في كل يوم ، و بين الفينة و الأخرى يزج بشخص جديد إلى السجن .
في الفترة الأخيرة ، كان معظم السجناء من مرتكبي الجرائم السياسية
أو المتهمين بها ظلما .

كنت أنا أصغر الموجودين سنا ، إذ أنني لم أبلغ العشرين بعد و كان وجودي بين السجناء مثيرا للاهتمام .

تعرفت على ( زميل ) يدعى نديم .
نديم هذا كان متهما بإحدى الجرائم السياسية و قد حكم عليه بسنوات طويلة من السجن و الحرمان من الحياة ...

" و من يعتني بزوجتك و ابنتك الآن ؟ "

سألته أثناء حديث لنا ، و هل كنا نملك غير الأحاديث ؟؟

أجابني :

" ليس لدي الكثير من الأقارب ، إلا أنني اعتقد أنهما ستلجأان إلى أخي غير الشقيق ( عاطف ) فهو مقتدر ماديا و يستطيع مساعدتهما ـ إن قبل "

و اكتشفت فيما بعد ، أن عاطف هذا لم يكن غير والد عمّار الذي قتلته !
الذي جعل الأمر يمر مرور الكرام هو أن نديم لم يكن على علاقة وطيدة بأخيه غير الشقيق عاطف او ابنه المتوفى عمّار ...
و الذي حدث هو أننا مع الوقت أصبحنا صديقين حميمين رغم ذلك .

لقد كان هو الداعم الوحيد لي و المشجع على عيشة السجن المريرة ...

و أي مر ؟؟
أي عذاب ؟
أي ضياع ...؟؟

في كل ليلة ، اضطجع على السرير الضيق المهترىء المتسخ ، عوضا عن سريري الواسع المريح ، و أغطي جسدي المنهك بأغطية بالية ممزقة ، بدلا من البطانيات الناعمة النظيفة ...

اغمض عيني ّ و أفكر ... و أتذكر ... و أبكي ...

أخرج الصورتين من تحت الوسادة القديمة المسطحة، و أحدق بهما ...

هنا ، يقف أفراد عائلتي جميعا ، هذا أبي ... هذه أمي ... هذا شقيقي سامر ، و هذه الندبة التي شوّهت وجهه منذ ذلك اليوم ... و هذه دانة ... بظفيرتيها المتدليتين على كتفيها ...
و هذه ... هذه ...
من هذه ؟؟
إنها دنياي ...
حبيبتي الصغيرة المدللة ...
طفلتي الغالية ...
نبضة قلبي ... رغد
تقف إلى جانبي ممسكة برجلي ...
كانت تريد مني أن أحملها إلا أنني فضلت أن نلتقط الصورة و هي واقفة إلى جواري ...

و في هذه الصورة ... مع دفتر تلوينها ...

ما أجملها .. و ما أجمل شعرها الخفيف الناعم ... كم أحب أن أمسح على رأسها ... ما أنعم هذا الملمس ...

مسحت بيدي ... شعرت بخشونة ...
خشونة السرير الذي ألقي بجسدي عليه ...
خشونة الواقع الذي أعيشه ...

رفعت يدي و أخذت أحدق براحتي ...

و أرى ما علق بها من غبار و حبات رمل تملأ السرير ...

صرخت ...

صرخت فجأة رغما عني ...

" رغد ... أعيدوني إلى رغد ... أخرجوني من هنا ... "

في الصباح ... أنهض عن سريري بكل كسل و كل ملل و إحباط
فأنا سأنتظر دوري في طابور السجناء الذاهبين إلى دورات المياه ، ثم أخرج من ذلك المكان البغيض و أنا أشعر أنني كنت أكثر نظافة قبل دخولي إليه ، و أذهب إلى حيث يقدّم لنا فطور الصباح ... و أي فطور ...

عوضا عن شاي أمي و أطباقها الشهية اللذيذة ، التي كنت أتناولها عن آخرها ، يقدم لنا مشروبا سيء الطعم ، لا أستطيع الحكم عليه بأنه شاي أو قهوة أو أي مشروب آخر ...

و أجبر معدتي الجوفاء على هضم طعام رديء لا طعم له و لا رائحة ، حتى أنني أترفع عن مضغه و ازدرده ازدرادا ...

و يبدأ يوم فارغ لا أحداث فيه ... تمر الساعة تلو الأخرى دون أن يكون هناك أي تغيير ... لا مدرسة أذهب إليها ... لا رفاق أتصل بهم ... لا أهل أتبادل الأحاديث معهم ... و لا أطفال أرعاهم و أعلمهم ... و لا رغد تظهر فجأة عند باب غرفتي و تقول :

" وليــــــــــد ... لوّن معي ! "

آه يا رغد ...

ما الذي تفعلينه الآن ؟

ما الذي فعلته بعد غيابي ؟

هل يعتنون بك جيدا ؟؟

رغد ...

أكاد أموت شوقا إليك ...

ليتك تقفزين من مخيلتي و تظهرين أمامي ، كما كان يحدث سابقا ....

" أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا .. "

لو لم يكن نديم موجودا ، أظن ... أنني كنت سأصاب بالجنون .