الفصل السادس و الثلاثون في شارات الملك و السلطان الخاصة به

إعلم أن للسلطان شارات و أحوالاً تقتضيها الأبهة و البذخ فيختص بها و يتميز بانتحالها عن الرعية و البطالة و سائر الرؤساء في دولته فنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة ( و فوق كل ذي علم عليم ).
الآلة:
فمن شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية و الرايات و قرع الطبول و النفخ في الأبواق و القرون و قد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة و لعمري أنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه و هذا السبب الذي ذكره أرسطو أن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات. و أما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم و الأصوات يدركها الفرح و الطرب بلا شك فتصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب و يستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه و هذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء و الخيل بالصفير و الصريخ كما علمت و يريد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء و أنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية لا طبلاً و لا بوقاً فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم و يغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة و لقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر و يطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها و يسارعون إلى مجال الحرب و ينبعث كل قرن إلى قرنه و كذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف و يتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي و يبعث على الاستماتة من لا يظن بها و يسمون ذلك الغناء تاصو كايت و أصله كأنه فرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخبر بما حدث عنها من الفرح و الله أعلم
و أما تكثير الرايات و تلوينها و إطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر و بما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام و أحوال النفوس و تنويعاتها غريبة و الله الخلاق العليم. ثم أن الملوك و الدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر و منهم مقلل بحسب أتساع الدولة و عظمها فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة و لم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب و الغزوات لعهد النبي صلى الله عليه و سلم و من بعده من الخلفاء. و أما قرع الطبول النفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزها عن غلظة الملك و رفضاً لأحواله و احتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء حتى إذا انقلبت الخلافة ملكاً و تبجحوا بزهرة الدنيا و نعيمها و لا بسهم الموالي من الفرس و الروم أهل الدول السالفة و أروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ و الترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها و أذنوا لعمالهم في أتخاذها تنويهاً بالملك و أهله فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش و يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه و يخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات و الآلات فلا يميز بين موكب العامل و الخليفة إلا بكثرة الألوية و قلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم و نعياً على بني أمية في قتلهم و لذلك سموا المسودة، و لما افترق أمر الهاشميين و خرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة و عصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً و سموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين و من خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان و داعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من غيرهم كالقرامطة. و لما نزع المأمون عن لبس السواد و شعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء. و أما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد و قد كانت أنه العبيدبين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود و خمسمائة من الأبواق. و أما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة و غيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب و اتخذوها من الحرير الخالص ملونة و استمروا على الإذن فيها لعمالهم حتى إذا جاءت دولة الموحدين و من بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطبول و البنود على السلطان و حظروها على من سواه من عماله و جعلوا لها موكبا خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة و هم فيه بين مكر و مقل باختلاف مذاهب الدول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبركاً بالسنة كما هو في دولة الموحدين و بني الأحمر بالأندلس و منهم من يبلغ العشرة و العشرين كما هو عند زناتة و قد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول و مائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير و صغير و يأذنون للولاة و العمال و القواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء و طبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك و أما دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون راية واحدة عظيمة و في رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش و الجتر و هي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات و يسمونها السناجق واحدها سنجق و هي الراية بلسانهم. و أما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها و يسمونها الكوسات و يبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان.
و أما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً و معها قرع الأوتار من الطنابير و نفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء و طريقه في مواطن حروبهم هكذا يبلغنا عنهم و عمن وراءهم من ملوك العجم و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين.

السرير:
و أما السرير و المنبر و التخت و الكرسي، فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد و لم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام و في دول العجم و قد كانوا يجلسون على أسرة الذهب و كان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما و سلامه كرسي و سرير من عاج مغشى بالذهب إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال و الترف شأن الأبهة كلها كما قلناه و أما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوقون إليه و أول من أتخذه في الإسلام معاوية و استأذن الناس فيه و قال لهم إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه و أتبعه الملوك الإسلاميون فيه و صار من منازع الأبهة و لقد كان عمرو بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب و يأتيه المقوقس إلى قصره و معه سرير من الذهب محمولاً على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه و هو أمامه و لا يغيرون عليه وفاءً له بما عقد معهم من الذمة و اطراحاً لأبهة الملك ثم كان بعد ذلك لبني العباس و العبيديين و سائر ملوك الإسلام شرقاً و غرباً من الأسرة و المنابر و التخوت ما عفا عن الأكاسرة و القياصرة و الله مقلب الليل و النهار.
السكة:
و هي الختم على الدنانير و الدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة و يضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرةً مستقيمةً بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى و بعد تقدير أشخاص الدراهم و الدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً و أن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً و لفظ السكة كان ا سماً للطابع و هي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها و هي النقوش الماثلة على الدنانير و الدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك و النظر في استيفاء حاجاته و شروطه و هي الوظيفة فصار علماً عليها في عرف الدول و هي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات و يتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة و كان ملوك العجم يتخذونها و ينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك و لم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم و لما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين و بداوة العرب و كانوا يتعاملون بالذهب و الفضة وزناً و كانت دنانير الفرس و دراهمهم بين أيديهم و يردونها في معاملتهم إلى الوزن و يتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير و الدراهم لغفلة الدولة عن ذلك
و أمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب و أبو الزناد بضرب الدراهم و تمييز المغشوش من الخالص و ذلك سنة أربع و سبعين و قال المدائني سنة خمس و سبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست و سبعين و كتب عليها الله أحد الله الصمد ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسري في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده و قيل أول من ضرب الدنانير و الدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز و كتب عليها في أحد الوجهين بركة الله و في الآخر اسم الله ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة و كتب عليها اسم الحجاج و قدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر و ذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق و المثقال وزنه درهم و ثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل و كان السبب في ذلك أن أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة
و كان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً و منها اثنا عشر و منها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط و ذلك اثنا عشر قيراطاً فكان المثقال درهماً و ثلاثة أسباع درهم و قيل كان منها البغلي بثمانية دوانق و الطبري أربعة دوانق و المغربي ثمانية دوانق و اليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي و الطبري اثني عشر دانقاً و كان الدرهم ستة دوانق و إن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً و إذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه و اتخذ فيه كلمات لا صوراً، لأن العرب كان الكلام و البلاغة أقرب مناحيهم و أظهرها مع أن الشرع ينهى عن الصور فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها و كان الدينار و الدرهم على شكلين مدورين و الكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً و تحميداً و صلاة على النبي و آله و في الوجه الثاني التاريخ و اسم الخليفة و هكذا أيام العباسيين و العبيديين و الأمويين و أما صنهاجة فلم يتخذوا سكةً إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه و لما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ السكة الدرهم مربع الشكل و أن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه و يملأ من أحد الجانبين تهليلاً و تحميداً من الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه و اسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون و كانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد و لقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته و أما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة و إنما يتعاملون بالدنانير و الدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها و لا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل و الصلاة و اسم السلطان كما يفعله أهل المغرب ذلك تقدير العزيز العليم. و لنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم و الدينار الشرعيين و بيان حقيقة مقدارهما.