قال أبو جعفر الطبري: وشاركهم محمد وطلحة، قالوا: لما نزل بسوى وخشى أن يفضحهم حر الشمس، نادى هالد رافعًا: ما عندك؟ قال: خير، أدركتم الري، وأنتم على الماء! وشجعهم وهو متحير أرمد، وقال: أيها الماس، انظروا علمين كأنهما ثديان. فأتوا عليهما وقالوا: علمان، فقام عليهما فقال: اضربوا يمنة ويسرة - لعوسجة كعقدة الرجل - فوجدوا جذمها، فقالوا: جذم ولا نرى شجرة، فقال: احتفروا حيث شئتم، فاسشتثاروا وأحساء رواء، فقال رافع: أيها الأمير، والله ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلا مرة وأنا غلام مع أبي. فاستعدوا ثم أغاروا والقوم لا يرون أن جيشًا يقطع إليهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن أبراهيم، عن ظفر بن دهى، قال: فأغار بنا خالد من سوى على مصيخ بهراء بالقصواني - ماء من المياه - فصبح المصيخ والنمر؛ وإنهم لغارون، وإن رفقة لتشرب في وجه الصبح، وساقيهم يغنيهم، ويقول:
ألا صبحاني قبل جيش أبي بكر
فضربت عنقه، فاختلط دمه بخمره.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد بإسنادهالذي تقدم ذكره، قال: ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وغارته على مسيخ بهراء وانتسافها، فاجتمعوا بمرج واهط، وبلغ ذلك خالدًا، وقد خلف ثغور الروم وجنودها مما يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، صمد لهم؛ فخرج من سوى بعد مارجع إليها بسبي بهراء، فنزل الرمانتين - علمين على الطريق - ثم نزل الكثب؛ حتى صار إلى دمشق، ثم مرج الصفر، فلقى عليه غسام وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم. ونزل بالمرج أيامًا، وبعث إلى أبي بكر بالأخماس مع بلال بن الحارث المزني، ثم خرج من المرج حتى ينزل قناة بصرى؛ فكانت أول مدينة افتتحت بالشأم على يدي خالد فيمن معه من جنود العراق، وخرج منها، فوافى المسلمين بالواقوصة، فنازلهم بها في تسعة آلاف.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: ولما رجع خالد من حجة وافاه كتاب أبي بكر بالخروج في شطر الناس، وأن يخلف على الشطر الباقي المثنى بن حارثة، وقال: لا تأخذن نجدًا إلا خلفت له نجدًا، فإذا فتح الله عليكم فارد هم إلى العراق، وأنت معهم، ثم أنت على عملك؛ وأحضر خالد أصحاب رسول الله واستأثر بهم على المثنى، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة ممن لم يكن له صحبة، ثم نظر فيمن بقي، فاختلج من كان قدم على النبي وافدًا أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة؛ ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة أو بع النصف؛ وبالله ماأرجو النصر إلا بهم، فأنى تعريني منهم! فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلي، وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان، ومعبد بن أم معبد الأسلمى، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمى؛ والحارث بن بلال المزنى، وعاصم بن عمرو التميمي؛ حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته، انجذب خالد فمضى لوجهه وشيعه المثنى إلى قراقر، ثم رجع إلى الحيرة في المحرم، فأقام في سلطانه، ووضع في المسلحة التي كان فيها على السيل أخاه، ومكان ضرار بن الخطاب عتيبة بن النهاس، ومكان ضرار بن الأزور مسعودًا أخاه الآخر، وسد أماكن كل من خرج من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء، ووضع مذعور بن عدي في بعض تلك الأماكن، واستقام أهل فارس - على رأس سنة من مقدم خالد الحيرة؛ بعد خروج خالد بقليل؛ وذلك في سنة ثلاث عشرة - على شهر براز بن أرشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جندًا عظيمًا عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، وكتب المسالح إلى المثنى بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة نحوه، وضم إليه المسالح، وجعل على مجنبتيه المعنى ومسعودًا ابني حارثة، وأقام له ببابل، وأقبل هرمز جاذويه، وعلى مجنبتيه الكوكبد والخر كبذ. وكتب إلى المثنى: من شهر براز إلى المثنى؛ إني قد بعثت إليك جندًا من وخش أهل فارس، إنما هم رعاة الدحاج والخنازير؛ ولست أقاتلك إلا بهم فأجابه المثنى: من المثنى إلى شهر براز؛ إنما أنت أحد رجلين: إما باغ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله في الناس الملوك. وأما الذي يدلنا عليه الرأى؛ فإنكم إنما اضطررتم إليهم؛ فالخمد لله الذي رد كيدطمك إلى رعاة الدجاج والخنازير. فجزع أهل فارس من كتابه، وقالوا: إنما أتى شهر براز من شؤم مولده ولؤم منشئه - وكان يسكن ميسان - وبعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له: جرأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم؛ فإذا كاتبت أحدًا فاستشر. فالتقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا على الطريق الأول قتالًا شديدًا.
ثم إن المثنى وناسًا من المسلمين اعتوروا الفيل - وقد كان يفرق بين الصفوف والكراديس - فأصابوا مقتله، فقتلوه وهزموا أهل فارس، واتبعهم المسلمون يقتلون، حتى جازوا بهم مسالحهم، فأقاموا فيها، وتتبع الطلب الفالة؛ حتى انتهوا إلى المدائن؛ وفي ذلك يقول عبدة بن الطبيب السعدي، وكان عبدة قد هاجر لمهاجر حليلة له حتى شهد وقعة بابل؛ فلما آيسته رجع إلى البادية، فقال:
هل حبل خولة بعد البين موصول ** أم أنت عنها بعيد الدار مشغول!
وللأحبة أيام تذكرها ** والمنوى قبل يوم البين تأويل
حلت خويلة في حي عهدتهم ** دون المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رءوس العجم ضاحية ** منهم فوارس، لا عزل ولا ميل
القصيدة. وقال الفرزدق يعدد بيوتات بكر بن وائل وذكر المثنى وقتله الفيل:
وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة ** ببابل إذا في فارس ملك بابل
ومات شهر براز منهزم هرمز جاذويه.
واختلف أهل فارس، وبقي ما دون دجلة وبرس من السواد في يدي المثنى والمسلمين.
ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهر براز على دخت زنان ابنة كسرى؛ فلم ينقذ لها أمر فخلعت.