ذكر خبر حضرموت في ردتهم
قال أبو جعفر: كتب إلى السري، عنشعيب، عنسيف، عن سهل بن يوسف، عن الصلت، عن كثير بن الصلت، قال: مات رسول الله وعماله على بلاد حضرموت: زياد بن لبيد البياض على حضرموت. وعكاشة بن محض على السكاسك والسكون، والمهاجر على كندة - وكان بالمدينة لم يكن خرج حتى توفي رسول الله ، فبعثه أبو بكر بعد إلى قتال من باليمن والمضي بعد إلى عمله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان المخزومي، عن أبيه عن أم سلمة والمهاجرين أبي أمية، أنه كان تخلف عن تبوك، فرجع رسول الله وهو عليه عاتب؛ فبينا أم سلمة تغسل رأس رسول الله ، قالت: كيف ينفعني شئ وأنت عاتب على أخي! فرأت منه رقة؛ فأومأت إلى خادمها؛ فدعته، فلم يزل برسول الله ينشر عذره حتى عذره ورضى عنه وأمره على كندة. فاشتكى ولم يطق الذهاب؛ فكتب إلى زياد ليقوم له على عمله: وبرأ بعد، فأتم له أبو بكر إمرته، وأمره بقتال من بين نجران إلى أقصى اليمن؛ ولذلك أبطأ زياد وعكاشة عن مناجرة كندة انتظارًا له كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد؛ قال: كان سبب ردة كندة إحابتهم الأسود العنسى حتى لعن رسول الله الملوك الأربعة، وأنهم قبل ردتهم حين أسلموا وأسلم أهل بلاد حضرموت كلهم أمر رسول الله بما يوضع من الصدقات أن يوضع صدقة بعض حضرموت في السكون والسكون في بعض حضرموت. فقال نفر من بني وليعة: يا رسول الله، إنا لسنا بأصحاب إبل؛ فإن رأيت أن يبعثوا إلينا بذلك على ظهر! فقال: إن أنتكم! قالوا: فإنغ ننظر، وجاء ذلك الإبان، دعا زياد الناس إلى ذلك، فحضروه فقالت بنو وليعة: أبلغونا كما وعدتم رسول الله فقالوا: إن لكم ظهرًا، فهملوا فاحتملوا، ولا حوهم؛ حتى لاحوا زيادا؛ وقالوا له: أنت معهم علينا. فأبى الحضرميون، ولج الكنديون، فرجعوا إلى دارهم، وقدموا رجلً وأخروا أخرى، وأمسك عنهم زياد انتظارًا للمهاجر؛ فلما قدم المهاجر صنعاء، كتب إلى أبي بكر بكل الذي صنع، وأقام حتى قدم عليه جواب كتابه من قبل أبي بكر؛ فكتب إليه أبو بكر وإلى عكرمة، أن يسيرا حتى يقدما حضرموت، وأقر زيادًا على علمه، وأذن لمن معك من بين مكة واليمن في القفل؛ إلا أن يؤثر قوم الجهاد. وأمده بعبيده ابن سعد. ففعل؛ فسار المهاجر من صنعاء يريد حضرموت، وسار عكرمة من أبين يريد حضرموت، فاتقيا بمأرب؛ ثم فوزا من صهيد؛ حتى اقتحما حضرموت، فنزل أحدهما على الأشعث والآخر علة وائل.
