وملك سابور بن شهر براز. قالوا: ولما ملك سابور بن شهر براز قام بأمره الفر خزاذ بن البنوان، فسأله أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، ففعل، فغضبت من ذلك، وقالت: يا بن عم، أتزوجني عبدي! قال: استحي من هذا الكلام ولا تعيديه على، فإنه زوجك، فبعثت إلى سياوخش الرازي - وكان من فتاك الأعاجم - فشكت إليه الذي تخاف، فقال لها: إن كنت كارهة لهذا فلا تعاوديه فيه، وأرسلى إليه وقولي له: فليقل له فليأتك؛ فأنا أكفيكه. ففعلت وفعل؛ واستعد سياوخش، فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاذ حتى دخل، فثار به سياوخش فقتله ومن معه، ثم نهد بها معه إلى سابور، فحضرته ثم دخلوا عليه فقتلوخه. وملكت آزر ميدخت بنت كسرى، وتشاغلوا بذلك؛ وأبطأ خبر أبي بكر على المسليمن فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية، ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي؛ وخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين، وليستأذنه في الاستعانة بمن قد ظهرت توبته وندمه من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو، وليخبره أنه لم يخلف أحدًا أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة وأبو بكر مريض، وقد كان مرض أبو بكر بعد مخرج خالد إلى الشأم - مرضته التي مات فيها - بأشهر؛ فقدم المثنى وقد أشفى، وعقد لعمر، فأخبر الخبر، فقال: على بعمر، فجاء فقال له: اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به؛ إني لأرجو أن أموت من يومي هذا - وذلك يوم الاثنين - فإن أنامت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم؛ وقد رأيتني متوفى رسول الله وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله؛ وبالله لو أني أنى عن أمر رسوله لخذلنا ولعاقبنا، فاضطرمت المدينة نارًا. وإن فتح الله على أمراء الشأم فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولادة أمره وحده وأهل الضراوة منهم والجراءة عليهم.
ومات أبو بكر رحمه الله مع الليل، فدفنه عمر ليلًا، وصلى عليه في المسجد، وندب الناس مع المثنى بعدما سوى على أبي بكر، وقال عمر: كان أبو بكر قد علم أنه يسوءني أن أؤمر خالدًا على حرب العراق حين أمرني بصرف أصحابي، وترك ذكره.
قال أبو جعفر: وإلى آزر ميخت انتهى شأن أبي بكر، وأحد شقي السواد في سلطانه، ثم مات وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد، فيما بين ملك أبي بكر إلى قيام عمر ورجوع المثنى مع أبي عبيد إلى العراق، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة، والمسالح بالسيب، والغازات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
فهذا حديث العراق في إمارة أبي بكر من مبتدئه إلى منتهاه.
ذكر وقعة أجنادين

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. وكتب أبو بكر إلى خالد وهو بالحيرة، يأمره أن يمد أهل الشأم بمن معه من أهل القوة، ويخرج فيهم، ويستخلف على ضعفه الناس رجلًا منهم؛ فلما أتى خالدًا كتاب أبي بكر بذلك، قال خالد: هذا عمل الأعسير بن أم شملة - يعني عمر بن الخطاب - حسدني أن يكون فتح العراق على يدي. فسار خالد بأهل القوة من الناس ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة؛ مدينة رسول الله ، وأمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري، واستخلف خالد على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني. ثم سار حتى نزل على عين التمر، فأغار على أهلها، فأصاب منهم، ورابط حصنًا بها فيه مقاتلة كان كسرى وضعهم فيه حتى استنزلهم، فضرب أعناقهم، وسبى من عين التمر ومن أبناء تلك المرابطة سبايا كثيرة فبعث بها إلى أبي بكر؛ فكان من تلك السبايا أبو عمرة مولى شبان؛ وهو أبو عبد الأعلى بن أبي عمرة، وأبو عبيدة مولى المعلى، من الأنصار من بني زريق، وأبو عبد الله مولى زهرة، وخير مولى أبي داود الأنصاري ثم أحد بني مازن بن النجار، ويسار وهو جد محمد بن إسحاق مولى قيس بن مخرومة بن المطلب بن عبد مناف، وأفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ثم أحد بني مالك بن النجار، وحمران بن أبان مولى عثمان بن عفان. وقتل خالد بن الوليد هلال بن عقة ابن بشر النمري وصلبة بعين التمر، ثم أراد السير مفوزا من قراقر - وهو ماء لكلب إلى سوى، وهو ماء لبهران بينهما خمس ليال - فلم يهتد خالد الطريق، فالتمس دليلًا، فدل على رافع بن عميرة الطائي؛ فقال له خالد: انطلق، بالناس فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال؛ والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه وما يسلطها إلا مغررًا؛ إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها، فقال له خالد: ويحك! إنه والله إن لي بد من ذلك، إنه قد أتتني من الأمير عزمة بذلك فمر بأمرك. قال: استكبروا من الماء؛ من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل؛ فإنها المهالك إلا ما دفع الله؛ ابغني عشرين جزورًا عظامًا سمانًا مسان. فأتاه بهن خالد، فعمد إليهن رافع فظمأهن، حتى إذا أجهدهن عطشًا أوردهن فشربن حتى إذا تملأن عمد إليهن، فقطع مشافرهن، ثم كعمهن لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهن.
ثم قال لخالد: سر؛ فسار خالد معه مغذًا بالخيول والأثقال؛ فكلما نزل منزلًا افتظ أربعًا من تلك الشوارف؛ فأخذ كا في أكراشها، فسقاه الخيل؛ ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء؛ فلما خشي خالد على أصحابه في آخر يوم من المفاز قال لرافع بن عميرة وهو أرمد: ويحك يا رافع! ما عندك؟ قال أدركت الري إن شاء الله فلما دنا من العلمين، قال للناس: انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل؟ قالوا: ما نراها. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! هلكتم والله إذًاي وهلكت؛ لا أباكم! انظروا فطلبوا فوجودها قد قطعت وبقيت منها بقية، فلما فحفروا فاستخرجوا عينًا، فشربوا حتى روى الناس، فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة، وردته مع أبي وأنا غلام، فقال شاعر من المسلمين:
لله عينًا رافع أنى اهتدى ** فوز من قراقر إلى سوى!
خمًا إذا ما سارها الجيش بكى ** ما سارها قبلك إني يرى
فلما انتهى خالد إلى سوى، أغار على أهله - وهم بهراء - قبيل الصبح، وناس منهم يشربون خمرًا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ** لعل منايانا قريب وما ندري
ألا عللاني بالزجاج وكررا ** على كميتاللون صافية تجري
ألا عللاني من سلافة قهوة ** تسلى هموم النفس من جيد الخمر
أظن خيول المسلمين وخالدًا ** ستطرقكم قبل الصباح من البشر
فهل لكم في السيرقبل قتالهم ** وقبل خروج المعصرات من الخدر