعه أبو بصيرة، وجعل يقول: أنا أبو بصيرة الأنصاري! وجعل الأغلب يتمطر ولا يزداد منه إلا بعدًا؛ فكلما قال ذلك أبو بصيرة، قال الأغلب: كيف ترى عدو أخيك الكافر! حتى أفلت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: لما فرغ خالد من مسيلمة والجند، قال له عبد الله ابن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر: ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون، فقال: دعانى أبث الخيول فألقط من ليس في الحصون، ثم أرى رأيى. فبث الخيول فحووا ما وجدوا من مال ونساء وصبيان، فضموا هذا إلى العسكر، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون، فقال له مجاعة: إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن الحصون لمملوءة رجالًا، فهلم لك إلى الصلح على ما ورائى، فصالحه على كل شئ دون النفوس. ثم قال: أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر؛ ثم أرجع إليك. فدخل مجاعة الحصون، وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية، ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهن؛ ثم رجع فأتى خالدًا فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما صنعت، وقد أشرف لك بعضهم نقصًا على وهم منى برآء. فنظر خالد إلى رءوس الحصون وقد اسودت، وقد نهكت المسلمين الحرب، وطال اللقاء؛ وأحبوا أن يرجعوا على الظفر، ولم يدروا ما كان كائنًا لو كان فيها رجال وقتال، وقد قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلثمائة وستون. قال سهل: ومن المهاجرين من غير أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء؛ ستمائة أو يزيدون. وقتل ثابت بن قيس يومئذ؛ قتله رجل من المشركين قطعت رجله، فرمى بها قاتله فقتله، وقتل من بني حنيفة في الفضاء بعقرباء سبعة آلاف، وفي حديقة الموت سبعة آلاف؛ وفي الطلب نحو منها.
وقال ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت ** عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت ** حجارته فيها من القوم بالدم
عشية لا تغنى الرماح مكانها ** ولا النبل إلا المشرفي المصمم
فإن تبتغى الكفار غير مليمة ** جنوب، فإنى تابع الدين مسلم
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة ** ولله بالمرء المجاهد أعلم