كتب إلى السى، عن شعيب عن سيف عن سهل بن يوسف، عن سهيل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بن الصلت؛ قال: وكان زياد بن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بم معاوية بنفسه، فقدك عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم؛ وهو غلام، يقال له شيطان بن حجر؛ فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها؛ فقال العداء: هذه شذرة بإسمها؛ فقال الشيطان: صدق أخي؛ فإني لم أعطوكموها إلا وأنا أراها غيرها؛ فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإ، ها غير متروكة. فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر. فحمى وحمى الرجلان، فقال زياد: لا ولا تنعم؛ ولا هي لك؛ لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق الله، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس؛ فنادى العداء: يا آل عمرو، بالرياض أضام وأضهد! إن الذليل من أكل في داره! ونادى: يا أبا السميط، فأقبل أبو السميط حارثة بن سراقة بن معد يكرب؛ فقصد لزياد بن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيرًا مكانها، فإ، ما بعير مكان بعير، فقال: مكا إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهوديًا! وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها؛ فبعثها وقام دونها، وهو يقوا:
يمنعها شيخ بخديه الشيب ** ملمع كما يلمع الثوب
فأمر به زياد شبابًا من حضرموت والسكون، فمبعثره وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكرة فعقلوها كمات انت؛ وقال زياد ابن لبيد في ذلك:
لم يمنع الشذرة أركوب ** والشيخ قد يثنيه أرجوب
وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعًا دونه. وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء؛ لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرئهم شيئًا، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلًا يتعقلون به عليهم؛ فأرسل إليهم زياد: إما أن تصعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب؛ فقالوا: لا نضع السلاح أبدًا حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة. يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون! فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت؛ وفي جنوب مواليكم! وقالت له السكون: ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلًا، فقتل منهم، وكاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم:
وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالمًا ** فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة؛ ورجع زياد إلى منزله على الظفر. ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا: لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين. فأجمعوا وعسكروا جميعًا، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض؛ وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك:
لعمري وما عمري بعرضة جانب ** ليجتلبن منها المرار بنو عمرو
كذبتم وبيت الله لا تمنعونها ** زيادًا، وقد جئنا زيادًا على قدر
فأقاموا بعد ذلك يسيرًا. ثم أن بني عمرو بن معاوية خصوصًا خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء ححكوها، فنزل جمد محجرًا، ومخوص محجرًا، ومشرح محجرًا، وأبضعة محجرًا، وأختهم العمردة محجرًا - وكانت بنو عمرو بن معاوية على هؤلاء الرؤساء - ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بن قيس محجرًا، والسمط بن الأسود محجرًا وكابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل؛ إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار؛ فكيف بالرجوع عن الجميل وعن الحق إلى الباطل والقبيح! اللهم إنا لا نمالئ قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا - يعني يوم البكرة ويوم النفرة - وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بن عابس؛ حتى أتيا زيادًا، فقالا له: بيت القوم، فإن أقوامًا من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكونوشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا؛ وإن أبيت خشينا أن يرفض الناس عنا إليهم؛ والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي. فقال: شأنكم. فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجودوهم حول نيرانهم جلوسًا، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية؛ وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق، فأصابوا مشرحًا ومخوصًا وجمدًا وأبضعة وأختهم العمردة أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبى والأموال، وأخذوا طريقًا يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بن معاوية؛ فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بن معاوية ببني الحارث وناديته: يا أشعث، يا أشعث! خلاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم - وهذه الثالثة - وقال الأشعث:
منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم ** بأمعز من يوم البضيض وأصبرا
وعلم الأشعث أن زيادًا وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بن معاوية وبنيعمرو بن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بن معاوية وبني عمرو بن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر؛ وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد - مفازة ما بين مأرب حضرموت - واستخلف على الجيش عكرمة وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد؛ فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هرابًا، فالتجأت إلى النحير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:
كنا بزرقان إذ يشردكم ** بحر يزجى في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمحجركم ** حتى ركبتم من خوفنا السببا
إلى حصار يكون أهوانه ** سبى الذرارى وسوقها خببا
وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير، وقد اجتمعت إليه كنده، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل فنزل زياد على أحدهما، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش، فأ، زله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوظئهم. وفيمن بعث يزيد بن قنان من بني مالك بن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحيا أخر؛ وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقى سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه؛ جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمة؛ لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة. فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعذض، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:
صباح سوء لبني قتيره ** وللأمير من بني المغيره
وجعل راجز المسلمين زياد بن دينار يريد عليهم:
لا تواعدونا واصبرواحصيرة ** نحن خيول ولد المغيره
وفي الصباح تظفر العشيرة فلما أصبحزا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:
أطعنهم وأنا على أوفاز ** طعنًا أبوء به على مجاز
ويقول:
أنفذ قولي وله نفاذ ** وكل من جاورني معاذ
فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.
وقال هشام بن محمد: قدم عكرمة بن أبي جهل بعدما ما فرغ المهاجر من امر القوم مددًا لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة. ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصلوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم؛ وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.
