الرؤيا

و أما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها و تصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية و المدارك البدنية و قد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة و تعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً و غير جلي بالمحاكاة و المثال في الخيالي لتخلصه فيحتاج. من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير و قد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال و الخيال و السبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة مستكملة بالبدني و مداركه حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً و يكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية إلا أن نوعها في الروحانية دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن و لا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن و منه خاص كالذي للأولياء و منه عام للبشر على العموم و هو أمر الرؤيا. و أما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي، أعلى الروحانيات و يخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي و هو عندما يعرج على المدارك البدنية و يقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً و إن كان حال النوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة و أربعين جزاً من النبؤة و في رواية ثلاثة و أربعين و في رواية سبعين و ليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات و إنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه و هو للتكثير عند العرب و ما ذهب إليه بعضهم في رواية ستين و أربعين من أن الوحي كان في مبدإه بالرؤيا ستة أشهر و هي نصف سنة و مدة النبوة كلها بمكة و المدينة ثلاث و عشرين سنة فنصف السنة منها جزء من ستة و أربعين فكلام بعيد من التحقيق لأنة إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم و من أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبؤة و لا يعطي حقيقتها من حقيقة النبؤة و إذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد و إن كان عاماً في البشر و معه عوائق و موانع كثيرة من حصوله بالفعل و من أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب و لذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال لم يبق من النبؤة إلا المبشرات قالوا و ما المبشرات يا ر سول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له و أما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك و ذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها و أفعالها بالروح الحيواني الجسماني و هو بخار لطيف مركزه بالتجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس و غيره و ينبعث مع الدم في الشريانات و العروق فيعطي الحس و الحركة، و سائر الأفعال البدنية و يرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده و تتم أفعال القوى التي في بطونه فالنفس الناطقة إنما تدرك و تعقل بهذا الروح البخاري و هي متعلقة به لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف و لما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة و صارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته و قد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين إدراك بالظاهر و هو الحواس الخمس و إدراك بالباطن و هو القوى الدماغية و أن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية التي هي مستعدة له بالفطرة و لما كانت الحواس الظاهرة جسمانية كانت معرضةً للوسن و الفشل بما يدركها من التعب و الكلال و تغشى الروح بكثرة التصرف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة و إنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها و رجوعه إلى الحس الباطن و يعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل فتطلب الحرارة الغزيرة أعماق البدن و تذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيعة مركبها و هو الروح الحيواني إلى الباطن و لذلك كال النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة و رجع إلى القوى الباطنة و خفت عن النفس شواغل الحس و موانعه و رجعت إلى الصورة التي في الحافظة تمثل منها بالتركيب و التحليل صور خيالية و أكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة و ربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية مع منازعتها القوى الباطنية فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه و تقيس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة و المحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير و تصرفها بالتركيب و التحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. و في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: الرؤيا ثلاث رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان و هذا التفصيل مطابق لما ذكرناه فالجلي من الله و المحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك و أضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل و الشيطان ينبوع الباطل هذه حقيقة الرؤيا و ما يسببها و يشيعها من النوم و هي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كل واحد من الإنساني رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة و حصل له على القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم و لا بد و إذا جاز في ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غير من الأحوال لأن الذات المدركة واحدة و خواصها عامة في كل حال و الله الهادي إلى الحق بمنه و فصله.
فصل:

و وقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه و إنما تكون النفس متشوقة لذلك الشيء فيقع بتلك اللمحة في النوم لأنها تقصد إلى ذلك فتراه و قد وقع في كتاب الغاية و غير من كتب أهل الرياضيات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه و يسمونها الحالومية و ذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام و هو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر و صحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية و هي تماغس بعد أن يسواد و غداس نوفنا غادس و يذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم. و حكى أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله و ذكره فتمثل له شخص يقول له إن طباعك التام فسأله و أخبره عما كان يتشوف إليه و قد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة و اطلعت بها على أمور كنت أتشوف عليها من أحوالي و ليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها و إنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كال أقرب إلى حصول ما يستعد له و للشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب و لا يكون دليلاً على إيقاع المستمد له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك و تدبره فيما تجد من أمثاله و الله الحكيم الخبير. فصل: ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس و لا يرجعون في ذلك إلى صناعة و لا يستدلون عليه بأثر من النجوم و لا من غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرته التي فطروا عليها و ذلك مثل العرافين و الناظرين في الأجسام الشفافين كالمرايا و طساس الماء و الناظرين في قلوب الحيوانات و أكبادها و عظامها و أهل الزجر في الطير و السباع و أهل الطرق بالحصى و الحبوب من الحنطة و النوى و هذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها و لا إنكارها و كذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها و كذلك النائم و الميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب و كذلك أهل الرياضيات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. و نحن الآن نتكلم عن هذه الإدراكات كلها و نبتدئ منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدةً واحدةً إلى آخرها و نقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الأنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها و ذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة إلى الفعل بالبدن و أحواله و هذا أمر مدرك لكل أحد و كل ما بالقوة فله مادة و صورة و صورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و قبول الصور الكلية و الجزئية ثم يتم نشؤها و وجودها بالفعل بمصاحبة البدن و ما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها و ما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك و التعقل بالفعل فتتم ذاتها و تبقى النفس كالهيولى و الصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة و لذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم و لا بكشف و لا بغيرهما و ذلك أن صورتها التي هي عين ذاتها و هي الإدراك و التعقل لم تتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية و إدراك بذاتها من غير واسطة و هي محجوبة عنه بالانغماس في البدن و الحواس و بشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولاً من الإدراك الجسماني و ربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظةً إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة و الطرق أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ لما بين أفقها و أفقهم من الاتصال في الوجود كما قررنا قبل و تلك الذوات روحانية و هي إدراك محض و عقول بالفعل و فيها صور الموجودات و حقائقها كما مر فيتجلى فيها شيء من تلك الصور و تقتبس منها علوماً و ربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. و لنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه. فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا و طساس المياه و قلوب الحيوان و أكبادها و عظامها و أهل الطرق بالحصى و النوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة و هؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد منها و أشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه و ربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة و ليس كذلك بل لا يزالون ينفرون في سطح