( قيادة الأساطيل ): و هي من مراتب الدولة و خططها في ملك المغرب و أفريقية و مرؤسة لصاحب السيف و تحت حكمه في كثير من الأحوال و يسمى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللام منقولاً من لغة الإفرنجة فإنه اسمها في اصطلاح لغتهم و إنما اختصت هذه المرتبة بملك أفريقية و المغرب لأنهما جميعاً على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب و على ع***ه الجنوبية بلاد البربر كلهم من سبتة إلى الشام و على ع***ه الشمالية بلاد الأندلس و الإفرنجة و الصقالبة و الروم إلى بلاد الشام أيضاً و يسمى البحر الرومي و البحر الشامي نسبةً إلى أهل ع***ه و الساكنون بسيف هذا البحر و سواحله من ع***يه يعانون من أحواله مالا تعانيه أمة من أمم البحار فقد كانت الروم و الإفرنجة و القوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي و كانت أكثر حروبهم و متاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه و الحرب في أساطيله و لما أسف من أسف منهم إلى تلك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى أفريقية و القوط إلى المغرب أجازوا في الأساطيل و ملكوها و تغلبوا على البربر بها و انتزعوا من أيديهم أمرها و كان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة و سبيطلة و جلولاء و مرناق و شرشال و طنجة و كان صاحب قرطاجنة من قبليهم يحارب صاحب رومة و يبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر و المدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم و الحديث و لما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن ( صف لي البحر ) فكتب إليه: ( إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود ) فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه و لم يركبه أحد من العرب إلا من افتات على عمر في ركوبه و نال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمال فبلغه غزوه في البحر فأنكر عليه و عنفه أنه ركب البحر للغزو و لم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه و الجهاد على أعواده و السبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته و ركوبه و الروم و الإفرنجة لممارستهم أحواله و مرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه و أحكموا الدراية بثقافته فلما استقر الملك للعرب و شمخ سلطانهم و صارت أمم العجم خولا لهم و تحت أيديهم و تقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته و استخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً و تكررت ممارستهم للبحر و ثقافته و استحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه و أنشأوا السفن فيه و الشواني و شحنوا الأساطيل بالرجال و السلاح و أمطوها العساكر و المقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر و اختصوا بذلك من ممالكهم و ثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر و على حافته مثل الشام و أفريقية و المغرب و الأندلس و أوعز الخليفة عند الملك إلى حسان بن النعمان عامل أفريقية باتخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصاً على مراسم الجهاد و منها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا و فتح قوصرة أيضاً في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه و فتحت على يد ابن الأغلب و قائده أسد بن الفرات و كانت من بعد ذلك أساطيل أفريقية و الأندلس في دولة العبيديين و الأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السواحل بالإفساد و التخريب. و انتهي أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها و أسطول أفريقية كذلك مثله أو قريباً منه و كان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس و مرفأها للخط و الإقلاع بجاية و المرية و كانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كل بلد تتخذ فيه السفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه و سلاحه و مقاتلته و رئيس يدبر أمر جزيته بالريح أو بالمجاذيف و أمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم و شحنها السلطان برجاله و أنجاد عساكره و مواليه و جعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلهم إليه ثم يسرحهم لوجههم
و ينتظر إيابهم الفتح و الغنيمة و كان المسلمون لعهده الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه و عظمت صولتهم و سلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشي من جوانبه و امتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح و الغنائم و ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة و منورقة و يابسة و سردانية و صقلية و قوصرة و مالطة و أقريطش و قبرص و سائر ممالك الروم و الإفرنج و كان أبو القاسم الشيعي و أبناوه يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر و الغنيمة و افتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيل سنة خمس و أربعمائة و ارتجعها النصارى لوقتها و المسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثير من لجة هذا البحر و صارت أساطيلهم فيهم جائية و ذاهبة و العساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية فتوقع بملوك الإفرنج و تثخن في ممالكهم كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين و انحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجالب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة و الصقالبة و جزائر الرومانية لا يعدونها و أساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته و قد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة و عدداً و اختلفت في طرقه سلماً و حرباً فلم تظهر للنصرانية فيه ألواح حتى إذا أدرك الدولة العبيدية و الأموية الفشل و الوهن و طرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية و إقريطش و مالطة فملكوها ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة و ملكوا طرابلس و عسقلان و صور و عكاء و استولوا على جميع الثغور بسواحل الشام و غلبوا على بيت المقدس و بنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم و عبادتهم و غلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس و صفاقس و وضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري
و كانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر و ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر و الشام إلى أن انقطع و لم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو تجاوزت في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك و بقيت بأفريقية و المغرب فصارت مختصة بها و كان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيفه عدو و لا كانت لهم به كرة فكال قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس و من أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم و طاعتهم و انتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد الع***ين جميعاً. و لما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة و ملكوا الع***ين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف و أعظم ما عهد و كان قائد أسطولهم أحمد الصقلي أصله من صد غيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النصارى من سواحلها و ربي عندهم و استخلصه صاحب صقلية و استكفاه ثم هلك، و ولي الجنة فأسخطه ببعض النزعات و خشي على نفسه و لحق بتونس و نزل على السند بها من بنى عبد المؤمن و أجاز مراكش فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة و الكرامة و أجزل الصلة و قلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية و كانت له آثار و أخبار و مقامات مذكورة في دولة الموحدين. و انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة و الاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل و لا بعد فيما عهدناه و لما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر و الشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية و تطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه فأمدوهم بالعدد و الأقوات و لم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحرية
و تعدد أساطيلهم فيه و ضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب فمنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من ملوك بني منقذ ملوك شيزر، و كان ملكها من أيديهم و أبقى عليهم في دولته فبعث عند الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالباً مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب و بين مرامهم من أمداد النصرانية بثغور الشام و أصحبه كتابة إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه ( فتح الله لسيدنا أبواب المناحج و الميامن ) حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القيسي فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين و أسرها في نفسه و حملهم على مناهج البر و الكرامة و ردهم إلى مرسلهم و لم يجبه إلى حاجته من ذلك و في هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل و ما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الاستطالة و عدم عناية الدول بمصر و الشام لذلك العهد و ما بعده لشأن الأساطيل البحرية و الاستعداد منها للدولة و لما هلك أبو يعقوب المنصور و اعتلت دولة الموحدين و استولت أمهم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس و ألجأوا المسلمين إلى سيف البحر و ملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي في من البحر الرومي قويت ريحهم في بسيط هذا البحر و اشتدت شوكتهم و كثرت فيه أساطيلهم و تراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية و عديدهم ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة و نسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب و انقطاع الموائد الأندلسية و رجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه و المران عليه و البصر بأحواله و غلب الأمم في لجته على أعواده و صار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلاً من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار و الأعوال أو قلة من الدولة تستجيش لهم أعواناً و ترضع لهم في هذا الغرض مسلكاً و بقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة و الرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء و الركوب مهوداً لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية و المسلمون يستهبون الريح على الكفر و أهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية و افتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة و أن ذلك يكون في الأساطيل و الله و لي المؤمنين و هو حسبنا و نعم الوكيل.