وكتب إلى السري، قال: كتب أبو بكر رحمه الله إلى المهاجر مع المغيرة بن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم يظفروا؛ فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخروجوهم من ديارهم؛ فإني أكره أن أقر أقوامًا فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا.
قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقجطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل وخاف الرؤساء على أنفسهم؛ ولو صبروا حتى يجئ المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة. فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره؛ وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بن الجون، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة؛ على أن يؤمنهم وأهليهم وأن يفتحوا لهم الباب؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن سعيد بن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يتفح لهم الباب فيدخلوا على قومه. فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانة وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسى نفسه؛ عجل ودهش. ثم جاء بالكتاب فختمه؛ ورجع فسرب الذين في الكتاب.
وقال الأجاح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفيرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.
قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلًا إلا قتلوه؛ ضربوا أعناقهم صبرًا، وأحصى ألف امرأة ممن في النجير والخندق؛ ووضع على السبي والفئ الأحراس، وشاركهم كثير.
وقال كثير بن الصلت: لما فتح الباب وفرغ ممن في النجير، وأحصى ما أفاء الله عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابة فعرضهم، فأجاز من في لكتاب، فإذا الأشعث يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزنك الله. الذي أخطأك نوءك يا أشعث، يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزيك الله. فشد وثاقًا، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا. وإنه كان رجلًا نسى اسمه أن يكتبه؛ وهو ولي المخاطبة. أفداك يبطل ذاك! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأورها. وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار - كلام يمان يسمون به الغادر - وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد الله، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه الله بالفتح والسبايا والأسرى. فدعا بالأشعث، فقال: استزلك بنو وليعة، ولم تكن لتستنزل لهم - ولا يرونك لذلك أهلًا - وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى أن تكون دعوة رسول الله قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعًا بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال: فإني أرى قتلك. قال: فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليم فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضًا. فلما خشى أن يقع به قال: أو تحتسب في خيرًا فتطلق إساري وتقيلني عثرني، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد على زوجتي - وقد كان خطب أم فروة بنت أبى قحافة مقدمة على رسول الله فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول وفعل الأشعث ما فعل، فخشى ألا ترد عليه - تجدني خير أهل بلاد لدين الله! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.
قال أبو جعفر: وأما ابن حميد، فإنه قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الأشعث لما قدم به على بكر، قال: ماذا تراني أصنع بك؛ فإنك قد فعلت ما علمت! قال: تمن على فتفكني من الحديد وتزوجني أختك؛ فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت. فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة بالمدينة حتى فتح العراق.
رجع الحديث إلى حديث سيف. فلما ولى عمر رحمه الله، قال: إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضًا. وقد وسع الله، وفتح الأعاجم. واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وجعل فداء كل إنسان سبعة أبعرة وستة أبعرة إلا حنيفة كندة؛ فإنه خفف عنهم لقتل رجالهم، ومن لا يقدر على فداء لقيامهم وأهل دبا، فتتبعت رجالهم نساءهم بكل مكان. فوجد الأشعث في بني ننهد وبني غطيف امرأتين؛ وذلك أنه وقف فيها يسأل عن غراب وعقاب، فقيل: ما تريد إلى ذلك؟ قال: إن نساءنا يوم النجير خطفهن العقبان والغربان والذئاب والكلام. فقال بنو غطيف: هذا غراب، قال: فما موضعه فيكم؟ قالوا: في الصيانة، قال: فنعم، وانصرف. وقال عمر: لا ملك على عربي، للذي أجمع عليه المسلمون معه.
