الفصل الرابع و الثلاثون في مراتب الملك و السلطان و ألقابها

إعلم أن السلطان في نفسه ضعيف يحمل أمراً ثقيلاً فلا بد له من الاستعانة بأبناء جنسه و إذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه و سائر مهنه فما ظنك بسياسة نوعه و من استرعاه الله من خلقه و عباده و هو محتاج إلى حماية الكافة من عدوهم بالمدافعة عنهم و إلى كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم و كف عدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم و إلى حملهم على مصالحهم و ما تعمهم به البلوى في معاشهم و معاملاتهم من تفقد المعايش و المكاييل و الموازين حذراً من التطفيف و إلى النظر في السكة بحفظ النقود التي يتعاملون بها من الغش و إلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له و الرضى بمقاصده منهم و انفراده بالمجد دونهم فيتحمل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب قال بعض الأشراف من الحكماء: لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون على من معاناة قلوب الرجال ثم إن الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتم المشاكلة في الاستعانة قال تعالى واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري و هو إما أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجابه عن الناس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النظر في مهماتهم أو يدفع النظر في الملك كله و يعول على كفايته في ذلك و اضطلاعه فلذلك قد توجد في رجل واحد و قد تفترق في أشخاص و قد يتفرع كل واحد منها إلى فروع كثيرة كالقلم يتفرع إلى قلم الرسائل و المخاطبات و قلم الصكوك و الإقطاعات و إلى قلم المحاسبات و هو صاحب الجباية و العطاء و ديوان الجيش و كالسيف يتفرع إلى صاحب الحرب و صاحب الشرطة و صاحب البريد و ولاية الثغور ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدين و الدنيا كما قدمناه فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها و موجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلق الحكم الشرعية بجميع أفعال العباد و الفقية ينظر في مرتبة الملك و السلطان و شروط تقليدها استبدادا على الخلافة و هو معنى السلطان أو تعويضاً منها و هو معنى الوزارة عندهم كما يأتي و في نظره في الأحكام و الأقوال و سائر السياسات مطلقاً أو مقيداً و في موجبات العزل إن عرضت و غير ذلك مني معاني الملك و السلطان و كذا في سائر الوظائف التي تحت الملك و السلطان من وزارة أو جباية أو ولاية لا بد للفقيه من النظر في جميع ذلك كما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإسلامية على رتبة الملك و السلطان إلا أن كلامنا في وظائف الملك و السلطان و رتبته إنما هو بمقتضى طبيعة العمران و وجود البشر لا بما يخصها من أحكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية مع أنها مستوفاة في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماوردي و غيره من أعلام الفقهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك و إنما تكلمنا في الوظائف الخلافية و أفردناها لنمير بينها و بين الوظائف السلطانية فقط لا لتحقيق أحكامها الشرعية فليس من غرض كتابنا و إنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنساني و الله الموفق.

الوزارة:
و هي أهم الخطط السلطانية و الرتب الملوكية لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة فإن الوزارة مأخوذة إما من المؤازرة و هي المعاونة أو من الوزر و هو الثقل كأنه يحمل مع مفاعله أوزاره و أثقاله و هو راجع إلى المعاونة المطلقة و قد كنا قدمنا في أول الفصل أن أحوال السلطان و تصرفاته لا تعدو أربعةً لأنها إما أن تكون في أمور حماية الكافة و أسبابها من النظر في الجد و السلاح و الحروب و سائر أمور الحماية و المطالبة و صاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدول القديمة بالمشرق و لهذا العهد بالمغرب و إما أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في أمور جباية المال و إنفاقه و ضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضبطة و صاحب هذا هو صاحب المال و الجباية و هو المسمى بالوزير لهذا العهد بالمشرق و إما أن يكون في مدافعة الناس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه و هذا راجع لصاحب الباب الذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. و كل خطة أو رتبة من رتب الملك و السلطان فإليها ترجع. إلا أن الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامة