منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم ** بأمعز من يوم البضيض وأصبرا
وعلم الأشعث أن زيادًا وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بن معاوية وبنيعمرو بن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بن معاوية وبني عمرو بن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر؛ وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد - مفازة ما بين مأرب حضرموت - واستخلف على الجيش عكرمة وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد؛ فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هرابًا، فالتجأت إلى النحير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:
كنا بزرقان إذ يشردكم ** بحر يزجى في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمحجركم ** حتى ركبتم من خوفنا السببا
إلى حصار يكون أهوانه ** سبى الذرارى وسوقها خببا
وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير، وقد اجتمعت إليه كنده، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل فنزل زياد على أحدهما، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش، فأ، زله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوظئهم. وفيمن بعث يزيد بن قنان من بني مالك بن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحيا أخر؛ وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقى سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه؛ جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمة؛ لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة. فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعذض، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:
صباح سوء لبني قتيره ** وللأمير من بني المغيره
وجعل راجز المسلمين زياد بن دينار يريد عليهم:
لا تواعدونا واصبرواحصيرة ** نحن خيول ولد المغيره
وفي الصباح تظفر العشيرة فلما أصبحزا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:
أطعنهم وأنا على أوفاز ** طعنًا أبوء به على مجاز
ويقول:
أنفذ قولي وله نفاذ ** وكل من جاورني معاذ
فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.
وقال هشام بن محمد: قدم عكرمة بن أبي جهل بعدما ما فرغ المهاجر من امر القوم مددًا لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة. ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصلوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم؛ وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.
وكتب إلى السري، قال: كتب أبو بكر رحمه الله إلى المهاجر مع المغيرة بن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم يظفروا؛ فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخروجوهم من ديارهم؛ فإني أكره أن أقر أقوامًا فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا.
قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقجطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل وخاف الرؤساء على أنفسهم؛ ولو صبروا حتى يجئ المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة. فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره؛ وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بن الجون، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة؛ على أن يؤمنهم وأهليهم وأن يفتحوا لهم الباب؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن سعيد بن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يتفح لهم الباب فيدخلوا على قومه. فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانة وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسى نفسه؛ عجل ودهش. ثم جاء بالكتاب فختمه؛ ورجع فسرب الذين في الكتاب.
وقال الأجاح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفيرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.
قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلًا إلا قتلوه؛ ضربوا أعناقهم صبرًا، وأحصى ألف امرأة ممن في النجير والخندق؛ ووضع على السبي والفئ الأحراس، وشاركهم كثير.
وقال كثير بن الصلت: لما فتح الباب وفرغ ممن في النجير، وأحصى ما أفاء الله عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابة فعرضهم، فأجاز من في لكتاب، فإذا الأشعث يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزنك الله. الذي أخطأك نوءك يا أشعث، يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزيك الله. فشد وثاقًا، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا. وإنه كان رجلًا نسى اسمه أن يكتبه؛ وهو ولي المخاطبة. أفداك يبطل ذاك! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأورها. وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار - كلام يمان يسمون به الغادر - وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد الله، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه الله بالفتح والسبايا والأسرى. فدعا بالأشعث، فقال: استزلك بنو وليعة، ولم تكن لتستنزل لهم - ولا يرونك لذلك أهلًا - وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى أن تكون دعوة رسول الله قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعًا بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال: فإني أرى قتلك. قال: فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليم فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضًا. فلما خشى أن يقع به قال: أو تحتسب في خيرًا فتطلق إساري وتقيلني عثرني، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد على زوجتي - وقد كان خطب أم فروة بنت أبى قحافة مقدمة على رسول الله فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول وفعل الأشعث ما فعل، فخشى ألا ترد عليه - تجدني خير أهل بلاد لدين الله! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.