قالوا: ونظر المهاجر في أمر المرأة التي كان أبوها النعمان بن الجون أهداها لرسول الله ؛ فوصفها أنها لم تشتك قط. فردها، وقال: لا حاجة لنا بها، بعد أن أجلسها بين يديه وقال له: لو كان لها عند الله خير لا شتكت. فقال المهاجر لعكرمة: متى تزوجتها؟ قال " وأنتا بعدن، فأهديت إلى بالجند، فسافرت بها إلى مأرب، ثم أوردتها العسكر. فقال بعضهم: دعها فإنها ليست بأهل أن يرغب فيها. وقال بعضهم: دعها فكتب المهاجر إلى أبي بكر رحمه الله يسأله عن ذلك فكتب إليه أبو بكر: إن أباها النعمان بن الجون أتى رسول الله ، فزينها له حتى أمره أن يجيئه بها، فلما جاءه بها قال: أزيدك أنها لم تيجع شيئًا قط، فقال: لو كان لها عند الله خير لا شتكت، ورغب عنها؛ فارغبوا عنها. فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أمر عمر في السبي بالفداء عدة منهم بشرى بنت فيس بن أبي الكيسم، عند سعد بن مالك، فولدت له عمر، وزرعة بنت مشرح عند عبد الله بن العباس ولدت له عليًا.
كتب أبو بكر إلى المهاجر يخيره اليمن أو حضرموت؛ فاختار اليمن، فكانت اليمن على أميرين: فيروز والمهاجر، زكانت حضرموت على أميرين: عبيدة بن سعد على كندة والسكاسك، وزياد بن لبيد على حضرموت.
وكتب أبو بكر إلى عمان الردة: أما بعد، فإن أحب من أدخلتم في أموركم إلى من لم يرتد ومن كان ممن لم يرتد، فأجتمعوا على ذلك، فاتخذوا منها صنائع وائذنوا لمن شاء في الأنصراف، ولا تستعينوا بمرتد في جهاد عدو.
وقال الأشعث بن مئناس السكوني يبكي أهل النجير:
لعمري وما عمري على بهين ** لقد كنت بالقتلى لحق ضنين
فلا غزو إلا يوم أقرع بينهم ** وما الدهر عندي بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ** ولم تمش أنثى بعدهم لجنين
وكنت كذاب البو ريعت ** فأقبلت على بوها إذ كربت بحنين
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن موسى بن عقبة، عن الضحاك بن خليفة، قال: وقع إلى المهاجر امرأتان مغنيتان؛ غنت إحداهما بشتم رسول الله ، فقطع يدها، ونزع ثنيتها؛ فكتب إليه أبو بكر رحمه الله: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمه رسول الله ؛ فلو لا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو يمعاهد فهو محارب.
وكتب إليه أبو بكر في التي تغنت بهجاء المسلمين: أما بعد؛ فإنه بلغني أنك قطعت يدًا امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين، ونزعت تنيتها؛ فإن كانت ممن تدعى الإسلام فأدب وتقدمه دون المثلة، وإن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم؛ لو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهًا؛ فأقبل الدعة وإياك والمثلة في الناس؛ فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - انصرف معاذ بن جبل من اليمن.
وستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب، فكان على القضاء أيام خلافته كلها.
وفيها أمر أبو بكر رحمه الله على الموسم عتاب بن أسيد - فيما ذكره الذين أسند إليهم خبره علي بن محمد الذين ذكرت قبل في كتابي هذا أسماءهم.
وقال علي بن محمد: وقال قوم: بل حج بالناس في إحدى عشرة عبد الرحمن بن عوف عن تأمير أبي إياه بذلك.
ثم كانت سنة اثنتي عشرة من الهجرة
مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة
قال أبو جعفر، ولما فرغ خالد من أمر اليمامة، كتب إليه أبو بكر الصديق رحمه الله؛ وخالد مقيم باليمامة - فيما حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: أخبرنا عمى، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن عمرو بم محمد، عن الشعبي: أن سر إلى العراق حتى تدخلها، وابدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وتألف أهل فارس، ومن كان في ملكهم من الأمم.
