فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام و التووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة و غضوا الأبصار فإنه أربط للجأش و أسكن للقلوب و اخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار و أقيموا راياتكم فلا تميلوها و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم و استعينوا بالصدق و الصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر و قال الأشتر يومئذ يحرص الأزد: عضوا على النواجذ من الأضراس و استقبلوا القوم بهامكم و شدوا شدة قوم موتورين من يثأرون بآبائهم و إخوانهم حناقاً على عدوهم و قد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر و لا يلحقهم في الدنيا عار و قد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة و أهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف و يصف ثباته في حرب شهدها و يذكره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها.
يا أيها الملأ الذي يتقنعمن منكم الملك الهمام الأروع و من الذي غدر العدو به دجى فانفض كل و هو لا يتزعزع تمضي الفوارس و الطعان يصدها عنه و يدمرها الوفاء فترجع و الليل من وضح الترائك إنهصبح على هام الجيوش يلمع أنى فزعتم يا بني صنهاجةو إليكم في الروع كان المفزع إنسان عين لم يصبها منكمحضن و قلب أسلمته الأضلع و صددتم عن تاشفين و إنهلعقابه لو شاء فيكم موضع ما أنتم إلا أسود خفية كل لكل كريهة مستطلع
يا تاشفين أقم لجيشك عذرهبالليل و العذر الذي لا يدفع
و منها في سياسة الحرب
أهديك من أدب السياسة ما به كانت ملوك الفرس قبلك تولع لا إنني أدري بها لكنها ذكرى تحض المؤمنين و تنفع و البس من الحلق المضاعفة التي وصى بها صنع الصنائع تبع و الهندواني الرقيق فإنهأمضى على حد الدلاص و أقطع و اركب من الخيل السوابق عدة حصناً حصيناً ليس فيه مدفع خندق عليك إذا ضربت محلة سيان تتبع ظافراً أو تتبع و الواد لا تعبره و انزل عنده بين العدو و بين جيشك يقطع و اجعل مناجزة الجيوش عشية و وراءك الصدق الذي هو أمنع و إذا تضايقت الجيوش بمعرك ضنك فأطراف الرماح توشع و اصدمه أول وهلة لا تكترث شيئاً فإظهار النكول يضعضع و اجعل من الطلاع أهل شهامة للصدق فيهم شيمة لا تخدع لا تسمع الكذاب جاءك مرجفاً لا رأي للكذاب فيما يصنع
قوله : و اصدمه أول وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب

فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس و العراق فقال له اسمع و أطع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أشركهم في الأمر و لا تجيبن مسرعاً حتى تتبين فإنها الحرب و لا يصلح لها الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة و الكف و قال له في أخرى: إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته في الحرب و في التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع و الله لولا ذلك لأمرته لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث هذا كلام عمر و هو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتى يتبين حال تلك الحرب و ذلك عكس ما قاله الصيرفي إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه و الله تعالى اعلم. و لا وثوق في الحرب بالظفر و إن حصلت أسبابه من العدة و العديد و إنما الظفر فيها و الغلب من قبيل البحث و الإتفاق و بيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة و هي الجيوش و وفورها و كمال الأسلحة و استجادتها و كثرة الشجعان و ترتيب المصاف و منه صدق القتال و ما جرى مجرى ذلك و من أمور خفية و هي إما خداع البشر و حيلهم في الإرجاف و التشانيع التي يقع بها التخذيل و في التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوههم المنخفض لذلك و في الكمون في الغياض و مطمئن الأرض و التواري بالكدى حول العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة و قد تورطوا فيتلفتون إلى النجاة و أمثال ذلك و إما أن تكون تلك الأسباب الخفية أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة و أكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصاً على الغلب فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة و لذلك قال صلى الله عليه و سلم: الحرب خدعة و من أمثال العرب رب حيلة أنفع من قبيلة فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة و وقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه فاعتبره
و تفهم من وقع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه معنى قوله صلى الله عليه و سلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر و ما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل و غلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإن الله سبحانه و تعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم فينهرموا معجزة لرسوله صلى الله عليه و سلم فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها أنه خفي عن العيون. و قد ذكر الطرطوشي: أن من أسباب الغلب في الحرب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير و في الجالب الآخر ثمانية أو ستة عشر فالجانب الزائد و لو بواحد يكون له الغلب و أعاد في ذلك و أبدى و هو راجع إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا و ليس بصحيح. و إنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم و في الجانب الآخر عصائب متعددة لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد و يكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهمه و اعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي و لم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلة و بلدة و أنهم إنما يرون ذلك الدفاع و الحماية و المطالبة إلى الوحدان و الجماعة الناشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبية و لا نسباً و قد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا و أمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش في العدة و صدق القتال و كثرة الأسلحة و ما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب و نحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لا يعارض الأسباب الخفية من الحيل و الخداع و لا الأمور السماوية من الرعب و الخذلان الإلهي فافهمه و تفهم أحوال الكون و الله مقدر الليل و النهار. و يلحق بمعنى الغلب في الحروب و أن أسبابه خفية و غير طبيعية حال الشهرة و الصيت فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك و العلماء و الصالحين و المنتحلين للفصائل على العموم و كثير ممن اشتهر بالشر و هو بخلافه و كثير ممن تجاوزت عنه الشهرة و هو أحق بها و أهلها و قد تصادف موضعها و تكون طبقاً على صاحبها و السبب في ذلك أن الشهرة و الصيت إنما هما بالإخبار و الإخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل و يدخلها التعصب و التشييع و يدخلها الأوهام و يدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس و التصنع أو لجهل الناقل و يدخلها التقرب لأصحاب التجلة و المراتب الدنيوية بالثناء و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك و النفوس مولعة بحب الثناء و الناس متطاولون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة و ليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل و لا منافسين في أهلها و أين مطابقة الحق مع هذه كلها فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه و تكون غير مطابقة و كل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.