فيما تحت يد السلطان من ذلك الصنف إذ هو يقتضي مباشر السلطان دائماً و مشاركته في كل صنف من أحوال ملكه و أما ما كان خاصاً ببعض الناس أو ببعض الجهات فيكون دون الرتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصة أو النظر في أمر خاص كحسبة الطعام أو النظر في السكة فإن هذه كلها نظر في أحوال خاصة فيكون صاحبها تبعاً لأهل النظر العام و تكون رتبته مرؤوسة لأولئك. و ما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتى جاء الإسلام و صار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلما بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعي من المعاونة بالرأي و المفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بد منه فكان صلى الله عليه و سلم يشاور أصحابه و يفاوضهم في مهماته العامة و الخاصة و يخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى حتى كان العرب الذين عرفوا الدول و أحوالها في كسرى و قيصر و النجاشي يسمون أبا بكر وزيره و لم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام و كذا عمر مع أبي بكر و علي في و عثمان مع عمر و أما حال الجباية و الإنفاق و الحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأن القوم كانوا عرباً أميين لا يحسنون الكتاب و الحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب أو أفراداً من موالي العجم ممن يجيده و كان قليلاً فيهم و أما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأن الأمية كانت صفتهم التي امتازوا بها و كذا حال المخاطبات و تنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصة للامية التي كانت فيهم و الأمانة العامة في كتمان القول و تأديته و لم تخرج السياسة إلى اختياره لأن الخلافة إنما هي دين ليست من السياسة الملكية في شيء و أيضاً فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد لخليفة أحسنها لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات و لم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عن له من يحسنه و أما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظوراً بالشريعة فلم يفعلوه فلما انقلبت الخلافة إلى الملك و جاءت رسوم السلطان و ألقابه
كان أول شيء بديء به في الدولة شأن الباب و سده دون الجهور بما كانوا يخشون عن أنفسهم من اغتيال الخوارج و غيرهم كما وقع بعمر و علي و معاوية و عمر بن العاص و غيرهم مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم و شغلهم بهم عن المهمات فاتخذوا من يقوهم لهم بذلك و سموه الحاجب و قد جاء أن عبد الملك لما ولي حاجبه قال له قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة المؤذن للصلاة فإنه داعي الله و صاحب البريد فأمر ما جاء به و صاحب الطعام لئلا يفسد ثم استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور و المعين في أمور القبائل و العصائب و استئلافهم و أطلق عليه اسم الوزير و بقي أمر الحسبان في الموالي و الذميين و أتخذ للسجلات كاتب مخصوص حوطةً على أسرار السلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه و لم يكن بمثابة الوزير لأنه إنما احتيج له من حيث الخط و الكتاب لا من حيث اللسان الذي هو الكلام إذ اللسان لذلك العهد على حاله لم يفسد فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أمية فكان النظر للوزير عاما في أحوال التدبير و المفاوضات و سائر أمور الحمايات و المطالبات و ما يتبعها من النظر في ديوان الجند و فرض العطاء بالأهلية و غير ذلك فلما جاءت دولة بني العباس
و استفحل الملك و عظمت مراتبه و ارتفعت و عظم شأن الوزير و صارت إليه النيابة في إنفاذ الحل و العقد تعينت مرتبته في الدولة و عنت لها الوجوه و خضعت لها الرقاب و جعل لها النظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النظر في جمعه و تفريقه و أضيف إليه النظر فيه ثم جعل له النظر في القلم و الترسيل لصون أسرار السلطان و لحفظ البلاغة لما كان اللسان قد فسد عند الجمهور و جعل الخاتم لسجلات السلطان ليحفظها من الذياع و الشياع و دفع إليه فصار اسم الوزير جامعاً لخطتي السيف و القلم و سائر معالي الوزارة و المعاونة حتى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسلطان أيام الرشيد إشارة إلى عموم نظره و قيامه بالدولة و لم يخرج عنه من الرتب السلطانية كلها إلا الحجابة التي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك ثم جاء في الدولة العباسية شأن الاستبداد على السلطان و تعاور فيها استبداد الوزارة مرة و