حدثني عمر بن شبة، قال حدثنا علي بن محمد بالأسناد الذي قد تقدم ذكره، عن القوم الذين ذكرتهم فيه، أن أبا بكر رحمه الله وجه المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة، وفيها قطبة بن قتادة السدوسي.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه قال: اختلف في أمر خالد بن الوليد، فقائل يقول: مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق. وقائل يقول: رجع من اليمامة، فقدم المدينة، ثم سار إلى العراق من المدينة على كطريق الكوفة؛ حتى انتهى إلى الحيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان؛ أن أبا بكر رحمه الله كتب إلى خالد بن الوليد يأمره أن يسير إلى العراق، فمضى خالد يريد العراق، حتى نزل بقريات من السواد، يقال لها: بانقيًا وباروسما وأليس؛ فصالحه أهلها، وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا، وذلك في سنة اثنتي عشرة، فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتابًا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد لأبن صلوبا السوادي - ومنزله بشاطئ الفرات - إنك آمن بأمان الله - إذ حقن دمه بإعطاء الجزية - وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتيك - بانقًا وباروسيما ألف درهم، فقبلتها منك، ورضى من معي من المسلمين بها منك، ولك ذمة الله وذمة محمد ، وذمة المسلمين على ذلك. وشهد هشام بن الوليد.
ثم أقبل خالد بن الوليد بمن معه حتى نزل الحيرة، فخرج إليه أشرفهم مع قبيصة بن إياس بن حية الطائي - وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر - فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم وما عليهم؛ فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة؛ جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فقال له قبيضة بن إياس: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا، ونعطيك الجزية. فصالحهم على تسعين ألف درهم، فكانت أول جزية وقعت بالعراق، هي القربات التي صالح عليها ابن صلوبا.
قال أبو جعفر: وأما هشام بن الكلبي؛ فإنه قال: لما كتب أبو بكر خالد بن الوليد وهو باليمامة أن يسير إلى الشأم، أمره أن يبدأ بالعراق فيمر بها؛ فأقبل خالد منها يسير حتى نزل النباج.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني أبو الخطاب حمزة بن علي، عن رجل من بكر بن وائل، فقال: أمرني على من قبلي من قومي، أقاتل من يليني من أهل فارس، وأكفيك ناحيتي، ففعل ذلك؛ فأقبل فجمع قومه وأخذ يغير بناحية كسكر مرة، وفي أسفل الفرات مرة، ونزل خالد بن الوليد النباج والمثنى بن حارثة بخفان معسكر؛ فكتب إليه خالد بن الوليد ليأتيه، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره فيه بطاعته؛ فانقص إليه جوادًا حتى لحق به، وقد زعمت بنو عجل أنة كان خرج من المثنى بن حارثة رجل منهم يقال له مذعور بن عدي، نازع المثنى بن حارثة، فتكاتبا إلى أبي بكر؛ فكتب أبو بكر إلى العجلي مصر، فشرف بها وعظم شأنه، فداره اليوم بها معرفة؛ وأقبل خالد بن الوليد يسير، فعرض له جابان صاحب أليس، فبعث إليه المثنى بن حارثة، فقاتله فهزمه، وقتل جل أصحابه، إلى جانب نهر ثم يدعى نهر دم لتلك الوقعة؛ وصالح خيل كسرى التي كانت في مسالح ما بينه وبين العرب، فلقوهم بمجتمع الأنهار، فتوجه إليهم المثنى بن حارثة، فهزمهم الله.
ولما راى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلونه؛ فيهم عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبضية، فقال خالد لعبد المسيح: من أين أثرك؟ قال: من ظهر أبي، قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: ويحك! على أي شئ أنت؟ قال: ويحك! تعقل؟ قال: نعم وأقيد، قال إنما أسألك، قال: وأنا أجيبك، قال أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم قال: فما هذه الحصون التي أرى؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجئ الحليم فينهاه. ثم قال لهم خالد: إني أدوكم إلى الله وإلى عبادته وإلى الإسلام، فإن قبلتم فلكم مآلنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم يقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر. فقالوا: لاحاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق. ثم نزل على بانقيًا، فصالحه بصيري بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان؛ وكتب لهم كتابًا وكان صالح خالد أهل الحيرة على أن يكونوا له عيونًا، ففعلوا.
قال هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني المجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن:
من خالد بن الوليد إلى مرازية أهل فارس؛ سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم. وإنه من صلى صلاتنا؛ واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له مالنا، وعليه ما علينا. أما بعد، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلى بالرهن، واعتقدوا منى الذمة، وإلا فوالذي لا إله لأبعثن إليكم قومًا يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فلما قرءوا الكتاب، أخذوا يتعجبون، وذلك سنة اثنتي عشرة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)