السلطان أخرى و صار الوزير إذا استبد محتاجاً إلى استنابة الخليفة إياه لذلك لتصح الأحكام الشرعية و تجيء على حالها كما تقدمت فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ و هي حال ما يكون السلطان قائماً على نفسه و إلى وزارة تفويض و هي حال ما يكون الوزير مستبداً عليه ثم استمر الاستبداد و صار الأمر لملوك العجم و تعطل رسم الخلافة و لم يكن لأولئك المتغلبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة و استنكفوا من مشاركة الوزراء في اللقب لأنهم خول لهم فتسموا بالإمارة و السلطان و كأن المستبد على الدولة يسمى أمير الأمراء أو بالسلطاني إلى ما يحليه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم و تركوا اسم الوزارة إلى من يتولاها للخليفة في خاصته
و لم يزل هذا الشأن عندهم إلى آخر دولتهم و فسد اللسان خلال ذلك كله و صارت صناعة ينتحلها بعض الناس فامتهنت و ترفع الوزراء عنها لذلك و لأنهم عجم و ليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخير لها من سائر الطبقات و اختصت به و صارت خادمة للوزير و اختص اسم الأمير بصاحب الحروب و الجند و ما يرجع إليها و يده مع ذلك عالية على أهل الرتب و أمره نافذ في الكل إما نيابة أو استبداداً و استمر الأمر على هذا ثم جاءت دولة الترك آخراً بمصر فرأوا أن الوزارة قد ابتذلت بترفع أولئك عنها و دفعها لمن يقوهم بها للخليفة المحجور و نظره مع ذلك فتعقب بنظر الأمير فصارت مرؤوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرتبة المالية في الدولة عن اسم الوزارة و صار صاحب الأحكام و النظر في الجند يسمى عندهم بالنائب لهذا العهد و بقي اسم الحاجب في مدلوله و اختص اسم الوزير عندهم بالنظر في الجباية. و أما دولة بني أمية بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة ثم قسموا خطته أصنافاً و أفردواً لكل صنف وزيراً فجعلوا لحسبان المال وزيراً و للترسيل وزيراً و للنظر في حوائج المتظلمين وزيراً و للنظر في أحوال أهل الثغور وزيراً و جعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم و ينفذون أمر السلطان هناك كل فيما جعل له و أفرد للتردد بينهم و بين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم و خصوه باسم الحاجب و لم يزل الشأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطة الحاجب و مرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمى الحاجب كما نذكره ثم جاءت دولة الشيعة بإفريقية و القيروان و كان للقائمين بها رسوخ في البداوة فاغفلوا أمر هذه الخطط أولاً و تنقيح أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم، و لما جاءت دولة الموحدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أولا للبداوة ثم صارت إلى انتحال الأسماء و الألقاب و كان اسم الوزير في مدلوله ثم اتبعوا دولة الأمويين و قلدوها في مذاهب السلطان و اختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه و يقف بالوفود و الداخلين على السلطان عند الحدود في تحيتهم و خطابهم و الآداب التي تلزم في الكون بين يديه و رفعوا خطة الحجابة عنه ما شاءوا و لم يزل الشأن ذلك إلى هذا العهد و أما في دولة الترك بالمشرق فيسمون هذا الذي يقف بالناس على حدود الآداب في اللقاء و التحية في مجالس السلطان
و التقدم بالوفود بين يدي الدويدار و يضيفون إليه استتباع كاتب السر و أصحاب البريد المتصرفين في حاجات السلطان بالقاصية و بالحاضرة و حالهم على ذلك لهذا العهد و الله مولي الأمور لمن يشاء. الحجابة: قد قدمنا أن هذا اللقب كان مخصوصاً في الدولة الأموية و العباسية بمن يحجب السلطان عن العامة و يغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته و كانت هذه منزلة يوماً عن الخطط مرؤوسة لها إذ الوزير متصرف فيها بما يراه و هكذا كانت سائر أيام بنى العباس لم إلى هذا المهد فهي بمصر مرؤوسة لصاحب الخطة العليا المسمى بالنائب. و أما في الدولة الأموية بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السلطان عن الخاصة و العامة و يكون واسطة بينه و بين الوزراء فمن دونهم فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد و غير من حجابهم ثم لما جاء الاستبداد على الدولة اختص المستبد باسم الحجابة لشرفها فكان المنصور بن أبي عامر و أبناوه كذلك و لما بدوا في مظاهر الملك و أطواره جاء من بعدهم من ملوك الطوائف فلم يتركوا لقبها و كانوا يعدونه شرفاً لهم و كان أعظمهم ملكاً بعد انتحال ألقاب الملك و أسمائه لا بد له من ذكر الحاجب و ذي الوزارتين يعنون به السيف و القلم